فصل: (سورة غافر: آية 61):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة غافر: آية 61]:

{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61)}.
{مُبْصِرًا} من الإسناد المجازى، لأن الإبصار في الحقيقة لأهل النهار. فإن قلت: لم قرن الليل بالمفعول له، والنهار بالحال؟ وهلا كانا حالين أو مفعولا لهما فيراعى حق المقابلة؟ قلت: هما متقابلان من حيث المعنى، لأن كل واحد منهما يؤدى مؤدى الآخر، ولأنه لو قيل: لتبصروا فيه، فاتت الفصاحة التي في الإسناد المجازى، ولو قيل: ساكنا-والليل يجوز أن يوصف بالسكون على الحقيقة، ألا ترى إلى قولهم: ليل ساج، وساكن لا ريح فيه- لم تتميز الحقيقة من المجاز. فإن قلت: فهلا قيل: لمفضل، أو لمتفضل؟ قلت: لأن الغرض تنكير الفضل، وأن يجعل فضلا لا يوازيه فضل، وذلك إنما يستوي بالإضافة. فإن قلت: فلو قيل: ولكن أكثرهم، فلا يتكرر ذكر الناس؟ قلت: في هذا التكرير تخصيص لكفران النعمة بهم، وأنهم هم الذين يكفرون فضل اللّه ولا يشكرونه، كقوله: {إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ} {إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} {إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}.

.[سورة غافر: الآيات 62- 63]:

{ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63)}.
{ذلِكُمُ} المعلوم المتميز بالأفعال الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد هو {اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ} أخبار مترادفة، أي: هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية وخلق كل شيء وإنشائه لا يمتنع عليه شيء، والوحدانية: لا ثانى له {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} فكيف ومن أي وجه تصرفون عن عبادته إلى عبادة الأوثان. ثم ذكر أن كل من جحد بآيات اللّه ولم يتأملها ولم يكن فيه همة طلب الحق وخشية العاقبة: أفك كما أفكوا. وقرئ: {خالق كل شيء} نصبا على الاختصاص. و{تؤفكون} بالتاء والياء.

.[سورة غافر: الآيات 64- 65]:

{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرارًا وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65)}.
هذه أيضا دلالة أخرى على تمييزه بأفعال خاصة، وهي أنه جعل الأرض مستقرا {وَالسَّماءَ بِناءً} أي قبة. ومنه: أبنية العرب لمضاربهم، لأنّ السماء في منظر العين كقبة مضروبة على وجه الأرض {فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} وقرئ بكسر الصاد والمعنى واحد. قيل: لم يخلق حيوانا أحسن صورة من الإنسان: وقيل لم يخلقهم منكوسين كالبهائم، كقوله تعالى: {فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ فَادْعُوهُ فاعبدوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي الطاعة من الشرك والرياء، قائلين {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما: من قال لا إله إلا اللّه. فليقل على أثرها: الحمد للّه رب العالمين.

.[سورة غافر: آية 66]:

{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66)} فإن قلت: أما نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن عبادة الأوثان بأدلة العقل حتى جاءته البينات من ربه؟ قلت: بلى ولكن البينات لما كانت مقوية لأدلة العقل ومؤكدة لها ومضمنة ذكرها نحو قوله تعالى: {أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ} وأشباه ذلك من التنبيه على أدلة العقل- كان ذكر البينات ذكر الأدلة العقل والسمع جميعا، وإنما ذكر ما يدل على الأمرين جميعا، لأن ذكر تناصر الأدلة أدلة العقل وأدلة السمع أقوى في إبطال مذهبهم، وإن كانت أدلة العقل وحدها كافية.

.[سورة غافر: آية 67]:

{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67)}.
{لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} متعلق بفعل محذوف تقديره: ثم يبقيكم لتبلغوا. وكذلك لتكونوا. وأما {وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى} فمعناه: ونفعل ذلك لتبلغوا أجلا مسمى، وهو وقت الموت. وقيل: يوم القيامة. وقرئ: {شيوخا} بكسر الشين. و{شيخا} على التوحيد، كقوله {طِفْلًا} والمعنى: كل واحد منكم. أو اقتصر على الواحد، لأنّ الغرض بيان الجنس {مِنْ قَبْلُ} من قبل الشيخوخة أو من قبل هذه الأحوال إذا خرج سقطا {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ما في ذلك من العبر والحجج.

.[سورة غافر: آية 68]:

{هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْرًا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)}.
{فَإِذا قَضى أَمْرًا فَإِنَّما} يكونه من غير كلفة ولا معاناة. جعل هذا نتيجة من قدرته على الإحياء والإماتة، وسائر ما ذكر من أفعاله الدالة على أنّ مقدورا لا يمتنع عليه، كأنه قال: فلذلك من الاقتدار إذا قضى أمرا كان أهون شيء وأسرعه.

.[سورة غافر: الآيات 69- 76]:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)}.
{بِالْكِتابِ} بالقرآن {وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا} من الكتب. فإن قلت: وهل قوله {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ} إلى مثل قولك: سوف أصوم أمس؟ قلت: المعنى على إذا: إلا أن الأمور المستقبلة لما كانت في أخبار اللّه تعالى متيقنة مقطوعا بها: عبر عنها بلفظ ما كان ووجد، والمعنى على الاستقبال. وعن ابن عباس: {والسلاسل يسحبون} بالنصب وفتح الياء، على عطف الجملة الفعلية على الاسمية. وعنه: {والسلاسل يسحبون} بجر السلاسل، ووجهه أنه لو قيل: إذ أعناقهم في الأغلال مكان قوله {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ} لكان صحيحا مستقيما، فلما كانتا عبارتين معتقبتين: حمل قوله {وَالسَّلاسِلُ} على العبارة الأخرى. ونظيره:
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ** ولا ناعب إلّا ببين غرابها

كأنه قيل: بمصلحين. وقرئ: {وبالسلاسل يسحبون}.
{فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} من سجر التنور إذا ملأه بالوقود.
ومنه: السجير، كأنه سجر بالحب، أي: مليء. ومعناه: أنهم في النار فهي محيطة بهم، وهم مسجورون بالنار مملوءة بها أجوافهم. ومنه قوله تعالى: {نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} اللهم أجرنا من نارك فإنا عائذون بجوارك ضَلُّوا عَنَّا غابوا عن عيوننا، فلا نراهم ولا ننتفع بهم. فإن قلت: أما ذكرت في تفسير قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} أنهم مقرونون بآلهتهم، فكيف يكونون معهم وقد ضلوا عنهم؟ قلت: يجوز أن يضلوا عنهم إذا وبخوا وقيل لهم: أينما كنتم تشركون من دون اللّه فيغيثوكم ويشفعوا لكم، وأن يكونوا معهم في سائر الأوقات، وأن يكونوا معهم في جميع أوقاتهم، إلا أنهم لما لم ينفعوهم فكأنهم ضالون عنهم {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} أي تبين لنا أنهم لم يكونوا شيئا، وما كنا نعبد بعبادتهم شيئا كما تقول: حسبت أنّ فلانا شيء فإذا هو ليس بشيء إذا خبرته فلم تر عنده خيرا {كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ} مثل ضلال آلهتهم عنهم يضلهم عن آلهتهم، حتى لو طلبوا الآلهة أو طلبتهم الآلهة لم يتصادفوا {ذلِكُمْ} الإضلال بسبب ما كان لكم من الفرح والمرح {بِغَيْرِ الْحَقِّ} وهو الشرك وعبادة الأوثان {ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ} السبعة المقسومة لكم. قال اللّه تعالى {لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} {خالِدِينَ} مقدّرين الخلود {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} عن الحق المستخفين به مثواكم أو جهنم. فإن قلت: أليس قياس النظم أن يقال: فبئس مدخل المتكبرين، كما تقول: زر بيت اللّه فنعم المزار، وصل في المسجد الحرام فنعم المصلى؟ قلت: الدخول المؤقت بالخلود في معنى الثواء.

.[سورة غافر: آية 77]:

{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77)}.
{فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} أصله: فإن ترك و ما مزيدة لتأكيد معنى الشرط، ولذلك ألحقت النون بالفعل. ألا تراك لا تقول. إن تكرمني أكرمك، ولكن: إما تكرمني أكرمك. فإن قلت: لا يخلو إما أن تعطف {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} على نرينك وتشركهما في جزاء واحد وهو قوله تعالى: {فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ} فقولك: فإمّا نرينك بعض الذي نعدهم فإلينا يرجعون: غير صحيح، وإن جعلت {فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ} مختصا بالمعطوف الذي هو نتوفينك، في المعطوف عليه بغير جزاء.
قلت: {فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ} متعلق بنتوفينك، وجزاء {نُرِيَنَّكَ} محذوف، تقديره: فإما نرينك بعض الذي نعدهم من العذاب وهو القتل والأسر يوم بدر فذاك. أو إن نتوفينك قبل يوم بدر فإلينا يرجعون يوم القيامة فننتقم منهم أشدّ الانتقام ونحره قوله تعالى: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ}.

.[سورة غافر: آية 78]:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)}.
{وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} قيل: بعث اللّه ثمانية آلاف نبىّ: أربعة آلاف من بنى إسرائيل، وأربعة آلاف من سائر الناس. وعن علىّ رضى اللّه عنه: أنّ اللّه تعالى بعث نبيا أسود، فهو ممن لم يقصص عليه. وهذا في اقتراحهم الآيات على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عنادا، يعنى: إنا قد أرسلنا كثيرا من الرسل وما كان لواحد منهم {أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} فمن لي بأن آتى بآية مما تقترحونه إلا أن يشاء اللّه ويأذن في الإتيان بها {فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ} وعيد وردّ عقيب اقتراح الآيات. وأمر اللّه: القيامة {الْمُبْطِلُونَ} هم المعاندون الذين اقترحوا الآيات وقد أتتهم الآيات فأنكروها وسموها سحرا.

.[سورة غافر: الآيات 79- 81]:

{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)}.
الأنعام: الإبل خاصة، فإن قلت: لم قال {لِتَرْكَبُوا مِنْها} ولتبلغوا عليها، ولم يقل، لتأكلوا منها ولتصلوا إلى منافع؟ أو هلا قال: منها تركبون ومنها تأكلون وتبلغون عليها حاجة في صدوركم؟ قلت: في الركوب: الركوب في الحج والغزو، وفي بلوغ الحاجة: الهجرة من بلد إلى بلد لإقامة دين أو طلب علم، وهذه أغراض دينية إمّا واجبة أو مندوب إليها مما يتعلق به إرادة الحكيم. وأما الأكل وإصابة المنافع: فمن جنس المباح الذي لا يتعلق به إرادته: ومعنى قوله {وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} وعلى الأنعام وحدها لا تحملون، ولكن عليها وعلى الفلك في البر والبحر. فإن قلت: هلا قيل: وفي الفلك، كما قال {قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}؟ قلت: معنى الإيعاء ومعنى الاستعلاء: كلاهما مستقيم، لأنّ الفلك وعاء لمن يكون فيها حمولة له يستعليها، فلما صح المعنيان صحت العبارتان. وأيضا فليطابق قوله وَعَلَيْها ويزاوجه: {أَيَّ آياتِ اللَّهِ} جاءت على اللغة المستفيضة.
وقولك: فأية آيات اللّه قليل، لأنّ التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة غريب، وهي في أي أغرب لإبهامه.

.[سورة غافر: الآيات 82- 83]:

{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثارًا فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83)}.
{وَآثارًا} قصورهم ومصانعهم. وقيل: مشيهم بأرجلهم لعظم أجرامهم {فَما أَغْنى عَنْهُمْ} ما نافية أو مضمنة معنى الاستفهام، ومحلها النصب، والثانية موصولة أو مصدرية ومحلها الرفع، يعنى أي شيء أغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم {فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} فيه وجوه: منها أنه أراد العلم الوارد على طريق التهكم في قوله تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} وعلمهم في الآخرة أنهم كانوا يقولون لا نبعث ولا نعذب، {وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى} {وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْها مُنْقَلَبًا} وكانوا يفرحون بذلك ويدفعون به البينات وعلم الأنبياء، كما قال عز وجل {كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} ومنها: أن يريد علم الفلاسفة والدهريين من بنى يونان، وكانوا إذا سمعوا بوحي اللّه: دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم. وعن سقراط: أنه سمع بموسى صلوات اللّه عليه وسلامه، وقيل له: لو هاجرت إليه فقال: نحن قوم مهذبون فلا حاجة بنا إلى من يهذبنا. ومنها: أن يوضع قوله {فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} ولا علم عندهم البتة، موضع قوله: يفرحوا بما جاءهم من العلم، مبالغة في نفى فرحهم بالوحي الموجب لأقصى الفرح والمسرة، مع تهكم بفرط جهلهم وخلوهم من العلماء. ومنها أن يراد: فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك منه واستهزاء به، كأنه قال: استهزؤا بالبينات وبما جاءوا به من علم الوحى فرحين مرحين. ويدل عليه قوله تعالى: {وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} ومنها: أن يجعل الفرح للرسل. ومعناه: أن الرسل لما رأوا جهلهم المتمادى واستهزائهم بالحق وعلموا سوء عاقبتهم وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم واستهزائهم: فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا اللّه عليه، وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم.
ويجوز أن يريد بما فرحوا به من العلم: علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها، كما قال تعالى {يَعْلَمُونَ ظاهِرًا مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ} {ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} فلما جاءهم الرسل بعلوم الديانات- وهي أبعد شيء من علمهم لبعثها على رفض الدنيا والظلف عن الملاذ والشهوات- لم يلتفتوا إليها وصغروها واستهزؤا بها، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم، ففرحوا به.

.[سورة غافر: الآيات 84- 85]:

{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85)}.
البأس: شدّة العذاب. ومنه قوله تعالى: {بِعَذابٍ بَئِيسٍ} فإن قلت: أي فرق بين قوله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ} وبينه لو قيل: فلم ينفعهم إيمانهم؟ قلت: هو من كان في نحو قوله {ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} والمعنى: فلم يصح ولم يستقم أن ينفعهم إيمانهم. فإن قلت: كيف ترادفت هذه الفاءات؟ قلت: أما قوله تعالى: {فَما أَغْنى عَنْهُمْ} فهو نتيجة قوله {كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ} وأما قوله {فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ} فجار مجرى البيان والتفسير، لقوله تعالى: {فَما أَغْنى عَنْهُمْ} كقولك: رزق زيد المال فمنع المعروف فلم يحسن إلى الفقراء.
وقوله {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا} تابع لقوله {فَلَمَّا جاءَتْهُمْ} كأنه قال: فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا، وكذلك: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ} تابع لإيمانهم لما رأوا بأس اللّه {سُنَّتَ اللَّهِ} بمنزلة وَعَدَ اللَّهُ وما أشبهه من المصادر المؤكدة. وهُنالِكَ مكان مستعار للزمان، أي: وخسروا وقت رؤية البأس، وكذلك قوله {وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ} بعد قوله {فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ} أي: وخسروا وقت مجيء أمر اللّه، أو وقت القضاء بالحق.
عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «من قرأ سورة المؤمن لم يبق روح نبى ولا صديق ولا شهيد ولا مؤمن إلا صلى عليه واستغفر له». اهـ.