فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والزمان متشابه فقد رأينا من ترك متابعة خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم واستنكف عن الانتساب إلى شريعة أحد منهم فرحًا بما لحس من فضلات الفلاسفة وقال: إن العلم هو ذاك دون ما جاء به الرسل صلوا ت الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين.
الثالث: أن أصل المعنى فلما جاءتهم رسلهم بالبينات لم يفرحوا بما جاءهم من العلم فوضعوا موضعه فرحوا بما عندهم من الجهل ثم سمي ذلك الجهل علمًا لاغتباطهم به ووضعهم إياه مكان ما ينبغي لهم من الاغتباط بما جاءهم من العلم، وفيه التهكم بفرط جهلهم والمبالغة في خلوهم من العلم، وضمير {فَرِحُواْ} و{عِندَهُمُ} على هذه الأوجه للكفرة المحدث عنهم.
الرابع: أن يجعل ضمير {فَرِحُواْ} للكفرة وضمير {عِندَهُمُ} للرسل عليهم السلام، والمراد بالعلم الحق الذي جاء المرسلون به أي فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك منه واستهزاء به، وخلاصته أنهم استهزؤا بالبينات وبما جاء به الرسل من علم الوحي، ويؤيد هذا قوله تعالى: {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ}.
الخامس: أن يجعل الضمير أن للرسل عليهم السلام، والمعنى أن الرسل لما رأوا جهل الكفرة المتمادي واستهزاءهم بالحق وعلموا سوء عاقبتهم وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم واستهزائهم فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله تعالى وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم، وحكي هذا عن الجبائي السادس: أن يجعل الضميران للكفار، والمراد بما عندهم من العلم علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها كما قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غافلون} [الروم: 7] {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ العلم} [النجم: 30] فلما جاءهم الرسل بعلم الديانات وهي أبعد شيء من علمهم لبعثها على رفض الدنيا والظلف عن الملاذ والشهوات لم يلتفتوا إليها وصغروها واستهزؤا بها واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم ففرحوا به، قال صاحب الكشف: والأرجح من بين هذه الأوجه الستة الثالث ففيه التهكم والمبالغة في خلوهم من العلم ومشتمل على ما يشتمل عليه الأول وزيادة سالم عن عدم الطباق للواقع كما في الثاني وعن قصور العبارة عن الأداء كالرابع وعن فك الضمائر كما في الخامس، والسادس قريب لكنه قاصر عن فوائد الثالث انتهى فتأمله جدًّا.
وأبو حيان استحسن الوجه السادس وتعقب الوجه الثالث بأنه لا يعبر بالجملة الظاهر كونها مثبتة عن الجملة المنفية إلا في قليل من الكلام نحو شر أهر ذا ناب على خلاف فيه، ولما آل أمره إلى الإثبات المحصور جاز، وأما الآية فينبغي أن لا تحمل على القليل لأن في ذلك تخليطًا لمعاني الجمل المتباينة فلا يوثق بشيء منها، وأنت تعلم أنه لا تباين معنى بين لم يفرحوا بما جاءهم من العلم و{فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مّنَ العلم} على ما قرر.
نعم هذا الوجه عندي مع ما فيه من حسن لا يخلو عن بعد، وكلام صاحب الكشف لا يخلو عن دغدغة.
{فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} شدة عذابنا ومنه قوله تعالى: {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف: 165] {قَالُواْ ءامَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} يعنون الأصنام أو سائر آلهتهم الباطلة: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} أي عند رؤية عذابنا لأن الحكمة الإلهية قضت أن لا يقبل مثل ذلك الإيمان، و{أيمانهم} رفع بيك اسمًا لها أو فاعل {يَنفَعُهُمْ} وفي {يَكُ} ضمير الشأن على الخلاف الذي في كان يقوم زيد، ودخل حرف النفي على الكون لا على النفع لإفادة معنى نفي الصحة فكأنه لم يصح ولم يستقم حكمة نفع إيمانهم إياهم عند رؤية العذاب، وههنا أربعة فاءات فاء {فَمَا أغنى} [غافر: 82] وفاء {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ} [غافر: 83] وفاء {فَلَمَّا رَأَوْاْ} وفاء {فَلَمْ يَكُ} فالفاء الأولى: مثلها في نحو قولك: رزق المال فمنع المعروف فما بعدها نتيجة مآلية لما كانوا فيه من التكاثر بالأموال والأولاد والتمتع بالحصون ونحوها، والثانية: تفسيرية مثلها في قولك: فلم يحسن إلى الفقراء بعد فمنع المعروف في المثال فما بعدها إلى قوله تعالى: {وَحَاقَ بِهِم} [غافر: 83] إيضاح لذلك المجمل وأنه كيف انتهى بهم الأمر إلى عكس ما أملوه وأنهم كيف جمعوا واحتشدوا وأوسعوا في إطفاء نور الله وكيف حاق المكر السيء بأهله إذ كان في قوله سبحانه: {فَمَا أغنى عَنْهُمْ} إيماءً بأنهم زاولوا أن يجعلوها مغنية، والثالثة: للتعقيب، وجعل ما بعدها تابعًا لما قبلها واقعًا عقيبه {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} مترتب على قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ} إلخ تابع له لأنه بمنزلة فكفروا إلا أن {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ} الآية بيان كفر مفصل مشتمل على سوء معاملتهم وكفرانهم بنعمة الله تعالى العظمى من الكتاب والرسول فكأنه قيل: فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا، ومثلها الفاء الرابعة فما بعدها عطف على آمنوا دلالة على أن عدم نفع إيمانهم ورده عليهم تابع للإيمان عند رؤية العذاب كأنه قيل: فلما رأوا بأسنا آمنوا فلم ينفعهم إيمانهم إذ النافع إيمان الاختيار {سُنَّتُ الله التي قَدْ خَلَتْ في عِبَادِهِ} أي سن الله تعالى ذلك أعني عدم نفع الإيمان عند رؤية البأس سنة ماضية في البعاد، وهي من المصادر المؤكدة ك {وعد} [النساء: 122] الله {وصبغة الله} [البقرة: 138] وجوز انتصابها على التحذير أي احذروا يا أهل مكة سنة الله تعالى في أعداء الرسل.
{وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون} أي وقت رؤيتهم البأس على أنه اسم مكان قد استعير للزمان كما سلف آنفًا، وهذا الحكم خاص بإيمان البأس وأما توبة البأس فهي مقبولة نافعة بفضل الله تعالى وكرمه، والفرق ظاهر.
وعن بعض الأكابر أن إيمان البأس مقبول أيضًا ومعنى {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} أن نفس إيمانهم لم ينفعهم وإنما نفعهم الله تعالى حقيقة به، ولا يخفى عليك حال هذا التأويل وما كان من ذلك القبيل والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} تفريع هذا الاستفهام عقب قوله: {وَيُرِيكُم ءاياته} [غافر: 81]، يقتضي أنه مساوق للتفريع الذي قبله وهو {فَأَيَّ ءاياتت الله تُنكِرُونَ} [غافر: 81] فيقتضي أن السيْر المستفهم عنه بالإِنكار على تركه هو سير تحصل فيه آيات ودلائل على وجود الله ووحدانيته وكلا التفريعينْ متصل بقوله: {وَلِتَبلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً في صُدُورِكُم وعَلَيها وعَلَى الفُلْككِ تُحْمَلُونَ} [غافر: 80]، فذلك هو مناسبة الانتقال إلى التذكير بعبرة آثار الأمم التي استأصلها الله تعالى لما كذبت رُسله وجحدت آياته ونعمه.
وحصل بذلك تكرير الإنكار الذي في قوله قبل هذا: {أوَلَمْ يَسِيروا في الأرْضضِ فَيَنظُرُوا كَيفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانوا مِن قَبْلِهِم كَانُوا هم أَشَدَّ منهم قُوَّةً} [غافر: 21] الآية، فكان ما تقدم انتقالًا عقب آيات الإِنذار والتهديد، وكان هذا انتقالًا عقب آيات الامتنان والاستدلال، وفي كلا الانتقالين تذكير وتهديد ووعيد.
وهو يشير إلى أنهم إن لم يكونوا ممن تزعهم النعم عن كفران مسديها كشأن أهل النفوس الكريمة فليكونوا ممن يردعهم الخوف من البطش كشأن أهل النفوس اللئيمة فليضعوا أنفسهم حيث يختارون من إحدى الخطتين.
والقول في قوله: {أفَلَمْ يَسِيرُوا في الأرْضِ} إلى قوله: {وَءَاثَارًا في الأرْضِ} مثل القول في نظيره السابق في هذه السورة، وخولف في عطف جملة {أفَلَمْ يَسِيرُوا} بين هذه الآية فعطفت بالفاء للتفريع لوقوعها بعدما يصلح لأن يفرع عنه إنكار عدم النظر في عاقبة الذين من قبلهم بخلاف نظيرها الذي قبلها فقد وقع بعد إنذارهم بيوم الآزفة.
وجملة {فَمَا أغنى عَنْهم مَا كَانُوا يَكْسِبونَ} معترضة والفاء للتفريع على قوله: {كَانُوا أكْثَرَ مِنْهُم} وهو كقوله تعالى: {هذا فليذوقوه حميم وغساق} [ص: 57] وقول عنترة:
ولقد نَزَلْتتِ فلا تظنّي غيره ** مني بمنزلة المحَبّ المكرَم

وفائدة هذا الاعتراض التعجيل بإفادة إن كثرتهم وقوتهم وحصونهم وجناتهم لم تغن عنهم من بأس الله شيئًا.
وجملة {فَلَمَّا جَاءَتْهُم رُسُلُهم بالبينات} الآية مفرعة على جملة {كَانُوا أكْثَرَ مِنْهُم} أي كانوا كذلك إلى أن جاءتهم رسل الله إليهم بالبينات فلم يُصدقوهم فرأوا بأسنا.
وجعلها في الكشاف جارية مجرى البيان والتفسير لقوله: {فَمَا أغنى عَنْهُم} وما سلَكْتُه أنا أحسن ومَوقع الفاء يؤيده.
ولِما في لَمَّا من معنى التوقيت أفادت معنى أن الله لم يغير ما بهم من النعم العظمى حتى كذبوا رسله.
وجواب لمّا جملة {فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِنَ العِلْمِ} وما عطف عليها.
واعلم أن المفسرين ذهبوا في تفسير هذه الآية طرائق قِددًا ذكر بعضها الطبري عن بعض سلف المفسرين.
وأنهاها صاحب الكشاف إلى ستّ، ومال صاحب الكشف إلى إحداها، وأبو حيان إلى أُخرى ولا حاجة إلى جلب ذلك.
والطريقة التي يرجح سلوكها هي أن هنا ضمائر عشرة هي ضمائر جمع الغائبين وأن بعضها عائد لا محالة على {الَّذِينَ مِن قَبلِهم} وأن وجه النظم أن تكون الضمائر متناسقة غير مفككة فلذا يتعين أن تكون عائدة إلى معاد واحد، فالذين {فَرحوا بما عندهم من العلم} هم الذين جَاءتهم رُسُلهم بالبينات، وهم الذين {حَاق بهم ما كانوا به يستهزئون} والذين رأوا بأس الله، فما بنا إلا أن نُبين معنى {فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِنَ العِلمِ}.
فالفَرَح هنا مكنّى به عن آثاره وهي الازدهاء كما في قوله تعالى: {إذ قال له قومه لا تفرح} [القصص: 76] أي بما أنت فيه مكنىًّ به هنا عن تمسكهم بما هم عليه، فالمعنى: أنهم جادلوا الرسل وكابروا الأدلة وأعرضوا عن النظر.
وما عندهم من العلم هو معتقداتهم الموروثة عن أَهل الضلالة من أسلافهم.
قال مجاهد: قالوا لرسلهم: نحن أعلم منكم لن نُبعث ولن نُعذب. اهـ.
وإطلاق العلم على اعتقادهم تهكم وجري على حسب معتقدهم وإلا فهو جهل.
وقال السُدّي: فرحوا بما عندهم من العلم بجهلهم يعني فهو من قبيل قوله تعالى: {قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون} [الأنعام: 148].
وحاق بهم: أحاط، يقال: حاق يحيق حيقا، إذا أحاط، وهو هنا مستعار للشدة التي لا تنفيس بها لأن المحيط بشيء لا يدع له مَفرجًا.
و{مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهزِءُونَ} هو الاستئصال والعذاب.
والمعنى: أن رسلهم أوعدوهم بالعذاب فاستهزؤوا بالعذاب، أي بوقوعه وفي ذكر فعل الكون تنبيه على أن الاستهزاء بوعيد الرسل كان شنشنة لهم، وفي الإتيان ب {يستهزؤون} مُضارعًا إفادة لتكرر استهزائهم.
{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84)} {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا ءَامَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} {مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} موقع جملة {فَلَمَّا رَأَوا بَأْسَنَا} من قوله: {فَلَمَّا جَاءَتْهُم رُسُلهم بالبينات} [غافر: 83] كموقع جملة {فَلَمَّا جَاءَتْهُم رُسُلهم من قوله كَانُوا أكْثَرَ مِنْهُم} [غافر: 82] لأن إفادة لمَّا معنى التوقيت يثير معنى توقيتتِ انتهاء ما قبلها، أي دام دُعاء الرسل إياهم ودام تكذيبهم واستهزَاؤهم إلى أن رَأوا بأسنا فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده.
والبَأْس: الشدة في المكروه، وهو جامع لأصناف العذاب كقوله تعالى: {فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا} [الأنعام: 42، 43] فذلك البأس بمعنى البَأساء، ألا ترى إلى قوله: تضرعوا وهو هنا يقول: {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} فالبأس هنا العذاب الخارق للعادة المنذِرُ بالفناء فإنهم لما رأوه علموا أنه العذاب الذي أُنذروه.
وفرّع عليه قوله: {فَلَم يَكُ يَنفَعُهُم إيمانهم لَمَّا رَأَوا بَأْسَنا} أي حين شاهدوا العذاب لم ينفعهم الإِيمان لأن الله لا يقبل الإِيمان عند نزول عذابه.
وعُدل عن أن يقال: فلم ينفعهم، إلى قوله: {فَلَم يَكُ يَنفَعُهُم} لدلالة فعل الكون على أن خبره مقررُ الثبوتتِ لاسمه، فلما أريد نفي ثبوت النفع إياهم بعد فوات وقته اجتلب لذلك نفي فعل الكون الذي خبره {ينفعهم}.
والمعنى أن الإِيمان بعد رؤية بوارق العذاب لا يفيد صاحبه مثل الإِيمان عند الغَرْغرة ومثل الإِيمان عند طلوع الشمس من مغربها كما جاء في الحديث الصحيح وسيأتي بيان هذا عَقبه.
{بَأْسَنَا سُنَّةَ الله التي قَدْ خَلَتْ في عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ} انتصب {سُنَّتَ الله} على النيابة عن المفعول المطلق لأن {سنت} اسم مصدر السَّنِّ، وهو آتتٍ بدلًا من فعله، والتقدير: سَنَّ الله ذلك سُنَّةً، فالجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا جوابًا لسؤال مَن يسأل لماذا لم ينفعهم الإِيمان وقد آمنوا، فالجواب أن ذلك تقدير قدّره الله للأمم السالفة أعلمهم به وشَرَطه عليهم فهي قَديمة في عباده لا ينفع الكافر الإِيمان إلا قبل ظهور البأس ولم يستثن من ذلك إلا قوم يونس قال تعالى: {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا} [يونس: 98].
وهذا حكم الله في البأس بمعنى العقاب الخارق للعادة والذي هو آية بينة، فأما البأس الذي هو معتاد والذي هو آية خفية مثل عذاب بأس السيف الذي نَصر الله به رسوله يومَ بدر ويومَ فتح مكة، فإنَّ من يؤمن عند رؤيته مثلُ أبي سفيان بن حرب حين رأى جيش الفتح، أو بعد أن ينجو منه مثلَ إيمان قريش يوم الفَتح بعد رفع السيف عنهم، فإيمانه كامل مثل إيمان خالد بن الوليد، وأبي سفيان بن الحَارث بن عبد المطلب، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح بعد ارتداده.
ووجه عدم قبول الإِيمان عند حلول عذاب الاستئصال وقبوللِ الإِيمان عند نزول بأس السيف؛ أن عذاب الاستئصال مشارفة للهلاك والخروج من عالم الدنيا فإيقاع الإِيمان عنده لا يحصِّل المقصد من إيجاب الإِيمان وهو أن يكون المؤمنون حزبًا وأنصارًا لدينه وأنصارًا لرسله، وماذا يغني إيمان قوم لم يَبق فيهم إلاّ رمق ضعيف من حياة، فإيمانهم حينئذٍ بمنزلة اعتراف أهل الحشر بذنوبهم وليست ساعة عمل، قال تعالى في شأن فرعون: {إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين ءالآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} [يونس: 90، 91]، أي فلم يبق وقت لاستدراك عصيانه وإفساده، وقال تعالى: {يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا} [الأنعام: 158] فأشار قوله: {أو كسبت في إيمانها خيرًا} إلى حكمة عدم انتفاع أحد بإيمانه ساعتئذٍ.
وإنما كان ما حل بقوم يونس حالًا وسيطًا بين ظهور البأس وبين الشعور به عند ظهور علاقاته كما بيّناه في سورة يونس.
وجملة {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون} كالفذلكة لقوله: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُم إيمانهم لَمَّا رَأوا بَأْسَنا} وبذلك آذنت بانتهاء الغرض من السورة.
و{هنالك} اسم إشارة إلى مكانٍ، استعير للإِشارة إلى الزمان، أي خسروا وقتَ رؤيتهم بأسنا إذْ انقضت حياتهم وسلطانهم وصاروا إلى ترقب عذاب خالد مستقبل.