فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} لما كانت المجادلة في آيات الله تشمل مجادلتهم في وحدانية الإِلهية كما دل عليه قوله الآتي، {ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون اللَّه قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئًا} [غافر: 73، 74]، فجَعل {لم نكن ندعوا} نقيض ما قيل لهم {أين ما كنتم تشركون} وتشمل المجادلَة في وقوع البعث كما دل عليه قوله بعدَ هذه {ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات اللَّه أنى يصرفون} إلى قوله: {إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل} [غافر: 69 71] الآية، أُعقب ذكر المجادلة أولًا بقوله: {لَخَلق السموات والأرضضِ أكْبرُ من خَلققِ النَّاس} [غافر: 57] وذلك استدلال على إمكان البعث، ثم عطف عليه قوله: {وقَالَ رَبُّكم ادعُوني أستَجِب لكُم} الآية تحذيرًا من الإِشراك به، وأيضًا لما ذُكر أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بدعاء الله وحده أمرًا مفرّعًا على توبيخ المشركين بقوله: {ذلكم بأنَّه إذَا دُعيَ الله وحْدَه كَفَرتم} [غافر: 12] وعلى قوله عقب ذلك: {ومَا يتذكَّرُ إلاَّ مَن يُنيب} [غافر: 13] وانتقَل الكلام أثر ذلك إلى الأَهمّ وهو الأمر بإنذار المشركين بقوله: {وأنذِرْهُم يَومَ الأزِفَة} [غافر: 18] الخ، وتتابعت الأغراض حتى استوفت مقتضاها، عاد الكلام الآن إلى ما يشمل عبادة المؤمنين الخالصةَ لله تعالى وهو أيضًا متصل بقوله: {ومَا دَعاؤُا الكافرين إلاَّ في ضلال} [غافر: 50].
فلما تقدم ذكر الدعاء بمعنييه: معنى العبادة، ومعنى سُؤال المطلوب، أردف بهذا الأمر الجامع لكلا المعنيين.
والقول المخبَر عنه بفعل: {قال ربكم} يجوز أن يراد به كلام الله النفسي، أي ما تعلقت إرادة الله تعلقًا صلاحيًا، بأن يقوله عند إرادة تكوينه، ويجوز أن يراد القول اللفظي ويكون التعبير بقال الماضي إخبارًا عن أقوال مضت في آيات قبل نزول هذه الآية مثل قوله: {فادعوا اللَّه مخلصين له الدين} [غافر: 14] بخلاف قوله: {أجيب دعوة الداعِ إذ دعان} [البقرة: 186] فإنه نزل بعد هذه الآية، ويجوز أن يكون الماضي مستعملًا في الحال مجازًا، أي يقول ربكم: ادعوني.
والدعاء يطلق بمعنى النداء المستلزم للاعتراف بالمُنَادَى، ويطلق على الطلب وقد جاء من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ما فيه صلاحية معنى الدعاء الذي في هذه الآية لما يلائم المعنيين في حديث النعمان بن بشير قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الدعاء هو العبادة» ثم قرأ {وقَالَ ربُّكم ادعُوني أستَجِب لكم إنَّ الذِّين يستَكبرون عَن عبادتي سيَدخلُون جهنَّم داخِرين} رواه الترمذي.
وقال: هذا حديث حسن صحيح، فإن قوله: «الدعاء هو العبادة» يقتضي اتحاد الحقيقتين فإذا كان الدعاء هو العبادة كانت العبادة هي الدعاء لا محالة.
فالدعاء يطلق على سؤال العبد من الله حاجته وهو ظاهر معناه في اللغة، ويطلق على عبادة الله على طريق الكناية لأن العبادة لا تخلو من دُعاء المعبود بنداءِ تعظيمه والتضرع إليه، وهذا إطلاق أقل شيوعًا من الأول، ويراد بالعبادة في اصطلاح القرآن إفراد الله بالعبادة، أي الاعتراف بوحدانيته.
والاستجابة تطلق على إعطاء المسؤول لمن سأله وهو أشهر إطلاقها وتطلق على أثر قبول العبادة بمغفرة الشرك السابق وبحصول الثواب على أعمال الإِيمان فإفادة الآية على معنى طلب الحاجة من الله يناسب ترتب الاستجابة على ذلك الطلب معلقًا على مشيئة الله أو على استيفاء شروط قبول الطلب، وإعطاء خير منه في الدنيا، أو إعطاء عوض منه في الآخرة.
وإفادتها على معنى إفراد الله بالعبادة، أي بأن يتوبوا عن الشرك، فترتب الاستجابة هو قبول ذلك، فإن قبول التوبة من الشرك مقطوع به.
فلما جمعت الآية بين الفعلين على تفاوت بين شيوع الإِطلاق في كليهما علمنا أن في المعنى المراد ما يشبه الاحتباك بأن صرح بالمعنى المشهور، في كلا الفعلين ثم أعقب بقوله: {إنَّ الذين يَسْتكبرون عَن عِبادي} فعلمنا أن المراد الدعاء والعبادة، وأن الاستجابة أريد بها قبول الدعاء وحصول أثر العبادة.
ففعل {ادعوني} مستعمل في معنييه بطريقة عموم المشترك.
وفعل {أستجب} مستعمل في حقيقته ومجازه، والقرينة ما علمتَ، وذلك من الإِيجاز والكلاممِ الجامع.
وتعريف الله بوصف الرب مضافًا إلى ضمير المخاطبين لما في هذا الوصف وإضافتِه من الإِيماء إلى وجوب امتثال أمره لأن من حق الربوبية امتثال ما يأمر به موصوفها لأن المربوبَ محقوق بالطاعة لربه، ولهذا لم يعرج مع هذا الوصف على تذكير بنعمته ولا إشارة إلى كمالات ذاته.
وجملة {إنَّ الذين يَسْتكبرون عن عِبادَتي سيدخلون جهنَّم} تعليل للأمر بالدعاء تعليلًا يفيد التحذير من إباية دعاء الله حين الإِقبال على دعاء الأصنام، كما قال تعالى: {ذلكم بأنَّه إذا دُعِي الله وحْدَه كفرتم وإن يُشرك به تُؤْمنوا} [غافر: 12] وكان المشركون لا يضرعون إلى الله إلا إذا لم يتوسموا استجابة شركائهم، كما قال تعالى: {فلما نجاكم إلى البر أعرضتم} [الإسراء: 67].
ومعنى التعليل للأمر بالدعاء بهذا التحذير: أن الله لا يحب لعباده ما يفضي بهم إلى العذاب، قال تعالى: {ولا يرضى لعباده الكفر} [الزمر: 7] ففي الآية دليل على طلب الله من عباده أن يدعوه في حاجاتهم.
ومشروعية الدعاء لا خلاف فيها بين المسلمين وإنما الخلاف في أنه ينفع في رد القدر أو لا؟ وهو خلاف بيننا وبين المعتزلة.
وليس في الآية حجة عليهم لأنهم تأولوا معنى {أستجِبْ لكم} وتقدم قوله تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب} الآية في سورة [البقرة: 186]، وفي الإتيان بالموصول إيماء إلى التعليل.
و{داخرين} حال من ضمير {سيدخلون} أي أذلة، دخَر كمنَع وفرِح: صغر وذلّ، وتقدم قوله: {سجدًا للَّه وهم داخرون} في سورة [النحل: 48].
وقرأ الجمهور {سيدخلون} بفتح التحتية وضم الخاء.
وقرأه أبو جعفر ورويس عن يعقوب بضم التحتية وفتح الخاء على البناء للنائب، أي سيدخلهم ملائكة العذاب جهنم.
{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} يجوز أن يكون اسم الجلالة بدلًا من {ربكم} في {وَقَال ربُّكُمُ} [غافر: 60] اتبع {ربكم} بالاسم العلم ليُقضَى بذلك حقّان: حق استحقاقه أن يطاع بمتقضى الربوبية والعبودية، وحقُّ استحقاقه الطاعة لصفات كماله التي يجمعها اسم الذات.
ولذلك لم يؤت مع وصف الرب المتقدم بشيء من ذكرِ نعمِهِ ولا كمالاته اجتزاء بمقتضى حق الربوبية، وذكر مع الاسم العلَم بعض إنعامه وإفضاله ثم وُصف الاسم بالموصول وصلته إشارةً إلى بعض صفاته، وإيماءً إلى وجه الأمر بعبادته، وتكون الجملة استنئافًا بيانيًا ناشئًا عن تقوية الأمر بدعائه.
ويجوز أن يكون اسم الجلالة مبتدأ والموصول صفة له ويكون الخبر قوله: {ذلكم الله رَبُّكم} [غافر: 64] ويكون جملة {إنَّ الله لَذُو فَضلٍ} معترضة، أو أن يكون اسم الجلالة مبتدأ والموصولُ خبرًا.
واعتبار الجملة مستأنفة أحسن من اعتبار اسم الجلالة بدلًا لأنه أنسب بالتوقيف على سوء شكرهم، وبمقام تعداد الدلائل وأسعد بقوله: {الله الَّذِي جَعَل لكم الأرْضَ قَرَارًا} [غافر: 64]، فتكون الجملة واقعة موقع التعليل لجملة {إنَّ الذين يستَكْبِرون عن عِبَادتي سيدخلون جَهنَّم دَاخِرِين} [غافر: 60]، أي تسببوا لأنفسهم بذلك العقاب لأنهم كفروا نعمة الله إذ جعل لهم الليل والنهار.
وعلى هذه الاعتبارات كلها فقد سجلت هذه الآية على الناس تقسيمهم إلى: شاكر نعمة، وكفورها، كما سجلت عليهم الآية السابقة تقسيمهم إلى: مؤمن بوحدانية الله، وكافر بها.
وهذه الآية للتذكير بنعمة الله تعالى على الخلق كما اقتضاه لام التعليل في قوله: {أَسْتَجِبْ} واقتضاه التذييل بقوله: {إنَّ الله لَذُو فَضْلٍ على النَّاسِ ولكِنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرون} وأدمج في التذكير بالنعمة استدلال على انفراده تعالى بالتصرف بالخلق، والتدبير الذي هو مُلازم حقيقة الإِلهية.
وابتدىء الاستدلال بدلائل الأكوان العلوية وآثارها الواصلة إلى الأكوان السفلية، وهي مظهر النعمة بالليل والنهار فهما تكوينان عظيمان دالاّن على عظيم قدرة مُكونهما ومنظِّمهما وجاعلهما متعاقبين، فنيطت بهما أكثر مصالح هذا العالم ومصالح أهله، فمن مصالح العالم حصول التعادل بين الضياء والظلمة، والحرارةِ والبرودة لتكون الأرض لائقة بمصالح مَن عليها فتنبت الكلأ وتنضج الثمار، ومن مصالح سكان العالم سكون الإِنسان والحيوان في الليل لاسترداد النشاط العصبي الذي يُعييه عمل الحواس والجسد في النهار، فيعود النشاط إلى المجموع العصبي في الجسد كله وإلى الحواس، ولولا ظلمة الليل لكان النوم غير كامل فكانَ عود النشاط بطيئًا وواهنًا ولعاد على القوة العصبية بالانحطاط والاضمحلال في أقرب وقت فلم يتمتع الإنسان بعمر طويل.
ومنها انتشار الناس والحيوان في النهار وتبيّن الذوات بالضياء، وبذلك تتم المساعي للناس في أعمالهم التي بها انتظام أمر المجتمع من المدن والبوادي، والحضر والسفر، فإن الإنسان مدني بالطبع، وكادح للعمل والاكتساب، فحاجته للضياء ضرورية ولولا الضياء لكانت تصرفات الناس مضطربة مختبطة.
وللتنويه بشأن إبصار الناس في الضياء وكثرة الفوائد الحاصلة لهم من ذلك أُسند الإِبصار إلى النهار على طريقة المجاز العقلي لقوة الملابسة بين الأفعال وزمانها، فأسند إبصار الناس إلى نفس النهار لأنه سبب بعضه وسبب كمال بعض آخر.
فأما نعمة السكون في الليل فهي نعمة واحدة هي رجوع النشاط.
وفي ذكر الليل والنهار تذكير بآية عظيمة من المخلوقات وهي الشمس التي ينشأ الليل من احتجاب أشعتها عن نصف الكرة الأرضية وينشأ النهار من انتشار شعاعها على النصف المقابل من الكرة الأرضية، ولكن لما كان المقصد الأول من هذه الآية الامتنان ذَكَر الليل والنهار دون الشمس، وقد ذكرت الشمس في آيات أخرى كان الغرض الأهمّ منها الدلالة على عظيم القدرة والوحدانية كقوله: {والشمس والقمر حسبانًا ذلك تقدير العزيز العليم} [الأنعام: 96].
ودلت مقابلةُ تعليل إيجاد الليل بعلة سكون الناس فيه، بإسناد الإِبصار إلى ذات النهار على طريقة المجاز العقلي وإنما المبصرون الناس في النهار، على احتباك إذ يفهم من كليهما أن الليل ساكن أيضًا، وأن النهار خُلق ليُبصِرَ الناسُ فيه إذ المنة بهما سواء، فهذا من بديع الإِيجاز مع ما فيه من تفنن أسلوبي الحقيقة والمجاز العقلي.
ولم يعكس فيُقَلْ: جَعل لكم الليل ساكنًا والنهار لتبصروا فيه، لئلا تفوت صراحة المراد من السكون كيلًا يُتوهم أن سكون الليل هو شدة الظلام فيه كما يقال: ليل سَاج، لقلة الأصوات فيه.
وتقدم الكلام على الليل والنهار في سورة [البقرة: 164] عند قوله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار} وفي مواضع أخرى.
وجملة {إنَّ الله لَذُو فَضْلٍ على النَّاسِ} اعتراض هو كالتذييل لجملة {الله الَّذِي جَعلَ لكُمُ الليَّلَ لِتَسْكنوا فِيه} لأن الفضل يشمل جعل الليل والنهار وغير ذلك من النعم، ولأن {الناس} يعمّ المخاطبين بقوله: {جَعَلَ لَكُمُ} وغيرَهم من الناس.
وتنكير {فضل} للتعظيم لأن نعم الله تعالى عظيمة جليلة ولذلك قال: {لَذُو فَضْلٍ} ولم يقل: لمتفضل، ولا لَمُفْضِل، فعُدل إلى إضافة {ذو} إلى {فضل} لتأتِّي التنكير المشعر بالتعظيم.
وعدل عن نحو: له فضل، إلى {لَذُو فَضْلٍ} لما يدل عليه ذو من شرف ما يضاف هو إليه.
والاستدراك ب {لكن} ناشىء عن لازم {ذو فضل على الناس} لأن الشأن أن يشكر الناس ربّهم على فضله فكان أكثرهم كافرًا بنعمه، وأيّ كفر للنعمة أعظم من أن يتركوا عبادة خالقهم المتفضللِ عليهم ويعبدوا ما لا يملك لهم نفعًا ولا ضرًا.
وخرج ب {أكْثَر النَّاسِ} الأقلُّ وهم المؤمنون فإنهم أقل {ولو أعجبك كثرة الخبيث} [المائدة: 100].
والعدول عن ضمير {الناس} في قوله: {ولكن أكثر النَّاسِ لا يَشْكُرون} إلى الاسم الظاهر ليتكرر لفظ الناس عند ذكر عدم الشكر كما ذكر عند التفضل عليهم فيسجل عليهم الكفران بوجه أصرح.
وقد علمتَ مما تقدم وجه اختلاف المنفيَّات في قوله: {ولكنَّ أكثر النَّاسِ لا يعْلَمُون} [غافر: 57] وقوله: {ولكِنَّ أكثر النَّاس لاَ يؤمنون} [غافر: 59] وقوله: {ولكن أكثر الناس لا يشكرون} فقد أُتبع كل غرض أريد إثباته بما يناسب حال منكريه.
{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62)} اتصل الكلام على دلائِل التفرد بالإِلهية من قوله: {ذلكم الله رَبُّكُم خالق كلِّ شَيءٍ} إلى قوله: {مُخْلِصين له الدِّينَ} [غافر: 62 65] اتصالَ الأدلة بالمستدل عليه.
والإِشارة ب {ذلكم} إلى اسم الجلالة في قوله: {الله الَّذِي جَعَلَ لَكُم الليْلَ لِتَسْكنوا فِيه} [غافر: 61].
وعدل عن الضمير إلى اسم الإِشارة لإِفادة أنه تعالى معلوم متميز بأفعاله المنفرد بها بحيث إذا ذكرت أفعاله تميز عما سواه فصار كالمشاهد المشار إليه، فكيف تلتبس إلهيته بإلهية مزعومة للأصنام فليست للذين أشركوا به شبهة تلبِّس عليهم ما لا يفعلُ مثلَ فعله، أي ذلكم ربكم لا غيره وفي اسم الإِشارة هذا تعريض بغباوة المخاطبين الذين التبست عليهم حقيقة إلهيته.
وقوله: {الله رَبُّكم خالق كل شَيْءٍ لا إله إلا هُو} أخبار أربعة عن اسم الإِشارة، ابتدىء فيها بالاسم الجامع لصفات الإِلهية إجمالًا، وأردف ب {ربكم} أي الذي دبر خلق الناس وهيّأ لهم ما به قوام حياتهم.
ولما كان في معنى الربوبية من معنى الخلق ما هو خَلْق خاص بالبشر بأنه خالق الأشياء كلها كما خلقهم، وأردف بنفي الإِلهية عن غيره فجاءت مضامين هذه الأخبار الأربعة مترتبة بطريقة الترقّي، وكان رابعها نتيجة لها، ثم فرع عليها استفهام تعجيبي من انصرافهم عن عبادته إلى جانب عبادة غيره مع وضوح فساد إعراضهم عن عبادته.
و{أَنَّى} اسم استفهام عن الكيفية، وأصله استفهام عن المكان فإذا جعلوا الحالة في معنى الجانب ومثار الشيء استفهموا ب {أنّى} عن الحالة ويشعر بذلك قوله تعالى: {أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة} في سورة [الأنعام: 101].
و{تؤفكون} تُصرفون، وتقدم في قوله تعالى: {قاتلهم اللَّه أنّى يؤفكون} في سورة [براءة: 30]، وبناؤه للمجهول لإِجمال بسبب إعراضهم إذ سيُبين بحاصل الجملة بعده.
{كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63)} هذه الجملة معترضة بمنزلة التعليل لمضمون الجملة التي قبلها وهو التعجيب من انصرافهم عن عبادة ربهم خالقهم وخالق كل شيء فإن في تعليل ذلك ما يبين سبب التعجيب، فجيء في جانب المأفوكين بالموصول لأن الصلة تومىء إلى وجه بناء الخبر وعلتِه، أي أن استمرارهم على الجحد بآيات الله دون تأمل ولا تدبّر في معانيها ودلائلها يَطبع نفوسهم على الانصراف عن العلم بوجوب الوحدانية له تعالى.
فالإِشارة بذلك إلى الإِفك المأخوذ من فعل {تؤفكون} [غافر: 62] أي مثل إفككم ذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون.
فيجوز أن يكون المراد بالذين كانوا بآياتِ الله يَجْحَدون المخاطبين بقوله: {ذلكم الله رَبُّكُم} [غافر: 62]، ويكون الموصول وصلته إظهارًا في مقام الإِضمار، والمعنى: كذلك تؤفكون، أي مثلَ أَفككم تُؤفكون، ويكون التشبيه مبالغة في أن إفكهم بلغ في كنه الأَفك النهاية بحيث لو أراد المقرِّب أن يقربه للسامعين بشبيه له لم يجد شبيهًا له أوضح منه وأجلى في ماهيته فلا يسعه إلا أن يشبهه بنفسه على الطريقة المألوفة المبينة في قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا} [البقرة: 143]، وبذلك تكون صلة الموصول من قوله: {الذين كانوا بئاياتت الله يجحَدُون} إيماء إلى علة إفكهم تعليلًا صريحًا.
ويجوز أن يكون المراد ب {الذين كانوا بآياتِ الله يجحَدُون} كلَّ من جحد بآيات الله من مشركي العرب ومن غيرهم من المشركين والمكذبين فيصير التعليل المومى إليه بالصلة تعليلًا تعريضيًا لأنه إذا كان الأفك شأن الذين يجحدون بآيات الله كلهم فقد شمل ذلك هؤلاء بحكم المماثلة.
وصيغة المضارع لاستحضار الحالة، وذكر فعل الكون للدلالة على أن الجحد بآيات الله شأنهم وهجِّيراهم.
وهذا أصل عظيم في الأخلاق العلمية، فإن العقول التي تتخلق بالإِنكار والمكابرة قبل التأمل في المعلومات تصرف عن انكشاف الحقائق العلمية فتختلط عليها المعلومات ولا تميّز بين الصحيح والفاسد. اهـ.