فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41)} كرّر ذلك الرجل المؤمن دعاءهم إلى الله، وصرّح بإيمانه، ولم يسلك المسالك المتقدّمة من إيهامه لهم أنه منهم، وأنه إنما تصدّى التذكير كراهة أن يصيبهم بعض ما توعدهم به موسى كما يقوله الرجل المحبّ لقومه من التحذير عن الوقوع فيما يخاف عليهم الوقوع فيه، فقال: {وياقوم مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النجاة وَتَدْعُونَنِى إِلَى النار} أي: أخبروني عنكم كيف هذه الحال: أدعوكم إلى النجاة من النار، ودخول الجنة بالإيمان بالله، وإجابة رسله، وتدعونني إلى النار بما تريدونه مني من الشرك.
قيل: معنى {مَا لِى أَدْعُوكُمْ} ما لكم أدعوكم؟ كما تقول: ما لي أراك حزينًا، أي: ما لك.
ثم فسر الدعوتين، فقال: {تَدْعُونَنِى لأَكْفُرَ بالله وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ} فقوله: تدعونني بدل من تدعونني الأولى، أو بيان لها {مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ} أي: ما لا علم لي بكونه شريكًا لله {وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى العزيز الغفار} أي: إلى العزيز في انتقامه ممن كفر {الغفار} لذنب من آمن به.
{لاَ جَرَمَ} قد تقدّم تفسير هذا في سورة هود، وجرم فعل ماض بمعنى: حقّ، ولا الداخلة عليه لنفي ما ادّعوه، وردّ ما زعموه، وفاعل هذا الفعل هو: قوله: {أَنَّمَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ في الدنيا وَلاَ في الأخرة} أي: حقّ، ووجب بطلان دعوته.
قال الزجاج: معناه: ليس له استجابة دعوة تنفع.
وقيل: ليس له دعوة توجب له الألوهية في الدنيا، ولا في الآخرة.
وقال الكلبي: ليس له شفاعة {وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى الله} أي: مرجعنا، ومصيرنا إليه بالموت أوّلًا، وبالبعث آخرًا، فيجازي كل أحد بما يستحقه من خير، وشرّ {وَأَنَّ المسرفين هُمْ أصحاب النار} أي: المستكثرين من معاصي الله.
قال قتادة، وابن سيرين: يعني: المشركين.
وقال مجاهد، والشعبي: هم السفهاء السفاكون للدّماء بغير حقها.
وقال عكرمة: الجبارون، والمتكبرون.
وقيل: هم الذين تعدّوا حدود الله، {وأن} في الموضعين عطف على أن في قوله: {أَنَّمَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ} والمعنى: وحقّ أن مردّنا إلى الله، وحقّ أن المسرفين إلخ {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ} إذا نزل بكم العذاب، وتعلمون أني قد بالغت في نصحكم، وتذكيركم، وفي هذا الإبهام من التخويف، والتهديد ما لا يخفى {وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى الله} أي: أتوكل عليه، وأسلم أمري إليه.
قيل: إنه قال هذا لما أرادوا الإيقاع به.
قال مقاتل: هرب هذا المؤمن إلى الجبل، فلم يقدروا عليه.
وقيل: القائل هو: موسى، والأوّل أولى.
{فَوقَاهُ الله سَيّئَاتِ مَا مَكَرُواْ} أي: وقاه الله ما أرادوا به من المكر السيّىء، وما أرادوه به من الشرّ.
قال قتادة: نجاه الله مع بني إسرائيل {وَحَاقَ بِئَالِ فِرْعَوْنَ سُوء العذاب} أي: أحاط بهم، ونزل عليهم سوء العذاب.
قال الكسائي: يقال: حاق يحيق حيقًا، وحيوقًا: إذا نزل، ولزم.
قال الكلبي: غرقوا في البحر، ودخلوا النار، والمراد بآل فرعون: فرعون، وقومه، وترك التصريح به للاستغناء بذكرهم عن ذكره لكونه أولى بذلك منهم، أو المراد بآل فرعون فرعون نفسه.
والأوّل أولى؛ لأنهم قد عذبوا في الدنيا جميعًا بالغرق، وسيعذبون في الآخرة بالنار، ثم بيّن سبحانه ما أجمله من سوء العذاب، فقال: {النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} فارتفاع النار على أنها بدل من سوء العذاب.
وقيل: على أنها خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ، وخبره يعرضون، والأوّل أولى، ورجحه الزجاج، وعلى الوجهين الأخيرين تكون الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر.
وقرئ بالنصب على تقدير فعل يفسره يعرضون من حيث المعنى، أي: يصلون النار يعرضون عليها، أو على الاختصاص، وأجاز الفرّاء الخفض على البدل من العذاب.
وذهب الجمهور أن هذا العرض هو في البرزخ.
وقيل: هو في الآخرة.
قال الفرّاء: ويكون في الآية تقديم، وتأخير، أي: أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب النار يعرضون عليها غدوًّا، وعشيا، ولا ملجىء إلى هذا التكلف، فإن قوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أَدْخِلُواْ ءالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب} يدل دلالة واضحة على أن ذلك العرض هو في البرزخ، وقوله: {أَدْخِلُواْ} هو بتقدير القول، أي: يقال للملائكة: أدخلوا آل فرعون، و{أَشَدَّ العذاب} هو: عذاب النار.
قرأ حمزة، والكسائي، ونافع، وحفض: {أدخلوا} بفتح الهمزة، وكسر الخاء، وهو على تقدير القول كما ذكر.
وقرأ الباقون: {ادخلوا} بهمزة وصل من دخل يدخل أمرًا لآل فرعون بالدخول بتقدير حرف النداء، أي: ادخلوا يا آل فرعون أشدّ العذاب.
{وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ في النار} الظرف منصوب بإضمار اذكر.
والمعنى: اذكر لقومك وقت تخاصمهم في النار، ثم بيّن سبحانه هذا التخاصم، فقال: {فَيَقُولُ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا} عن الانقياد للأنبياء، والاتباع لهم، وهم: رؤساء الكفر {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} جمع لتابع، كخدم، وخادم، أو مصدر واقع موقع اسم الفاعل، أي: تابعين، أو على حذف مضاف، أي: ذوي تبع.
قال البصريون: التبع يكون واحدًا، ويكون جمعًا.
وقال الكوفيون: هو جمع لا واحد له {فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مّنَ النار} أي: هل تدفعون عنا نصيبًا منها، أو تحملونه معنا، وانتصاب {نصيبًا} بفعل مقدّر يدل عليه مغنون، أي: هل تدفعون عنا نصيبًا، أو تمنعون على تضمينه معنى حاملين، أي: هل أنتم حاملون معنا نصيبًا، أو على المصدرية.
{قَالَ الذين استكبروا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا} هذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر، والمعنى: إنا نحن، وأنتم جميعًا في جهنم، فكيف تغني عنكم.
قرأ الجمهور: {كلّ} بالرّفع على الابتداء، وخبره: {فِيهَا} والجملة خبر إن، قاله الأخفش.
وقرأ ابن السميفع، وعيسى بن عمر: {كلا} بالنصب.
قال الكسائي، والفراء على التأكيد لاسم إن بمعنى: كلنا، وتنوينه عوض عن المضاف إليه.
وقيل: على الحال، ورجحه ابن مالك {إِنَّ الله قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العباد} أي: قضى بينهم بأن فريقًا في الجنة، وفريقًا في السعير.
{وَقَالَ الذين في النار} من الأمم الكافرة، مستكبرهم، وضعيفهم {لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ} جمع خازن، وهو القوّام بتعذيب أهل النار {ادعوا رَبَّكُمْ يُخَفّفْ عَنَّا يَوْمًا مّنَ العذاب} يومًا ظرف؛ ليخفف، ومفعول يخفف محذوف، أي: يخفف عنا شيئًا من العذاب مقدار يوم، أو في يوم، وجملة {قَالُواْ أَوَلَمْ تَك تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بالبينات} مستأنفة جواب سؤال مقدّر، والاستفهام للتوبيخ، والتقريع {قَالُواْ بلى} أي: أتونا بها، فكذبناهم، ولم نؤمن بهم، ولا بما جاءوا به من الحجج الواضحة، فلما اعترفوا {قَالُواْ} أي: قال لهم الملائكة الذين هم: خزنة جهنم {فادعوا} أي: إذا كان الأمر كذلك، فادعوا أنتم، فإنا لا ندعو لمن كفر بالله، وكذّب رسله بعد مجيئهم بالحجج الواضحة.
ثم أخبروهم: بأن دعاءهم لا يفيد شيئًا، فقالوا: {وَمَا دُعَاء الكافرين إِلاَّ في ضلال} أي: في ضياع، وبطلان، وخسار، وتبار، وجملة: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين ءامَنُواْ} مستأنفة من جهته سبحانه، أي: نجعلهم الغالبين لأعدائهم القاهرين لهم، والموصول في محل نصب عطفًا على رسلنا، أي: لننصر رسلنا، وننصر الذين آمنوا معهم {فِي الحياة الدنيا} بما عوّدهم الله من الانتقام منهم بالقتل، والسلب، والأسر، والقهر {وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد} وهو: يوم القيامة.
قال زيد بن أسلم: الأشهاد هم: الملائكة، والنبيون.
وقال مجاهد، والسدّي: الأشهاد الملائكة تشهد للأنبياء بالإبلاغ، وعلى الأمم بالتكذيب.
قال الزجاج: الأشهاد جمع شاهد مثل صاحب، وأصحاب.
قال النحاس: ليس باب فاعل أن يجمع على أفعال، ولا يقاس عليه، ولكن ما جاء منه مسموعًا أدّى على ما يسمع، فهو على هذا جمع شهيد، مثل شريف، وأشراف، ومعنى نصرهم يوم يقوم الأشهاد: أن الله يجازيهم بأعمالهم، فيدخلهم الجنة، ويكرمهم بكراماته، ويجازي الكفار بأعمالهم، فيلعنهم، ويدخلهم النار، وهو معنى قوله: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللعنة} أي: البعد عن الرّحمة {وَلَهُمْ سُوء الدار} أي: النار، ويوم بدل من يوم يقوم الأشهاد، وإنما لم تنفعهم المعذرة؛ لأنها معذرة باطلة، وتعلة داحضة، وشبهة زائغة.
قرأ الجمهور: {تنفع} بالفوقية.
وقرأ نافع، والكوفيون بالتحتية، والكل جائز في اللغة.
وقد أخرج البخاريّ في تاريخه، وابن المنذر عن ابن مسعود في قوله: {وَأَنَّ المسرفين هُمْ أصحاب النار} قال: السفاكين للدّماء بغير حقها.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة، والعشيّ، إن كان من أهل الجنة، فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار، فمن أهل النار، يقال له: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة» زاد ابن مردويه: ثم قرأ {النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا}.
وأخرج البزار، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أحسن محسن مسلم، أو كافر إلا أثابه الله» قلنا: يا رسول الله ما إثابة الكافر؟ قال: «المال، والولد، والصحة، وأشباه ذلك» قلنا: وما إثابته في الآخرة؟ قال: «عذابًا دون العذاب» وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أدخلوا آل فرعون العذاب}.
وأخرج أحمد، والترمذي وحسنه، وابن أبي الدنيا، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ردّ عن عرض أخيه ردّ الله عن وجهه نار جهنم يوم القيامة، ثم تلا {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين ءامَنُواْ}» وأخرج ابن مردويه من حديث أبي هريرة مثله. اهـ.

.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21)} سبق أن أجملنا موضوع هذا الشوط من السورة. وقبل الاستعراض التفصيلي له نلاحظ أن هذه الحلقة من القصة تجيء هنا متمشية بموضوعها مع موضوع السورة، ومتمشية بطريقة التعبير فيها وأحيانًا بعباراتها ذاتها مع طريقة التعبير في السورة كذلك، وتكرر بعض عباراتها.. وعلى لسان الرجل المؤمن من آل فرعون ترد معان وتعبيرات وردت من قبل في السورة. فهو يذكر فرعون وهامان وقارون بأنهم يتقلبون في البلاد، ويحذرهم يومًا مثل يوم الأحزاب، كما يحذرهم يوم القيامة الذي عرضت مشاهده في مطالع السورة كذلك. ويتحدث عن الذين يجادلون في آيات الله ومقت الله لهم ومقت المؤمنين كما جاء ذلك في الشوط الأول. ثم يعرض السياق مشهدهم في النار أذلاء ضارعين يدعون فلا يستجاب لهم، كما عرض مشهد أمثالهم من قبل في السورة.
وهكذا وهكذا مما يوحي بأن منطق الإيمان ومنطق المؤمنين واحد، لأنه يستمد من الحق الواحد. ومما ينسق جو السورة، ويجعل لها شخصية موحدة الملامح. وهي الظاهرة الملحوظة في كل سور القرآن.
{أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارًا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب}.
هذا المعبر بين قصة موسى عليه السلام وموضوع السورة قبلها يذكر المجادلين في آيات الله من مشركي العرب بعبرة التاريخ قبلهم؛ ويوجههم إلى السير إلى الأرض، ورؤية مصارع الغابرين، الذين وقفوا موقفهم. وكانوا أشد منهم قوة وآثارًا في الأرض. ولكنهم مع هذه القوة والعمارة كانوا ضعافًا أمام بأس الله. وكانت ذنوبهم تعزلهم عن مصدر القوة الحقيقية، وتستعدي عليهم قوى الإيمان ومعها قوة الله العزيز القهار: {فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق}.. ولا واقي إلا الإيمان والعمل الصالح والوقوف في جبهة الإيمان والحق والصلاح. فأما التكذيب بالرسل وبالبينات فنهايته إلى الدمار والنكال: {ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب}.