فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

واستدعاء القرض في هذه الآية إنما هو تأنيس وتقريب للناس بما يفهمونه، والله هو الغنى الحميد؛ لكنه تعالى شَبّه عطاء المؤمن في الدنيا بما يرجو به ثوابه في الآخرة بالقرض كما شبّه إعطاء النفوس والأموال في أخذ الجنة بالبيع والشراء، حسب ما يأتي بيانه في براءة إن شاء الله تعالى.
وقيل المراد بالآية الحث على الصدقة وإنفاق المال على الفقراء والمحتاجين والتوسعة عليهم، وفي سبيل الله بنصرة الدِّين.
وكَنَى الله سبحانه عن الفقير بنفسه العلية المنزهة عن الحاجات ترغيبًا في الصدقة، كما كنى عن المريض والجائع والعطشان بنفسه المقدَّسة عن النقائص والآلام.
ففي صحيح الحديث إخبارًا عن الله تعالى: «يابن آدم مرِضتُ فلم تَعُدْني واستطعمتك فلم تُطْعمني واستسقيتك فلم تسقني» قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمينا؟ قال: «استسقاك عبدي فلان فلم تسقِه أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي» وكذا فيما قبْلُ؛ أخرجه مسلم والبخاريّ وهذا كله خرج مخرج التّشْريف لمن كَنَى عنه ترغيبًا لمن خُوطب به. اهـ.

.قال الفخر:

اختلفوا في أن إطلاق لفظ القرض على هذا الإنفاق حقيقة أو مجاز، قال الزجاج: إنه حقيقة، وذلك لأن القرض هو كل ما يفعل ليجازى عليه، تقول العرب: لك عندي قرض حسن وسيء، والمراد منه الفعل الذي يجازى عليه، قال أمية بن أبي الصلت:
كل امرئ سوف يجزى قرضه حسنا ** أو سيئًا أو مدينًا كالذي دانا

ومما يدل على أن القرض ما ذكرناه أن القرض أصله في اللغة القطع، ومنه القراض، وانقرض القوم إذا هلكوا، وذلك لانقطاع أثرهم فإذا أقرض فالمراد قطع له من ماله أو عمله قطعة يجازى عليها.
والقول الثاني: أن لفظ القرض هاهنا مجاز، وذلك لأن القرض هو أن يعطي الإنسان شيئًا ليرجع إليه مثله وهاهنا المنفق في سبيل الله إنما ينفق ليرجع إليه بدله إلا أنه جعل الاختلاف بين هذا الإنفاق وبين القرض من وجوه أحدها: أن القرض إنما يأخذه من يحتاج إليه لفقره وذلك في حق الله تعالى محال وثانيها: أن البدل في القرض المعتاد لا يكون إلا المثل، وفي هذا الإنفاق هو الضعف وثالثها: أن المال الذي يأخذه المستقرض لا يكون ملكًا له وهاهنا هذا المال المأخوذ ملك لله، ثم مع حصول هذه الفروق سماه الله قرضًا، والحكمة فيه التنبيه على أن ذلك لا يضيع عند الله، فكما أن القرض يجب أداؤه لا يجوز الإخلال به فكذا الثواب الواجب على هذا الإنفاق واصل إلى المكلف لا محالة، ويروى أنه لما نزلت هذه الآية قالت اليهود: إن الله فقير ونحن أغنياء، فهو يطلب منا القرض، وهذا الكلام لائق بجهلهم وحمقهم، لأن الغالب عليهم التشبيه، ويقولون: إن معبودهم شيخ، قال القاضي: من يقول في معبوده مثل هذا القول لا يستبعد منه أن يصفه بالفقر.
فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا} ولأي فائدة جرى الكلام على طريق الاستفهام.
قلنا: إن ذلك في الترغيب في الدعاء إلى الفعل أقرب من ظاهر الأمر. اهـ.
وقال الفخر:
كون القرض حسنًا يحتمل وجوهًا:
أحدها: أراد به حلالًا خالصًا لا يختلط به الحرام، لأن مع الشبهة يقع الاختلاط، ومع الاختلاط ربما قبح الفعل.
وثانيها: أن لا يتبع ذلك الإنفاق منًا ولا أذى.
وثالثها: أن يفعله على نية التقرب إلى الله تعالى، لأن ما يفعل رياء وسمعة لا يستحق به الثواب. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

وفي معنى القرض الحسن ستة أقوال:
أحدها: أنه الخالص لله، قاله الضحاك، والثاني: أن يخرج عن طيب نفس، قاله مقاتل، والثالث: أن يكون حلالا، قاله ابن المبارك.
والرابع: أن يحتسب عند الله ثوابه، والخامس: أن لا يتبعه منًا ولا أذى، والسادس: أن يكون من خيار المال. اهـ.

.قال الفخر:

التضعيف والإضعاف والمضاعفة واحد وهو الزيادة على أصل الشيء حتى يبلغ مثلين أو أكثر، وفي الآية حذف، والتقدير: فيضاعف ثوابه. اهـ.

.قال ابن عادل:

قوله: {فَيُضَاعِفَهُ} قرأ عاصمٌ وابن عامر هنا، وفي الحديد بنصب الفاء، إلاَّ أنَّ ابنَ عامر وعاصمًا ويعقوب يشدِّدون العينَ من غير ألفٍ وبابه التشديد وقرأ أبو عمرو في الأحزاب والباقون برفعِها، إلاَّ أنَّ ابن كثير يشدِّد العينَ من غير ألفٍ؛ فحصَلَ فيها أربعُ قراءتٍ.
أحدها: قرأ أبو عمرو ونافع، وحمزة، والكسائيُّ فيضاعفُهُ بالألف ورفع الفاء.
والثانية: قراءة عاصم {فيضاعفه} بالألف ونصب الفاء.
والثالثة: قرأ ابن كثير: {فَيُضَعِّفُهُ} بالتَّشديد، ورفع الفاءِ.
والرابعة: قرأ ابن عامرٍ فيضعِّفَه بالتَّشْديد، ونصب الفاء. فالرَّفْعُ من وجهين:
أحدهما: أنَّهُ عطفٌ على يقرض الصِّلةِ.
والثاني: أَنَّهُ رفعٌ على الاستئناف أي: فهو يُضاعِفُهُ، والأولُ أحسنُ لعدَمِ الإِضمارِ.
والنصبُ من وجهين:
أحدهما: أنَّهُ منصوبٌ بإضمارٍ أَنْ عطفًا على المصدر المفهوم من يقرضُ في المعنى، فيكونُ مصدرًا معطوفًا على مصدرٍ تقديرُهُ: مَنْ ذا الذي يكونُ منه إقراضٌ فمضاعفةٌ مِنَ اللهِ تعالى كقوله: الوافر:
لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي ** أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ

والثاني: أنه نصبٌ على جوابِ الاستفهام في المعنى؛ لأَنَّ الاستفهام وإِنْ وَقَعَ عن المُقْرِضِ لفظًا، فهو عن الإِقراضِ معنى كأنه قال: أيقرضُ اللهَ أَحَدٌ فيضاعفَه.
قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكونَ جوابَ الاستفهام على اللفظ؛ لأنَّ المُسْتَفْهَمَ عنه في اللَّفْظِ المُقرِضُ أي الفاعلُ للقَرْضِ، لا عن القَرْضِ، أي: الذي هو الفِعْلُ وقد مَنَع بعضُ النَّحويّين النَّصبَ بعد الفاء في جواب الاستفهام الواقع عن المسندِ إليه الحكمُ لا عن الحُكم، وهو مَحْجوجٌ بهذه الآيةِ وغيرها، كقوله: «مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي؛ فأغفرَ له، مَنْ يَدْعُونِي؛ فأَسْتَجِيبَ له» بالنصبِ فيهما.
قال أبو البقاء: فإنْ قيلَ: لِمَ لاَ يُعْطَفُ الفعل على المصدرِ الذي هو قرضًا كما يُعْطَفُ الفعلُ على المصدرِ بإضمار أَنْ كقولِ الشاعر الوافر:
لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وتَقَرَّ عَيْنِي

قيل: هذا لا يصحُّ لوجهين:
أحدهما: أنَّ قرضًا هنا مصدرٌ مؤكِّدٌ، والمصدرُ المُؤكِّدِ لا يُقَدَّرُ بأَنْ والفعلِ.
والثاني: أنَّ عطفَهُ عليه يُوجبُ أن يكونَ معمولًا ليقرضُ، ولا يصِحُّ هذا في المعنى؛ لأَنَّ المضاعفةَ ليستُ مُقْرضَةً، وإِنَّما هي فعلُ اللهِ تعالى، وتعليله في الوجهِ الأولِ يُؤذِنُ بأنه يُشترط في النصبِ أنْ يُعْطَفَ على مصدر يتقدَّر بأَنْ والفعلِ، وهذا ليس بشرطٍ؛ بل يجوزُ ذلك وإن كان الاسمُ المعطوفُ عليه غيرَ مصدرٍ؛ كقوله: الطويل:
وَلَوْلاَ رِجَالٌ مِنْ رِزَامٍ أَعِزَّةٍ ** وآلُ سُبَيْعٍ أَوْ أَسُوءَكَ عَلْقَمَا

ف- أَسُوءَكَ منصوبٌ بأَنْ؛ عطفًا على رِجَالٌ، فالوجهُ في مَنْعِ ذلك أنْ يُقال: لو عُطفَ على قرضًا؛ لشاركه في عامِلِه، وهو يُقْرض فيصيرُ التَّقْدِيرُ: مَنْ ذا الذي يَقْرِضُ مضاعفةً، وهذا ليسَ صحيحًا معنى.
وقد تقدَّم أَنَّه قرئ: {يُضاعِفُ}، و{يُضَعِّفُ} فقيل: هما بمعنى، وتكونُ المفاعلَةُ بمعنى فَعَل المجرد، نحو عاقَبْت، وقيل: بل هما مختلفان، فقيل: إنَّ المضعَّفَ للتكثير.
وقيل: إنَّ يُضَعِّف لِما جُعِلَ مثلين، وضاعَفَه لِما زيد عليه أكثرُ من ذلك. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {أَضْعَافًا كَثِيرَةً} فمنهم من ذكر فيه قدرًا معينًا، وأجود ما يقال فيه: إنه القدر المذكور في قوله تعالى: {مَّثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} [البقرة: 261] فيقال يحمل المجمل على المفسر لأن كلتا الآيتين وردتا في الإنفاق، ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى لم يقتصر في هذه الآية على التحديد، بل قال بعده: {والله يضاعف لِمَن يَشَاء} [البقرة: 261].
والقول الثاني: وهو الأصح واختيار السدي: أن هذا التضعيف لا يعلم أحد ما هو وكم هو؟ وإنما أبهم تعالى ذلك لأن ذكر المبهم في باب الترغيب أقوى من ذكر المحدود. اهـ.

.قال أبو حيان:

انتصب: أضعافًا، على الحال من الهاء في: يضاعفه، قيل: ويجوز أن ينتصب على أنه مفعول به، تضمن معنى فيضاعفه: فيصيره. ويجوز أن ينتصب على المصدر باعتبار أن يطلق الضعف، وهو المضاعف أو المضعف، بمعنى المضاعفة أو التضعيف، كما أطلق العطاء وهو اسم المعطى بمعنى الإعطاء، وجمع لاختلاف جهات التضعيف باعتبار الإخلاص، وهذه المضاعفة غير محدودة لكنها كثيرة.
قال الحسن، والسدّي: لا يعلم كُنْهَ التضعيف إلاَّ الله تعالى: وهو قول ابن عباس، وقد رويت مقادير من التضعيف، وجاء في القرآن: {كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة} ثم قال: {والله يضاعف لمن يشاء}.
قيل والآية عامّة في سائر وجوه البرّ من: صدقة، وجهاد، وغير ذلك، وقيل: خاصة بالنفقة في الجهاد، وقيل: بالصدقة وإنفاق المال على الفقراء المحتاجين. اهـ.

.قال ابن كثير:

قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد أخبرنا مبارك بن فضالة عن علي بن زيد عن أبي عثمان النهدي، قال: أتيت أبا هريرة فقلت له: إنه بلغني أنك تقول: إن الحسنة تضاعف ألف ألف حسنة. فقال: وما أعجبك من ذلك؟ لقد سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة».
هذا حديث غريب، وعلي بن زيد بن جدعان عنده مناكير، لكن رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر فقال:
حدثنا أبو خلاد سليمان بن خلاد المؤدب، حدثنا يونس بن محمد المؤدب، حدثنا محمد بن عقبة الرباعي عن زياد الجصاص عن أبي عثمان النهدي، قال: لم يكن أحد أكثر مجالسة لأبي هريرة مني فقدم قبلي حاجا قال: وقدمت بعده فإذا أهل البصرة يأثرون عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة» فقلت: ويحكم، والله ما كان أحد أكثر مجالسة لأبي هريرة مني، فما سمعت هذا الحديث. قال: فتحملت أريد أن ألحقه فوجدته قد انطلق حاجا فانطلقت إلى الحج أن ألقاه في هذا الحديث، فلقيته لهذا فقلت: يا أبا هريرة ما حديث سمعت أهل البصرة يأثرون عنك؟ قال: ما هو؟ قلت: زعموا أنك تقول: إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة. قال: يا أبا عثمان وما تعجب من ذا والله يقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} ويقول: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ} [التوبة: 38] والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة». اهـ.