فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فهو في الحقيقة ما دعا الله إلا باللسان، أما بالقلب فإنه معول في تحصيل ذلك المطلوب على غير الله، فهذا الإنسان ما دعا ربه في وقت، أما إذا دعا في وقت لا يبقى في القلب التفات إلى غير الله، فالظاهر أنه تحصل الاستجابة، إذا عرفت هذا ففيه بشارة كاملة، وهي أن انقطاع القلب بالكلية عما سوى الله لا يحصل إلا عند القرب من الموت، فإن الإنسان قاطع في ذلك الوقت بأنه لا ينفعه شيء سوى فضل الله تعالى، فعلى القانون الذي ذكرناه وجب أن يكون الدعاء في ذلك الوقت مقبولًا عند الله، ونرجو من فضل الله وإحسانه أن يوفقنا للدعاء المقرون بالإخلاص والتضرع في ذلك الوقت، واعلم أن الكلام المستقصى في الدعاء قد سبق ذكره في سورة البقرة.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخرين} أي صاغرين وهذا إحسان عظيم من الله تعالى حيث ذكر الوعيد الشديد على ترك الدعاء، فإن قيل روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال حكاية عن رب العزة أنه قال: «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» فهذا الخبر يقتضي أن ترك الدعاء أفضل، هذه الآية تدل على أن ترك الدعاء يوجب الوعيد الشديد، فكيف الجمع بينهما؟ قلنا لا شك أن العقل إذا كان مستغرقًا في الثناء كان ذلك أفضل من الدعاء، لأن الدعاء طلب للحظ والاستغراق في معرفة جلال الله أفضل من طلب الحظ، أما إذا لم يحصل ذلك الاستغراق كان الاشتغال بالدعاء أولى، لأن الدعاء يشتمل على معرفة عزة الربوبية وذلة العبودية، ثم قال تعالى: {الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه} واعلم أن تعلقه بما قبله من وجهين الأول: كأنه تعالى قال: إني أنعمت عليك قبل طلبك لهذه النعم الجليلة العظيمة، ومن أنعم قبل السؤال بهذه النعم العالية فكيف لا ينعم بالأشياء القليلة بعد السؤال والثاني: أنه تعالى لما أمر بالدعاء، فكأنه قيل الاشتغال بالدعاء لابد وأن يكون مسبوقًا بحصول المعرفة، فما الدليل على وجود الإله القادر، وقد ذكر الله تعالى هذه الدلائل العشرة على وجوده وقدرته وحكمته، واعلم أنا بينا أن دلائل وجود الله وقدرته، إما فلكية، وإما عنصرية، أما الفلكيات فأقسام كثيرة أحدها: تعاقب الليل والنهار، ولما كان أكثر مصالح العالم مربوطًا بهما فذكرهما الله تعالى في هذا المقام، وبيّن أن الحكمة في خلق الليل حصول الراحة بسبب النوم والسكون، والحكمة في خلق النهار، إبصار الأشياء ليحصل مكنة التصرف فيها على الوجه الأنفع، أما أن السكون في وقت النوم سبب للراحة فبيانه من وجهين:
الأول: أن الحركات توجب الإعياء من حيث إن الحركة توجب السخونة والجفاف، وذلك يوجب التألم.
والثاني: أن الإحساس بالأشياء إنما يمكن بإيصال الأرواح الجسمانية إلى ظاهر الحس، ثم إن تلك الأرواح تتحلل بسبب كثرة الحركات فتضعف الحواس والإحساسات، وإذا نام الإنسان عادت الأرواح الحساسة في باطن البدن وركزت وقويت وتخلصت عن الإعياء، وأيضًا الليل بارد رطب فبرودته ورطوبته يتداركان ما حصل في النهار من الحر والجفاف بسبب ما حدث من كثرة الحركات، فهذه هي المنافع المعلومة من قوله تعالى: {الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} وأما قوله: {والنهار مُبْصِرًا} فاعلم أن الإنسان مدني بالطبع، ومعناه أنه ما لم يحصل مدينة تامة لم تنتظم مهمات الإنسان في مأكوله ومشروبه وملبسه ومنكحه، وتلك المهمات لا تحصل إلا بأعمال كثيرة، وتلك الأعمال تصرفات في أمور، وهذه التصرفات لا تكمل إلا بالضوء والنور حتى يميز الإنسان بسبب ذلك النور بين ما يوافقه وبين ما لا يوافقه، فهذا هو الحكمة في قوله: {والنهار مُبْصِرًا} فإن قيل كان الواجب بحسب رعاية النظم أن يقال هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار لتبصروا فيه، أو فجعل لكم الليل ساكنًا ولكنه لم يقل كذلك بل قال في الليل لتسكنوا فيه، وقال في النهار مبصرًا فما الفائدة فيه؟ وأيضًا فما الحكمة في تقديم ذكر الليل على ذكر النهار مع أن النهار أشرف من الليل؟ قلنا: أما الجواب عن الأول: فهو أن الليل والنوم في الحقيقة طبيعة عدمية فهو غير مقصود بالذات، أما اليقظة فأمور وجودية، وهي مقصودة بالذات، وقد بيّن الشيخ عبد القاهر النحوي في دلائل الإعجاز أن دلالة صيغة الاسم على التمام والكمال أقوى من دلالة صيغة الفعل عليهما، فهذا هو السبب في هذا الفرق، والله أعلم، وأما الجواب عن الثاني: فهو أن الظلمة طبيعة عدمية والنور طبيعة وجودية والعدم في المحدثات مقدم على الوجود، ولهذا السبب قال في أول سورة الأنعام: {وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1].
واعلم أنه تعالى لما ذكر ما في الليل والنهار من المصالح والحكم البالغة قال: {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} والمراد أن فضل الله على الخلق كثير جدًّا ولكنهم لا يشكرونه، واعلم أن ترك الشكر لوجوه: أحدها: أن يعتقد الرجل أن هذه النعم ليست من الله تعالى مثل أن يعتقد أن هذه الأفلاك واجبة الوجود لذواتها وواجبة الدوران لذواتها، فحينئذٍ هذا الرجل لا يعتقد أن هذه النعم من الله وثانيها أن الرجل وإن اعتقد أن كل العالم حصل بتخليق الله وتكونيه إلا أن هذه النعم العظيمة، أعني نعمة تعاقب الليل والنهار لما دامت واستمرت نسيها الإنسان، فإذا ابتلي الإنسان بفقدان شيء منها عرف قدرها مثل أن يتفق لبعض الناس والعياذ بالله أن يحبسه بعض الظلمة في آبار عميقة مظلمة مدة مديدة، فحينئذٍ يعرف ذلك الإنسان قدر نعمة الهواء الصافي وقدر نعمة الضوء، ورأيت بعض الملوك كان يعذب بعض خدمه بأن أمر أقوامًا حتى يمنعونه عن الاستناد إلى الجدار، وعن النوم فعظم وقع هذا التعذيب وثالثها: أن الرجل وإن كان عارفًا بمواقع هذه النعم إلا أنه يكون حريصًا على الدنيا محبًا للمال والجاه، فإذا فاته المال الكثير والجاه العريض وقع في كفران هذه النعم العظيمة، ولما كان أكثر الخلق هالكين في أحد هذه الأودية الثلاثة التي ذكرناها، لا جرم قال تعالى: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} ونظيره قوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور} [سبأ: 13] وقول إبليس {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين} [الأعراف: 17] ولما بيّن الله تعالى بتلك الدلائل المذكورة وجود الإله القادر الرحيم الحكيم قال: {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ خالق كُلّ شيء لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} قال صاحب الكشاف ذلكم المعلوم المميز بالأفعال الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد هو الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو أخبار مترادفة أي هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية وخلق كل شيء لا إله إلا هو أخبار مترادفة أي هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية وخلق كل شيء وأنه لا ثاني له {فأنى تُؤْفَكُونَ} والمراد فأنى تصرفون ولم تعدلون عن هذه الدلائل وتكذبون بها، ثم قال تعالى: {وكذلك يُؤْفَكُ الذين كَانُواْ بآيات الله يَجْحَدُونَ} يعني أن كل من جحد بآيات الله ولم يتأملها ولم يكن فيه همة لطلب الحق وخوف العاقبة أَفِك كما أفكوا. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الآية.
روى النعمان بن بشير قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الدعاء هو العبادة» ثم قرأ {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
فدل هذا على أن الدعاء هو العبادة.
وكذا قال أكثر المفسرين؛ وأن المعنى: وحِّدوني واعبدوني أتقبل عبادتكم وأغفر لكم.
وقيل: هو الذكر والدعاء والسؤال.
قال أنس: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شِسْع نعله إذا انقطع» ويقال الدعاء: هو ترك الذنوب.
وحكى قتادة أن كعب الأحبار قال: أعطيَتْ هذه الأمة ثلاثًا لم تُعْطهن أمة قبلهم إلا نبيّ: كان إذا أرسل نبيّ قيل له أنت شاهد على أمتك، وقال تعالى لهذه الأمة: {لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى الناس} [البقرة: 143] وكان يقال للنبيّ: ليس عليك في الدين من حرج، وقال لهذه الأمة: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وكان يقال للنبيّ ادعني أستجب لك، وقال لهذه الأمة: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.
قلت: مثل هذا لا يقال من جهة الرأي.
وقد جاء مرفوعًا؛ رواه ليث عن شهر بن حَوْشَب عن عبادة بن الصامت، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أعطِيت أمتي ثلاثًا لم تُعطَ إلا للأنبياء كان الله تعالى إذا بعث النبيّ قال ادعني أستجب لك وقال لهذه الأمة: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وكان الله إذا بعث النبيّ قال: ما جعل عليك في الدين من حرج وقال لهذه الأمة: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وكان الله إذا بعث النبيّ جعله شهيدًا على قومه وجعل هذه الأمة شهداء على الناس» ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول.
وكان خالد الربعي يقول: عجيب لهذه الأمة! قيل لها: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} أمرهم بالدعاء ووعدهم الاستجابة وليس بينهما شرط.
قال له قائل: مثل ماذا؟ قال: مثل قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [البقرة: 25] فهاهنا شرط، وقوله: {وَبَشِّرِ الذين آمنوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} [يونس: 2] فليس فيه شرط العمل؛ ومثل قوله: {فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} فهاهنا شرط، وقوله تعالى: {ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ليس فيه شرط.
وكانت الأمة تفزع إلى أنبيائها في حوائجها حتى تسأل الأنبياء لهم ذلك.
وقد قيل: إن هذا من باب المطلق والمقيد على ما تقدّم في البقرة بيانه.
أي {أَسْتَجِبْ لَكُمْ} إن شئت؛ كقوله: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} [الأنعام: 41].
وقد تكون الاستجابة في غير عين المطلوب على حديث أبي سعيد الخدري على ما تقدّم في البقرة بيانه فتأمله هناك.
وقرأ ابن كثير وابن محيصن ورُوَيس عن يعقوب وعَيّاش عن أبي عمرو وأبو بكر والمفضَّل عن عاصم {سَيُدْخَلُونَ} بضم الياء وفتح الخاء على ما لم يسمّ فاعله.
الباقون {يَدْخُلُونَ} بفتح الياء وضم الخاء.
ومعنى {دَاخِرِينَ} صاغرين أذلاء وقد تقدّم.
قوله تعالى: {الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} {جَعَلَ} هنا بمعنى خلق؛ والعرب تفرّق بين جعل إذا كانت بمعنى خلق وبين جعل إذا لم تكن بمعنى خلق؛ فإذا كانت بمعنى خلق فلا تعديها إلا إلى مفعول واحد، وإذا لم تكن بمعنى خلق عدتها إلى مفعولين؛ نحو قوله: {إِنَّا جعلناه قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} وقد مضى هذا المعنى في غير موضع.
{والنهار مُبْصِرًا} أي مضيئًا لتبصروا فيه حوائجكم وتتصرفوا في طلب معائشكم.
{إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} فضله وإنعامه عليهم.
قوله تعالى: {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} بيّن الدلالة على وحدانيته وقدرته.
{لاَّ إله إِلاَّ هُوَ فأنى تُؤْفَكُونَ} أي كيف تنقلبون وتنصرفون عن الإيمان بعد أن تبينت لكم دلائله كذلك؛ أي كما صرفتم عن الحق مع قيام الدليل عليه ف {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ} يصرف عن الحق {الذين كَانُواْ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ}. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} أي اعبدوني أثبكم على ما روي عن ابن عباس والضحاك ومجاهد وجماعة وعن الثوري أنه قيل له: ادع الله تعالى فقال: إن ترك الذنوب هو الدعاء يعني أن الدعاء باللسان ترجمة عن طلب الباطن وأنه إنما يصح لصحة التوجه وترك المخالفة فمن ترك الذنوب فقد سأل الحق بلسان الاستعداد وهو الدعاء الذي يلزمه الإجابة ومن لا يتركها فليس بسائل وإن دعاه سبحانه ألف مرة؛ وما ذكر مؤيد لتفسير الدعاء بالعبادة ومحقق له فإن ترك الذنوب من أجل العبادات وينطبق على ذلك كمال الانطباق قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخرين} أي صاغرين أذلاء.
وجوز أن يكون المعنى اسألوني أعطكم وهو المروى عن السدي فمعنى قوله تعالى: {يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى} يستكبرون عن دعائي لأن الدعاء نوع من العبادة ومن أفضل أنواعها، بل روى ابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال: أفضل العبادة الدعاء وقرأ الآية، والتوعد على الاستكبار عنه لأن ذلك عادة المترفين المسرفين وإنما المؤمن يتضرع إلى الله تعالى في كل تقلباته، وفي إيقاع العبادة صلة الاستكبار ما يؤذن بأن الدعاء باب من أبواب الخضوع لأن العبادة خضوع ولأن المراد بالعبادة الدعاء والاستكبار إنما يكون عن شيء إذا أتى به لم يكن مستكبرًا.
قال في الكشف: وهذا الوجه أظهر بحسب اللفظ وأنسب إلى السياق لأنه لما جعل المجادلة في آيات الله تعالى من الكبر جعل الدعاء وتسليم آياته من الخضوع لأن الداعي له تعالى الملتجىء إليه عز وجل لا يجادل في آياته بغير سلطان منه البتة، والعطف في قوله تعالى: {وَقَالَ} من عطف مجموع قصة على مجموع أخرى لاستئوائهما في الغرض، ولهذا لما تمم هذه القصة أعني قوله سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمْ} إلى قوله عز وجل: {كُنْ فَيَكُونُ} [غافر: 60- 68] صرح بالغرض في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يجادلون في ءايات الله} [غافر: 69] كما بني القصة أولًا على ذلك في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الذين يجادلون في ءايات الله بِغَيْرِ سلطان} [غافر: 56] ولو تؤمل في هذه السورة الكريمة حق التأمل وجد جل الكلام مبنيًّا على رد المجادلين في آيات الله المشتملة على التوحيد والبعث وتبيين وجه الرد في ذلك بفنون مختلفة، ثم انظر إلى ما ختم به السورة كيف يطابق ما بدئت من قوله سبحانه: {فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ} [غافر: 4] وكيف صرح آخرًا بما رمز إليه أولًا لتقضي منه العجب فهذا وجه العطف انتهى.
وما ذكره من أظهرية هذا الوجه بحسب اللفظ ظاهر جدًّا لما في الأولى من ارتكاب خلاف الظاهر قبل الحاجة إليه في موضعين في الدعاء حيث تجوز به عن العبادة لتضمنها له أو لأنه عبادة خاصة أريد به المطلق، وفي الاستجابة حيث جعلت الإثابة على العبادة لترتبها عليها استجابة مجازًا أو مشاكلة بخلاف الثاني فإن فيه ارتكاب خلاف الظاهر وهو التجوز في موضع واحد وهو {عَنْ عِبَادَتِى} ومع هذا هو بعد الحاجة فلم يكن كنزع الخف قبل الوصول إلى الماء بل قيل: لا حاجة إلى التجوز فيه لأن الإضافة مراد بها العهد هنا فتفيد ما تقدم، لكن كونه أنسب بالسياق أيضًا مما لا يتم في نظري، وأيًّا ما كان {فأستجب} جزم في جواب الأمر أي إن تدعوني أستجب لكم والاستجابة على الوجهين مشروطة بالمشيئة حسبما تقتضيه أصولنا، وقد صرح بذلك في استجابة الدعاء قال سبحانه: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء} [الأنعام: 41] والاستكبار عن عبادة الله تعالى دعاء كانت أو غيره كفر يترتب عليه ما ذكر في الآية الكريمة.
وأما ترك ذلك لا عن استكبار فتفصيل الكلام فيه لا يخفى، والمقامات في ترك الدعاء فقيل: متفاوتة فقد لا يحسن كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع الله تعالى يغضب عليه» أخرجه أحمد وابن أبي شيبة والحاكم عن أبي هريرة مرفوعًا، وقد يحسن كما يدل عليه ما روي من ترك الخليل عليه السلام الدعاء يوم ألقي في النار وقوله علمه بحالي يغني عن سؤالي، وربما يقال: ترك الدعاء اكتفاء بعلم الله عز وجل دعاء والله تعالى أعلم.