فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَارًا والسماء بِنَاءً}.
استئناف ثان بناء على أحسن الوجوه التي فسرنا بها موقع قوله: {الله الذي جَعَل لكُمُ الليْلَ لِتَسكنوا فيهِ} [غافر: 61] كما تقدم فلذلك لم تعطف على التي قبلها لأن المقام مقام تعداد دلائل انفراده تعالى بالتصرف وبالإِنعام عليهم حتى يفتضح خطَلُهم في الإِشراك به وكفراننِ نعمه، فذكّرهم في الآية السابقة بآثار قدرته في إيجاد الأعراض القائمة بجواهر هذا العالم، وهما عَرَضا الظلمة والنور، وفي كليهما نعم عظيمة على الناس، وذكّرهم في هذه الآية بآثار خلْق الجواهر في هذا العالم على كيفيات هي نعمة لهم، وفي خلق أنفسهم على صور صالحة بهم، فأما إن جعلتَ اسم الجلالة في قوله: {الله الذي جعَل} إلخ بدلًا من {ربكم} في {وقال ربكم ادعوني} [غافر: 60]، فإن جملة {الله الذي جعل لكم الأرض قرارًا} تكون مستأنفة استئنافًا ابتدائيًا.
والموصول وصلته يجوز أن يكون صفة لاسم الجلالة فيكون الخبر قولَه: {ذلكم الله رَبُّكُم} وهو أولى لأن المقصود إثبات إلهيته وحده بدليل ما هو مشاهد من إتقان صنعه الممزوج بنعمته.
ويجوز أن يكون الموصول خبرًا فيكون الخبر مستعملًا في الامتنان والاعتبار، ولمّا كان المقصود الأول من هذه الآية الامتنان كما دل عليه قوله: {لكم} قُدمت الأرض على السماء لأن الانتفاع بها محسوس وذكرت السماء بعدها كما يستحضر الشيء بضده مع قصد إيداع دلائل علم الهيئة لمن فيهم استعداد للنظر فيها وتتبع أحوالها على تفاوت المدارك وتعاقب الأجيال واتساع العلوم.
والقرار أصله، مصدر قرّ، إذا سكن.
وهو هنا من صفات الأرض لأنه في حكم الخبر عن الأرض، فالمعنى يحتمل: أنه جعلها قارة غير مائدة ولا مضطربة فلم تكن مثل كُرة الهواء مضطربة متحركة، ولو لم تكن قارة لكان الناس في عناء من اضطرابها وتزلزلها، وقد يفضي ذلك بأكثرهم إلى الهلاك وهذا في معنى قوله: {وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم} في سورة [الأنبياء: 31].
ويحتمل أن المعنى جعل الأرض ذات قَرار، أي قَرارٍ لكم، أي جعلها مستقَرًا لكم كقوله تعالى: {وأويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين} [المؤمنون: 50] أي خلقها على كيفية تلائم الاستقرار عليها بأن جعلها يابسة غير سائلة ولو شاء لجعل سطح الأرض سيالًا كالزئبق أو كالعَجَل فلا يزال الإنسان سائخًا فيها يطفو تارة ويسيخ أخرى فلا يكاد يبقى على تلك الحالة، وذلك كوسَط سبخة التَّاكْمَرْتْ المسماة: شط الجريد الفاصل بين نفطة ونفزاوة من الجنوب التونسي فإن فيها مسافات إذا مشت فيها القوافل ساخت في الأرض فلا يُعثر عليها، ولذلك لا تسير فيها القوافل إلا بهُداة عارفين بمسالك السير في علامات منصوبَة، فكانت خلقة الأرض دالة على عظيم قدرة الله وعلى دقيق حكمته وعلى رحمته بالإِنسان والحيوان المعمور بهما وجه الأرض.
والبناء: ما يُرفع سمكه على الأرض للاتقاء من الحر والبرد والمطر والدواب.
ووصف السماء بالبناء جار على طريقة التشبيه البليغ، وتقدم الكلام مستوفى عند قوله تعالى: {الذي جعل لكم الأرض فراشًا والسماء بناء} في سورة [البقرة: 22].
{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ}.
لا جرم أن حكمة الله تعالى التي تعلقت بإيجاد ما يحفّ بالإنسان من العوالم على كيفيات ملائمة لحياة الإِنسان وراحته قد تعلقت بإيجاد الإِنسان في ذاته على كيفية ملائمة له مدة بقاء نوعه على الأرض وتحت أديم السماء ولذلك أعقَب التذكيرَ بما مَهَّد له من خلق الأرض والسماء، بالتذكير بأنه خلقه خلقًا مستوفيًا مصلحتَه وراحتَه.
وعبّر عن هذا الخلق بفعل {صوركم} لأن التصوير خلق على صورة مرادة تشعر بالعناية، ألا ترى إلى قوله تعالى: {ولقد خلقناكم ثم صوّرناكم} [الأعراف: 11] فاقتضى حسن الصور فلذلك عُدل في جانب خلق الإِنسان عن فعل الجعل إلى فعل التصوير بقوله: {وصوركم} فهو كقوله تعالى: {الذي خلقك فسوّاك فعدّلَك في أي صورة} [الانفطار: 7، 8] ثم صرح بما اقتضاه فعل التصوير من الإِتقان والتحسين بقوله: {فأحْسَن صُوَركم}.
والفاء في قوله: {فأَحْسَن صُوَركم} عاطفة جملة على جملة ودالّة على التعقيب أي أوجد صورة الإنسان فجاءت حسنة.
وعطف على هذه العبرة والمنة منةٌ أخرى فيها عبرة، أي خلقكم في أحسن صورة ثم أمدكم بأحسننِ رزق، فجمع لكم بين الإِيجاد والإِمداد، ولما كان الرزق شهوة في ظاهره وكان مشتملًا على حكمة إمداد الجسم بوسائل تجديد قُواه الحَيوية وكان في قوله: {ورزقكم} إيماء إلى نعمة طُول الوجود فلم يكن الإنسان من الموجودات التي تظهر على الأرض ثم تضمحلّ في زمن قريب وجمع له بين حسن الإِيجاد وبين حسن الإِمداد فجَعل ما به مددَ الحياة وهو الرزق من أحسن الطيبات على خلاف رزق بقية أنواع الحيوان.
{الطيبات ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ فتبارك الله رَبُّ} موقع {ذلكم الله ربكم} كموقع نظيره المتقدم آنفًا.
وإعادة هذا تكرير للتوقيف على خطل رأيهم في عبادة غيره على طريقة التعريض، بقرينة ما تقدم في نظيره من قوله: {لا إله إلاَّ هو فأنَّى تُؤفكون} [غافر: 62]، وقرينةِ قوله هنا: {لا إله إلا هُو فادعوه مخلصين له الدين} [غافر: 65].
وفُرِّع على ما ذُكِرَ من بدائع صنعه وجزيل منّهِ.
أن أنشِيءَ الثناءُ عليه بما يفيد اتصافه بعظيم صفات الكمال فقال: {فَتَبَارك الله} وفعل {تبارك} صيغةُ مفاعلة مستعملة مجازًا في قوةِ ما اشتُقّ منه الفعل.
وهو مشتقّ من اسم جامد وهو البَركَة، والبركَة: اسم يدل على تزايد الخير.
وإظهار اسم الجلالة مع فعل {تبارك} دون الإِتيان بضمير مع تقدم اسمه، فالإِظهار لتكون الجملة كلمةَ ثناء مستقلة.
و{رَبِّ العالمين} خالق أجناس العقلاء من الناس والملائكة والجنّ.
وهذا الوصف من تمام الإِنشاء لأن في ذكر ربوبيته للعالمين وهم أشرف أجناس الموجودات استحضارًا لما أفاضه عليهم من خيرات الإِيجاد والإمداد.
{هُوَ الحى لاَ إله إِلاَّ هُوَ فادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين}.
استئناف ثالث للارتقاء في إثبات إلهيته الحقِّ بإثبات ما يناسبها وهو الحياة الكاملة، فهذه الجملة مقدمة لجملة {لا إله إلاَّ هُوَ} فإثبات الحياة الواجبة لذاته فإن الذي رَبَّ العالمين وأوجدَهم على أكمل الأحوال وأمدهم بما به قوامهم على ممر الأزمان لا جرم أنه موصوف بالحياة الحق لأن مدبّر المخلوقات على طول العصور يجب أن يكون موصوفًا بالحياة، إذ الحياة مع ما عرض من عسر في تعريفها عند الحكماء والمتكلمين هي صفة وجودية تصحح لمن قامت به الإِدراكَ والإِرادة والفعل، وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {وكنتم أمواتًا فأحياكم} في سورة [البقرة: 28].
فإن كان اتصاف موصوفها بها مسبوقًا بعدم فهي حياة ممكنة عارضة مثل حياة الملائكة وحياة الأرواح وحياة الإنسان وحياة الحيوان وحياة الأساريع، فتكون متفاوتة في موصوفاتها بتفاوت قوتها فيها ومتفاوتة في موصوفها الواحد بتفاوت أزمانها مثل تفاوت حياة الشخص الواحد في وقت شبابه، وحياته في وقت هرمه ومثل حياة الشخص وقت نشاطه وحياته وقت نومه، وبذلك التفاوت تصير إلى الخفوت ثم إلى الزوال، ويظهر أثر تفاوتها في تفاوت آثارها من الإِدراك والإِرادة والفعل.
وإن كان اتصاف موصوفها بها أزليًّا غير مسبوق بعدم فهي حياة واجب الوجود سبحانه وهي حياة واجبة ذاتية.
وهي الحياة الحقيقية لأنها غير معرَّضة للنقص ولا للزوال، فلذلك كان الحيّ حقيقة هو الله تعالى كما أنبأت عنه صيغة الحصر في قوله: {هُوَ الحَيُّ} وهو قصر ادعائي لعدم الاعتداد بحياة ما سواه من الأحياء لأنها عارضة ومعرّضة للفناء والزوال.
فموقع قوله: {لا إله إلاَّ هُوَ} موقع النتيجة من الدليل لأن كل من سواه لا حياة له واجبةً، فهو معرض للزوال فكيف يكون إلهًا مدبرًا للعالم.
وجميع ما عبد من دون الله هو بَيْن ما لم يتصف بالحياة تمامًا كالأصنام من الحجارة أو الخشب أو المعادن.
ومثلَ الكواكب الشمسسِ والقمر والشجر، وبين ما اتّصف بحياة عارضة غير زائلة كالملائكة، وبين ما اتصف بحياة عارضة زائلة من معبودات البشر مثل بُوذة وبَرْهَما بَلْهَ المعبودات من البقر والثعابين.
قال تعالى: {والذين تدعون من دون اللَّه لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون} [النحل: 20] أي لا يستطيع أحدهم التصرف بالإِيجاد والإِحياء وهو مخلوق، أي معرض للحياة {أمواتٌ غير أحياء وما يشعرون أيّان يبعثون} [النحل: 21] فجعل نفي الحياة عنهم في الحال أو في المآل دلالة على انتفاء إلهيتهم وجعل نفي إدراك بعض المدركات عنهم دلالة على انتفاء إلهيتهم.
وبعد اتضاح الدلالة على انفراده تعالى بالإِلهية فرع عليه الأمر بعبادته وحده غير مشركين غيره في العبادة لنهوض انفراده باستحقاق أن يُعبد.
والدعاء: العبادة لأنها يلازمها السؤال والنداء في أولها وفي أثنائها غالبًا، لأن الدعاء عنوان انكسار النفس وخضوعها كما تقدم آنفًا عند قوله تعالى: {وقَالَ رَبُّكم ادعُوني أستَجِبْ لَكُم} [غافر: 60] وكما في قوله الآتي: {بل لم نكن ندعو من قبل شيئًا} [غافر: 74].
والإِخلاص: الإِفراد وتصفية الشيء مما ينافيه أو يفسده.
والدين: المعاملة.
وأطلق على الطاعة وهو المراد هنا لأنها أشد أنواع المعاملة بين المطيع والمطاع.
والمعنى: فإذ كان هو الحي دون الأصنام وكان لا إله غيره فاعبدوه غير مشركين معه غيره في عبادته.
ويدخل في ماهية الإِخلاص دخولًا أوليًّا ترك الرِّيَاء في العبادة لأن الرياء وهو أن يقصد المتعبد من عبادته أن يَراه الناس سواء كان قصدًا مجردًا أو مخلوطًا مع قصد التقرب إلى الله.
كل ذلك لا يخلو من حصول حظ في تلك العبادة لِغير الله وإن لم يكن ذلك الحظ في جوهرها.
وهذا معنى ما جاء في الحديث «إن الرياء الشرك الأصغر».
وتقديم {له} المتعلق بمخلصين على مفعول {مخلصين} لأنه الأهم في هذا المقام به لأنه أشد تعلقًا بمتعلقه من تعلق المفعول بعامله.
{الدين الحمد للَّهِ رَبِّ} يجوز أن تكون إنشاء للثناء على الله كما هو شأن أمثالها في غالب مواقع استعمالها كما تقدم في سورة الفاتحة، فيجوز أن تكون متصلة بفعل {فادعوه} على تقدير قول محذوف، أي قائلين، الحمد لله رب العالمين، أو قولوا: الحمد لله رب العالمين، وقرينة المحذوف هو أن مثل هذه الجملة مما يجري على ألسنة الناس كثيرًا فصارت كالمثل في إنشاء الثناء على الله.
والمعنى: فاعبدوه بالعمل وبالثناء عليه وشكره.
ويجوز أن تكون كلامًا مستأنفًا أريد به إنشاء الثناء على الله من نفسه تعليمًا للناس كيف يحمدونه، كما تقدم في وجوه نظيرها في سورة الفاتحة.
أو جاريًا على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم على نحو قوله تعالى: {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد للَّه رب العالمين} [الأنعام: 45] عقب قوله: {قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب اللَّه أو أتتكم الساعة أغير اللَّه تدعون إن كنتم صادقين} الآيات من سورة [الأنعام: 40].
وعندي: أنه يجوز أن يكون {الحمد} مصدرًا جيء به بدلًا من فعله على معنى الأمر، أي أحمدوا اللَّه ربَّ العالمين.
وعدل به عن النصب إلى الرفع لقصد الدلالة على الدوام والثبات كما تقدم في أول الفاتحة.
وفصل الجملة عن الكلام الذي قبلها أسعد بالاحتمالين الأول والرابع.
{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66)} جملة معترضة بين أدلة الوحدانية بدلالة الآيات الكونية والنفسية ليَجْرُوا على مقتضاها في أنفسهم بأن يعبدوا الله وحده، فانتقل إلى تقرير دليل الوحدانية بخبر الوحي الإِلهي بإبطال عبادة غير الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ليعمل بذلك في نفسه ويبلغ ذلك إليهم فيعلموا أنه حُكم الله فيهم، وأنهم لا عذر لهم في الغفلة عنها أو عدم إتقان النظر فيها أو قصور الاستنتاج منها بعد أن جاءهم رسول من الله يبينّ لهم أنواعًا بمختلف البيان من أدلّة برهانية وتقريبية إقناعية.
وأن هذا الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يدعوهم إلى ما يريده لنفسه فهو ممحض لهم النصيحة، وهاديهم إلى الحجة لتتظاهر الأدلة النظرية بأدلة الأمر الإِلهي بحيث يقوى إبطال مذهبهم في الشرك، فإن ما نزل من الوحي تضمن أدلة عقلية وإقناعية وأوَامر إلهية وزواجر وترغيبات، وكل ذلك يحوم حول إثبات تفرد الله تعالى بالإِلهية والربوبية تفردًا مطلقًا لا تشوبه شائبة مشاركة ولو في ظاهر الحال كما تشوب المشاركة في كثير من الصفات الأخرى في مثل المُلك والمِلك والحَمد، والنفع والضر، والكرم والإِعانة وذلك كثير.
فكان قوله تعالى: {قُلْ إني نُهِيتُ أنْ أعْبُدَ الذينَ تَدْعُون مِن دُوننِ الله لَمَّا جَاءَني البينات مِن رَّبِي} إبطالًا لعبادة غير الله بالقول الدال على التحذير والتخويف بعد أن أبطل ذلك بدلالة الحجة على المقصود.
وهذه دلالة كنائية لأن النهي يستلزم التحذير.
وذكر مجيء البينات في أثناء هذا الخبر إشارة إلى طرق أخرى من الأدلة على تفرد الله بالإِلهية تكررت قبل نزول هذه الآية.
وكان تقديم المسند إليه وهو ضمير {إني} على الخبر الفعلي لتقوية الحكم نحو: هو يعطي الجزيل، وكان تخصيص ذاته بهذا النهي دون تشريكهم في ذلك الغرض الذي تقدم مع العلم بأنهم مَنْهيُّون عن ذلك وإلا فلا فائدة لهم في إبلاغ هذا القول فكان الرسول صلى الله عليه وسلم من حين نشأته لم يسجد لصنم قط وكان ذلك مصرفة من الله تعالى إياه عن ذلك إلهامًا إلهيا إرهاصًا لنبوءته.
و{لمّا} حرف أو ظرف على خلاف بينهم، وأيًّا مَّا كان فهي كلمة تفيد اقتران مضمون جملتين تليانها تُشبِهان جملتي الشرط والجزاء، ولذلك يدعونها لمّا التوقيتية، وحصولَ ذلك في الزمن الماضي، فقوله: {لَمَّا جاءَنِي البينَاتُ من رَّبِي} توقيت لنهيه عن عبادة غير الله بوقت مجيء البينات، أي بينات الوحي فيما مضى وهو يقتضي أن النهي لم يكن قبل وقت مجيء البينات.
والمقصود من إسناد المنهية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم التعريضُ بنهي المشركين، فإن الأمر بأن يقول ذلك لا قصد منه إلا التبليغ لهم وإلا فلا فائدة لهم في الإِخبار بأن الرسول عليه الصلاة والسلام منهي عن أن يعبد الذين يدعون من دون الله، يعني: فإذا كنتُ أنا منهيًا عن ذلك فتأملوا في شأنكم واستعملوا أنظاركم فيه، ليسوقهم إلى النظر في الأدلة سوقًا ليّنًا خفيًا لاتِّبَاعِه فيما نهى عنه، كما جاء ذلك صريحًا لا تعريضًا في قول إبراهيم عليه السلام لأبيه: {يا أبت إني قد جَاءني من العلم ما لم يَأتِك فاتَّبِعْني أهدِك صراطًا سويًّا يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمان عصيا} [مريم: 43، 44] وبُني الفعل للنائب لظهور أن الناهي هو الله تعالى بقرينة مقام التبليغ والرسالة.
ومعنى الدعاء في قوله: {الَّذِينَ تَدْعُون} يجوز أن يكون على ظاهر الدعاء، وهو القول الذي تسأل به حاجة، ويجوز أن يكون بمعنى تعبدون كما تقدم في قوله تعالى: {وقَالَ رَبُّكم ادعُوني أستجب لكم} [غافر: 60] فيكون العدول عن أن يقول: أن أعبد الذين تعبدون، تفننًا.
و مِنْ في قوله: {مِن رَّبِي} ابتدائية، وجعل المجرور ب من وصف رب مضافًا إلى ضمير المتكلم دون أن يجعل مجرورها ضميرًا يعود على اسم الجلالة إظهارًا في مقام الإِضمار على خلاف مقتضى الظاهر لتربية المهابة في نفوس المعرَّض بهم ليعلموا أن هذا النهي ومجيء البينات هو من جانب سيّده وسيدهم فما يسعهم إلا أن يطيعوه ولذلك عززه بإضافة الرب إلى الجميع في قوله: {وَأُمِرتُ أنْ أُسْلِمَ لِرَب العالمين} أي ربكم ورب غيركم فلا منصرف لكم عن طاعته.
والإسلام: الانقياد بالقول والعمل، وفعله متعدّ، وكثر حذف مفعوله فنزّل منزلة اللازم، فأصله: أسلم نفسه أو ذاتَه أو وجهه كما صرح به في نحو قوله تعالى: {فقل أسلمت وجهي للَّه} ومن استعماله كاللازم قوله تعالى: {فقل أسلمت وجهي لله} في سورة آل عمران (20) وقوله تعالى: {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين} في سورة البقرة (131)، وكذلك هو هنا. اهـ.