فصل: قال أبو السعود في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

وقولُه تعالَى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين ءامَنُواْ} كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ من جهتِه تعالَى لبيانِ أنَّ ما أصابَ الكفرةَ من العذابِ المحِكيِّ من فروعِ حكمٍ كليَ تقتضيِه الحكمةُ وهو أنَّ شأنَنا المستمرَّ أنَّا ننصرُ رسلنَا وأتباعَهُم {فِى الحياة الدنيا} بالحجَّةِ والظفرِ والانتقامِ لهم من الكفرةِ بالاستئصالِ والقتلِ والسَّبي وغيرِ ذلكَ من العقوباتِ ولا يقدحُ في ذلكَ ما قدْ يتفقُ لهم من صورةِ الغلبةِ امتحانًا إذِ العبرةُ إنَّما هيَ بالعواقبِ وغالبِ الأمر.
{وَيَوْمَ يَقُومُ الاشهاد} أي يومَ القيامةِ عبرَ عنْهُ بذلكَ للإشعارِ بكيفيةِ النُصرةِ وأنَّها تكونُ عندَ جميعِ الأولينَ والآخِرينَ بشهادةِ الأشهادِ للرسلِ بالتبليغِ وعلى الكفرةِ بالتكذيبِ {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ} بدلٌ من الأولِ وعدمُ نفعِ المعذرةِ لأنَّها باطلةٌ. وقُرئ لا تنفعُ بالتاءِ {وَلَهُمُ اللعنة} أيْ البُعدُ عن الرحمةِ {وَلَهُمْ سُوء الدار} أي جهنُم {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الهدى} ما يُهتدَى بهِ من المعجزاتِ والصحفِ والشرائعِ {وَأَوْرَثْنَا بَنِى إسراءيل الكتاب} وتركنَا عليهم من بعدِه التوراةَ {هُدًى وذكرى} هدايةً وتذكرةً أو هاديًا ومذكرًا {لأُوْلِى الألباب} لذوِي العقولِ السليمةِ العاملينَ بما في تضاعيفِه {فاصبر} على ما نالكَ من أذيةِ المشركينَ {إِنَّ وَعْدَ الله} أيْ وعدَه الذي ينطقُ بهِ قولُه تعالَى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} أو وعدَهُ الخاصَّ بكَ أو جميعَ مواعيدِه التي من جُمْلتها ذلكَ {حَقّ} لا يحتملُ الإخلافَ أصلًا واستشهدْ بحالِ مُوسى وفرعونَ {واستغفر لِذَنبِكَ} تداركًا لما فرَطَ منكَ من تركِ الأَوْلى في بعضِ الأحايينِ فإنَّه تعالَى كافيكَ في نُصرةِ دينكَ وإظهارِه على الدِّينِ كُلِّه {وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ بالعشى والإبكار} أيْ ودُمْ على التسبيحِ ملتبسًا بحمدِه تعالَى، وقيلَ صَلِّ لهذينِ الوقتينِ إذْ كانَ الواجبُ بمكةَ ركعتينِ بُكرةً وركعتينِ عشيًّا، وقيلَ صلِّ شُكرًا لرِّبكَ بالعشيِّ والإبكارَ، وقيلَ هُمَا صلاةُ العصرِ وصلاةُ الفجرِ.
{إِنَّ الذين يجادلون في ءايات الله} ويجحدونَ بها {بِغَيْرِ سلطان أتاهم} في ذلكَ من جهتِه تعالَى، وتقييدُ المجادلةِ بذلكَ مع استحالةِ إتيانِه للإيذانِ بأنَّ التكلَم في أمِر الدِّينِ لابد من استنادِه إلى سطانٍ مبينٍ ألبتةَ وهذا عامٌ لكلِّ مجادلٍ مُبطلٍ وإنْ نزلَ في مُشركِي مكَة. وقولُه تعالَى: {إِن في صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ} خبرٌ لإنَّ، أيْ ما فِي قلوبِهم إلا تكبرٌ عن الحقِّ وتعظّمٌ عن التفكرِ والتعلمِ، أو إلاَّ إرادةُ الرياسةِ والتقدمِ على الإطلاقِ أو إلا إرادةُ أنْ تكونَ النبوةُ لهم دونَك حسدًا وبغيًا حسبَما قالُوا: {لوَلا نُزِّلَ هذا القرآنُ على رجلٍ من القريتينِ عظيمٍ} وقالُوا: {لو كانَ خيرًا ما سبقونَا إليهِ} ولذلكَ يُجادلون فيها لا أنَّ فيها موقعَ جدالٍ ما أو أنَّ لهمُ شيئًا يتوهم أنْ يَصلُحَ مدارًا لمُجادلتِهم في الجُملةِ. وقولُه تعالى: {مَّا هُم ببالغيه} صفةٌ لكِبرٌ. قال مجاهدٌ ما هُم ببالغي مقتضَى ذلكَ الكِبرِ وهُو ما أرادُوه من الرياسةِ أو النبوةِ، وقيلَ المجادلونَ هم اليهودُ وكانُوا يقولونَ لستَ صاحبنَا المذكورَ في التوراةِ بلْ هُو المسيحُ بنُ داودَ يريدونَ الدجَّالَ يخرجُ في آخرِ الزمانِ ويبلغُ سلطانُه البَرَّ والبحرَ وتسيرُ معه الأنهارُ وهُو آيةٌ من آياتِ الله تعالى فيرجعُ إلينا المُلكُ فسمَّى الله تعالَى تمنَّيَهم ذلكَ كبْرًا ونَفَى أنْ يبلُغوا مُتمنَّاهُم {فاستعذ بالله} أي فالتجىءْ إليهِ من كيدِ مَنْ يحسدُكَ ويبغِي عليكَ وفيهِ رمزٌ إلى أنَّه من هَمَزاتِ الشياطينِ {إِنَّهُ هُوَ السميع البصير} لأقوالِكم وأفعالِكم. وقولُه تعالى: {لَخَلْقُ السموات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} تحقيقٌ للحقِّ وتبيينٌ لأشهرِ ما يُجادلونَ فيهِ من أمرِ البعثِ على منهاجِ قولِه تعالى: {أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السموات والأرض بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} لقصُورِهم في النظرِ والتأملِ لفرطِ غفلتِهم واتباعِهم لأهوائِهم.
{وَمَا يَسْتَوِى الأعمى والبصير} أي الغافلُ والمستبصرُ {والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَلاَ المسىء} أي والمحسنُ والمسيءُ فلابد أنْ تكونَ لهم حالٌ أُخرى يظهرُ فيها ما بينَ الفريقينِ من التفاوتِ وهيَ فيما بعدَ البعثِ وزيادةُ لا في المسيءِ لتأكيدِ النفي لطولِ الكلامِ بالصلةِ ولأنَّ المقصودَ نفي مساواتِه للمحسنِ فيَما له من الفضلِ والكرامةِ والعاطفُ الثاني عطفُ الموصولِ بما عُطفَ عليهِ على الأعمى والبصيرُ لتغايرِ الوصفينِ في المقصودِ أو الدلالةِ بالصراحةِ والتمثيلِ {قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ} على الخطابِ بطريقِ الالتفاتِ أي تذكرًا قليلًا تتذكرون، وقُرئ على الغَيبةِ. والضميرُ للناسِ أو الكفَّارِ.
{إِنَّ الساعة لاَتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا} أي في مجيئِها لوضوحِ شواهدِها وإجماعِ الرسلِ على الوعدِ بوقوعِها.
{ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} لا يُصدقونَ بها لقصورِ أنظارِهم على ظواهرِ ما يُحسُّون به.
{وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى} أي اعبدونِي {أَسْتَجِبْ لَكُمْ} أي أُثِبْكُم لقولِه تعالى: {إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخرين} أيْ صاغرينَ أذلاّء وإنْ فُسِّرِ الدعاءُ بالسؤالِ كانَ الأمرُ الصارفُ عنه منزّلًا منزلةَ الاستكبارِ عن العبادةِ للمبالغةِ أو المرادُ بالعبادةِ الدعاءُ فإنَّه من أفضلِ أبوابِها. وقُرئ سيُدخلُونَ على صيغةِ المبنيِّ للمفعولِ من الإدخالِ.
{الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} بأنْ حلقَهُ باردًا مُظلمًا ليُؤدِّيَ إلى ضعفِ المحركاتِ وهُدءِ الحواسِّ لتستريحُوا فيهِ. وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على المفعولِ قد مرَّ سرُّه مرارًا {والنهار مُبْصِرًا} أي مُبصَرًا فيهِ أو بهِ.
{إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ} عظيمٍ لا يُوازيِه ولا يدانيِه فضلٌ.
{عَلَى الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} لجهلِهم بالمُنعمِ وإغفالِهم مواضعَ النعمِ، وتكريرُ النَّاسِ لتخصيصِ الكفرانِ بهم.
{ذلكم} المتفردُ بالأفعالِ المقتضيةِ للألوهيةِ والربوبيةِ {الله رَبُّكُمْ خالق كُلّ شيء لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} أخبارٌ مترادفةٌ تخصصُ اللاحقةُ منها السابقةَ وتُقررها. وقُرئ خالقَ بالنصبِ على الاختصاصِ فيكونُ لاَ إلَه إلا هُو استئنافًا بما هُو كالنتيجة للأوصاف المذكورةِ {فأنى تُؤْفَكُونَ} فكيفَ، ومن أيِّ وجهٍ تُصرفونَ عن عبادتِه خاصَّةً إلى عبادةِ غيرِه {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الذين كَانُواْ بئايات الله يَجْحَدُونَ} أي مثلَ ذلكَ الإفكِ العجيبِ الذي لا وجَه لهُ ولا مصححَ أصلًا يؤفكُ كلُّ من جحدَ بآياتِه تعالَى أيَّ آية كانتْ لا إفكًا آخرَ له وجهٌ ومصحِّحٌ في الجملة {الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَارًا والسماء بِنَاء} بيانٌ لفضلِه تعالى المتعلقِ بالمكانِ بعد بيانِ فضلِه المتعلقِ بالزمانِ. وقولُه تعالَى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} بيانٌ لفضلِه المتعلقِ بأنفسِهم، والفاءُ في فأحسنَ تفسيريةٌ فإنَّ الإحسانَ عينُ التصويرِ أي صوَّركُم أحسنَ تصويرٍ حيثُ خلقكُم مُنتصِبي القامةِ باديَ البَشَرةِ متناسبَ الأعضاءِ والتخطيطاتِ متهيئًا لمزاولةِ الصنائعِ واكتسابِ الكمالاتِ.
{وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات} أي اللذائذِ {ذلكم} الذي نُعتَ بما ذُكرَ من النعوتِ الجليلةِ {الله رَبُّكُمُ} خبرانِ لذلكُم {فَتَبَارَكَ الله} أي تعالَى بذاتِه {رَبّ العالمين} أي مالكُهم ومربيِهم والكلُّ تحتَ ملكوتِه مفتقرٌ إليه في ذاتِه ووجودِه وسائرِ أحوالِه جميعًا بحيثُ لو انقطعَ فيضُه عَنه آنًا لانعدمَ بالكليةِ.
{هُوَ الحى} المتفردُ بالحياةِ الذاتيةِ الحقيقةِ {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} إذْ لاَ موجودَ يدانيهِ في ذاتِه وصفاتِه وأفعالِه {فادعوه} فاعبدُوه خاصَّةً لاختصاصِ ما يُوجبه به تعالى: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أي الطاعةَ من الشركِ الجليِّ والخفيِّ {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين} أيْ قائلينَ ذلكَ، عن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنُهمَا: مَنْ قالَ لا إلهَ إلاَّ الله فليقُلْ علَى أثرِها الحُمد الله ربِّ العالمينَ.
{قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَمَّا جَاءنِى البينات مِن رَّبّى} من الحججِ والآياتِ أو من الآياتِ لكونِها مؤيدةً لأدلةِ العقلِ منبهةً عليها فإنَّ الآياتِ التنزيليةَ مفسراتٌ للآياتِ التكوينيةِ الآفاقيةِ والأنفُسية.
{وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبّ العالمين} أيْ بأنْ أنقادَ لهُ وأخلصَ له دِيني. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53)}.
قوله: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الهدى} هذا من جملة ما قصه الله سبحانه قريبًا من نصره لرسله، أي: آتيناه التوراة، والنبوّة، كما في قوله سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة: 44] قال مقاتل: الهدى من الضلالة يعني: التوراة {وَأَوْرَثْنَا بَنِى إسراءيل الكتاب هُدًى وذكرى لأُوْلِى الالباب} المراد بالكتاب: التوراة، ومعنى {أورثنا} أن الله سبحانه لما أنزل التوراة على موسى بقيت بعده فيهم، وتوارثوها خلفًا عن سلف.
وقيل: المراد بالكتاب: سائر الكتب المنزلة على أنبياء بني إسرائيل بعد موت موسى، وهدى، وذكرى في محل نصب على أنهما مفعول لأجله، أي: لأجل الهدى، والذكر، أو على أنهما مصدران في موضع الحال، أي: هاديًا ومذكرًا، والمراد بأولي الألباب: أهل العقول السليمة.
ثم أمر الله، رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على الأذى، فقال: {فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} أي: اصبر على أذى المشركين كما صبر من قبلك من الرسل إن وعد الله الذي وعد به رسله حقّ لا خلف فيه، ولا شك في وقوعه كما في قوله: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} وقوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 171 173] قال الكلبي: نسخ هذا بآية السيف.
ثم أمره سبحانه بالاستغفار لذنبه، فقال: {واستغفر لِذَنبِكَ} قيل: المراد ذنب أمتك، فهو على حذف مضاف.
وقيل: المراد الصغائر عند من يجوّزها على الأنبياء.
وقيل: هو مجرد تعبد له بالاستغفار لزيادة الثواب، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر {وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ بالعشى والإبكار} أي: دم على تنزيه الله ملتبسًا بحمده.
وقيل: المراد صلّ في الوقتين صلاة العصر، وصلاة الفجر.
قاله الحسن، وقتادة.
وقيل: هما صلاتان ركعتان غدوة، وركعتان عشية، وذلك قبل أن تفرض الصلوات الخمس {إِنَّ الذين يجادلون في ءايات الله بِغَيْرِ سلطان أتاهم} أي: بغير حجة ظاهرة واضحة جاءتهم من جهة الله سبحانه {إِن في صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ} أي: ما في قلوبهم إلا تكبرًا عن الحق يحملهم على تكذيبك، وجملة: {مَّا هُم ببالغيه} صفة لكبر قال الزجاج: المعنى: ما في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغي إرادتهم فيه، فجعله على حذف المضاف.
وقال غيره: ما هم ببالغي الكبر.
وقال ابن قتيبة: المعنى: إن في صدورهم إلا كبر، أي: تكبر على محمد صلى الله عليه وسلم، وطمع أن يغلبوه، وما هم ببالغي ذلك.
وقيل: المراد بالكبر: الأمر الكبير، أي: يطلبون النبوّة، أو يطلبون أمرًا كبيرًا يصلون به إليك من القتل، ونحوه، ولا يبلغون ذلك.
وقال مجاهد: معناه: في صدورهم عظمة ما هم ببالغيها.
والمراد بهذه الآية: المشركون.
وقيل: اليهود كما سيأتي بيانه آخر البحث إن شاء الله.
ثم أمره الله سبحانه بأن يستعيذ بالله من شرورهم، فقال: {فاستعذ بالله إِنَّهُ هُوَ السميع البصير} أي: فالتجىء إليه من شرّهم، وكيدهم، وبغيهم عليك إنه السميع لأقوالهم البصير بأفعالهم لا تخفى عليه من ذلك خافية.
ثم بيّن سبحانه عظيم قدرته، فقال: {لَخَلْقُ السموات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} أي: أعظم في النفوس، وأجلّ في الصدور، لعظم أجرامهما، واستقرارهما من غير عمد، وجريان الأفلاك بالكواكب من غير سبب، فكيف ينكرون البعث، وإحياء ما هو دونهما من كل وجه كما في قوله: {أَوَ لَيْسَ الذي خَلَقَ السموات والأرض بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} [ياس: 81] قال أبو العالية: المعنى: لخلق السموات، والأرض أعظم من خلق الدجال حين عظمته اليهود.
وقال يحيى بن سلام: هو احتجاج على منكري البعث، أي: هما أكبر من إعادة خلق الناس {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} بعظيم قدرة الله، وأنه لا يعجزه شيء.
ثم لما ذكر سبحانه الجدال بالباطل ذكر مثالًا للباطل، والحق، وأنهما لا يستويان، فقال: {وَمَا يَسْتَوِى الأعمى والبصير} أي: الذي يجادل بالباطل، والذي يجادل بالحق {والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَلاَ المسىء} أي: ولا يستوي المحسن بالإيمان، والعمل الصالح، والمسيء بالكفر، والمعاصي، وزيادة لا في، {ولا المسيء} للتأكيد {قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ} قرأ الجمهور: {يتذكرون} بالتحتية على الغيبة، واختار هذه القراءة أبو عبيد، وأبو حاتم، لأن قبلها، وبعدها على الغيبة لا على الخطاب، وقرأ الكوفيون بالفوقية على الخطاب بطريقة الالتفات، أي: تذكرًا قليلًا ما تتذكرون.
{إِنَّ الساعة لأَتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا} أي: لا شك في مجيئها، وحصولها {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} بذلك، ولا يصدقونه لقصور أفهامهم، وضعف عقولهم عن إدراك الحجة، والمراد بأكثر الناس الكفار الذين ينكرون البعث.
ثم لما بيّن سبحانه أن قيام الساعة حق لا شك فيه، ولا شبهة، أرشد عباده إلى ما هو الوسيلة إلى السعادة في دار الخلود، فأمر رسوله: أن يحكي عنه ما أمره بإبلاغه، وهو: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} قال أكثر المفسرين المعنى: وحدوني، واعبدوني أتقبل عبادتكم، وأغفر لكم.
وقيل: المراد بالدعاء: السؤال بجلب النفع، ودفع الضر.
قيل: الأوّل أولى؛ لأن الدعاء في أكثر استعمالات الكتاب العزيز هو: العبادة.
قلت: بل الثاني أولى؛ لأن معنى الدعاء حقيقة، وشرعًا هو: الطلب، فإن استعمل في غير ذلك، فهو: مجاز، على أن الدعاء في نفسه باعتبار معناه الحقيقي هو: عبادة، بل مخ العبادة كما ورد بذلك الحديث الصحيح، فالله سبحانه قد أمر عباده بدعائه، ووعدهم بالإجابة، ووعده الحق، وما يبدّل القول لديه، ولا يخلف الميعاد.
ثم صرّح سبحانه بأن هذا الدعاء باعتبار معناه الحقيقي، وهو الطلب هو من عبادته، فقال: {إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخرين} أي: ذليلين صاغرين، وهذا وعيد شديد لمن استكبر عن دعاء الله، وفيه لطف بعباده عظيم، وإحسان إليهم جليل حيث توعد من ترك طلب الخير منه، واستدفاع الشرّ به بهذا الوعيد البالغ، وعاقبه بهذه العقوبة العظيمة، فيا عباد الله وجهوا رغباتكم، وعوّلوا في كل طلباتكم على من أمركم بتوجيهها إليه، وأرشدكم إلى التعويل عليه، وكفل لكم الإجابة به بإعطاء الطلبة، فهو الكريم المطلق الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ويغضب على من لم يطلب من فضله العظيم، وملكه الواسع ما يحتاجه من أمور الدنيا والدين.