فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا} أي: فأيقنوا بمجيئها، وأنكم مبعوثون، ومجازون بأعمالكم، فتوبوا: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} أي: لا يصدقون بمجيئها؛ يعني المشركين.
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} أي: اعبدوني أُثبْكم. قال الزمخشري: والدعاء بمعنى العبادة، كثير في القرآن، ويدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أي: صاغرين أذلاء. قال الشهاب: إطلاق الدعاء على العبادة مجاز، لتضمن العبادة له، لأنه عبادة خاصة أريد به المطلق، وجعل الإثابة لترتبها عليها استجابة، مجازًا، أو مشاكلة. وإنما أوّل به لأن ما بعده يدل عليه. والمقام يناسبه الأمر بالعبادة. وقد جوّز أن يراد بالدعاء، والاستجابة ظاهرهما، ويراد بالعبادة الدعاء مجازًا؛ لأنه باب من العبادة عظيم، وفرد من أفرادها فخيم. قال الشهاب: ولو قيل لا حاجة إلى التجوّز، لأن الإضافة المراد بها العهد هنا، فيفيد ما ذكر من غير تجوّز- لكان أحسن. انتهى.
وعلى الوجه الثاني- وهو أن المراد بالدعاء السؤال- اقتصر كثير من المفسرين. قال المهايمي: {أَسْتَجِبْ لَكُمْ} لأن الدعاء من العبد غاية في التذلل لربه، وهو محبوب لربه. فإذا أتى العبد بمحبوب الرب عظمه بالاستجابة، وإذا لم يستجب له في الدنيا عوضه في الآخرة، ولحبه التذلل أمر العباد بالعبادة، فإن استكبروا كان لهم غاية الإذلال. وقال القاشاني: الآية في دعاء الحال؛ لأن الدعاء باللسان مع عدم العلم بأن المدعو به خير له أم لا، دعاء المحجوبين، وأما الدعاء الذي لا تتخلف عنه الاستجابة، فهو دعاء الحال بأن يهيئ العبد استعداده لقبول ما يطلبه، ولا تتخلف الاستجابة عن هذا الدعاء. كمن طلب المغفرة، فتاب إلى الله، وأناب بالزهد والطاعة. انتهى.
وتقدم في آية: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، فوائد تناسب هذا المقام، فلتراجع. ثم أشار تعالى إلى أنه كيف لا يلزم العباد عبادته، وقد أنعم عليهم بما يقضي شكره بالعبادة، مما أجلاه منافع الليل والنهار، بقوله سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} أي: الله الذي لا تصلح الألوهية إلا له، ولا تنبغي عبادة غيره، هو الذي جعل لكم الليل مظلمًا لتسكنوا فيه، فتستردوا بالراحة فيه، ما فاتكم من القوى في العمل بالنهار: {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} أي: أن يبصر فيه، أو به لتتحركوا لتحصيل الأكساب الدينية والدنيوية، فقد تفضل الله عليكم بهما وبما فيهما.
{إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} أي: ليشكروه بعبادته: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أي: عن طاعته إلى إثبات الشريك وعبادته.
{كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} أي: من الأمم المتقدمة الهالكة؛ أي: فسلكتم أنتم معشر قريش مسلكهم، وركبتم محجتهم في الضلال.
{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا} أي: تستقرون عليها وتسكنون فوقها: {وَالسَّمَاء بِنَاء} أي: مبنية مرفوعة فوقكم بغير عمد ترونها لمصالحكم، وقوام دنياكم. وقد فسر البناء بالقبة المضروبة؛ لأن العرب تسمّي المضارب أبنية.
فهو تشبيه بليغ، وهو إشارة إلى كرويتها في المطبوع: كريتها. قال الشهاب: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} أي: يجعل كل عضو في مكان يليق به، ليتم الانتفاع بها، فتستدلوا بذلك على كمال حكمته: {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} أي: لذيذات المطاعم، والمشارب لتشكروه وحده: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي: الذي لا تصلح الربوبية إلا له.
{هُوَ الْحَيُّ} أي: الذي لا يموت، الدائم الحياة، وكل شي سواه فمنقطع الحياة غير دائمها: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي: مفردين له الطاعة، لا تشركوا في عبادته شيئًا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي: الثناء والشكر لله، مالك جميع أجناس الخلق، لا للأوثان التي لا تملك شيئًا، ولا تقدر على ضرر ولا نفع.
قال ابن جرير: وكان جماعة من أهل العلم يأمرون من قال: {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} أن يتبع ذلك: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} تأولًا منهم هذه الآية، بأنها أمر من الله بِقِيلِ ذلك. ثم أسنده عن ابن عباس، وابن جبير.
{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} أي: من الآلهة والأوثان: {لَمَّا جَاءنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي} أي: الآيات الواضحات من عنده، على وجوب وحدته، وتفرده بالعبادة: {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي: لأخضع له بالطاعة دون غيره من الأشياء.
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ} أي: مما يرجع إليه. أو خلق أباكم آدم منه: {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} أي: يبقيكم لتبلغوا أشدكم، فتتكامل قواكم: {ثُمَّ لِتَكُونُوا} أي: إذا تناهى شبابكم، وتمام خلقكم: {شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ} أي: من قبل أن يصير شيخًا: {وَلِتَبْلُغُوا} أي: ونفعل ذلك لتبلغوا: {أَجَلًا مُّسَمًّى} أي: ميقاتًا محدودًا لحياتكم، وهو وقت الموت، أو لجزائكم وهو يوم القيامة: {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي: ولكي تعقلوا حجج الله عليكم بذلك، وتتدبروا آياته، فتعرفوا بها أنه لا إله غيره.
{هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} أي: يكونه من غير كلفة ولا معاناة، وقد تقدم في سورة البقرة الكلام على هذه الآية مطولًا.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ} أي: عن الرشد إلى الغي: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ} أي: بكتاب الله، وهو القرآن: {وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ} أي: الماء الحار. قال المهايمي: لدفعهم برد اليقين من دلائل الكتاب، والسنة: {ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} أي: يحرقون. قال المهايمي: لإحراقهم الأدلة العقلية والنقلية.
{ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا} أي: غابوا فلم نعرف مكانهم، وهذا قبل أن يقرنوا معهم، أو ضلالهم استعارة لعدم نفعها لها. فحضورهم كالعدم: {بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا} أي: ما كنا مشركين. وكذبوا لحيرتهم واضطرابهم. أو بمعنى: تبين لنا أنا لم نكن نعبد شيئًا. قال القاشاني: لاطلاعهم على أن ما عبدوه، وضيعوا أعمارهم في عبادته، ليس بشيء، فضلًا عن إغنائه عنهم شيئًا: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} أي: أهل الكفر به، عنه وعن رحمته، فلا يخفف عنهم العذاب.
{ذَلِكُم} أي: العذاب: {بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} أي: بسبب فرحكم في الدنيا، بغير ما أذن الله لكم به، من الباطل والمعاصي، وبمرحكم فيها. والمرح هو الأشر، والبطر، والخيلاء. وبين الفرح والمرح تجنيس بديع.
{ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} أي: منزل المتعظمين عن الإيمان والتوحيد، جهنم.
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي: فاصبر على جدال هؤلاء المتكبرين في آيات الله، وعلى تكذيبهم، فإن وعد الله إياك بالظفر عليهم، حق ثابت: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} أي: من العذاب والنقمة: {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} أي: قبل أن يحل بهم ما يحل: {فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} أي: فنحكم بينهم بالحق، وهو الخلود في النار، لمناسبة نفوسهم الكدرة الظلمانية، البعيدة عن الحق، واستحكام ملكات رذائلهم.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ} أي: لتقف على ما وفينا لهم من وعد النصر إياهم في الدنيا: {وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} أي: لمكان الطول، مع أن في نبئهم ما يشاكل نبأ المذكورين، والشيء يعتبر بشكله: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي: بأمره. وهذا رد لمقترحهم وتعنتهم في طلب ما قص عنهم من آية: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} [الإسراء: 90] الآية، بأن الإتيان بذلك مرده مشيئة الله تعالى وإرادته به، وقد شاء أن تكون الآية العظمى تنزيله، الأكبر من كل آية، والأعظم من كل خارقة. فهو خير الآيات، وأحسنها، وأقوم المعجزات، وأمتنها. كما قال تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [العنكبوت: 51]، {فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ} أي: عند عدم الإيمان بالآية المقترحة، بعد إتيانها: {قُضِيَ بِالْحَقِّ} أي: من المؤاخذة، بعد تقرير الحجة المقترحة لهم: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} أي: في دعواهم الشريك، وافترائهم الكذب.
{اللَّهُ} أي: الذي لا تصلح الألوهية إلا له: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ} أي: مسخرة: {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} من الجلود، والأوبار، والأصواف: {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} أي: بالمسافرة عليها: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ} أي: في طريق البحر: {تُحْمَلُونَ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} أي: دلائله الدالة على فرط رحمته، وكمال قدرته: {فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ} أي: من الحصون، والقصور، والمباني، والعَدد، والعُدد: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي: مما لا يدفع به العذاب الأرضي، ولا السماوي.
{فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ} أي: الخالي عن نور الهداية والوحي، ورضوا بها عن قبول هداية الرسل، ومعارفهم، واستهزأوا برسلهم لاستصغارهم بما جاءوا به، في جنب ما عندهم من العلم الوهمي: {وَحَاقَ بِهِم} أي: من عذاب الله: {مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون} أي: جزاؤه: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} أي: مضت في خلقه، أن لا يقبل توبة، ولا إيمانًا في تلك الحال: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} أي: وهلك، عند مجيء بأسه تعالى، الكافرون بربهم الجاحدون توحيد خالقهم، ففاتتهم سعادة الأبد، والعيش الرغد.
نسأله تعالى المعافاة من غضبه وعقابه، والموافاة مع زمرة أحبابه. آمين. اهـ.

.قال سيد قطب:

{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)} هذا الشوط متصل تمام الاتصال بالشوط الذي قبله، وهو استمرار للفقرة الأخيرة من الدرس الماضي. وتكملة لتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم للصبر على التكذيب والإيذاء والصد عن الحق والتبجح بالباطل. فبعد هذا التوجيه يكشف عن علة المجادلة في آيات الله بغير حجة ولا برهان. إنه الكبر الذي يمنع أصحابه من التسليم بالحق وهم أصغر وأضأل من هذا الكبر الذي يحيك في الصدور.
ومن ثم يجيء التنبيه إلى عظمة هذا الكون الذي خلقه الله، وصغر الناس جميعًا بالقياس إلى السماوات والأرض. ويمضي الدرس يعرض بعض الآيات الكونية. وفضل الله في تسخير بعضها للناس وهم أصغر منها وأضأل. ويشير إلى فضل الله على الناس في ذوات أنفسهم. وهذه وتلك تشهد بوحدانية المبدع الذي يشركون به. ويوجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الجهر بكلمة التوحيد والإعراض عما يعبدون من دون الله. وينتهي الشوط بمشهد عنيف من مشاهد القيامة يسألون فيه عما يشركون سؤال التبكيت والترذيل. ويختم كما ختم الشوط الماضي. بتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصبر سواء أبقاه الله ليشهد بعض ما وعدهم، أم توفاه إليه قبل مجيء وعد الله. فالأمر لله. وهم إليه راجعون على كل حال.
{إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلًا ما تتذكرون إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين}..
إن هذا المخلوق الإنساني لينسى نفسه في أحيان كثيرة، ينسى أنه كائن صغير ضعيف، يستمد القوة لا من ذاته، ولكن من اتصاله بمصدر القوة الأول. من الله. فيقطع اتصاله هذا ثم يروح ينتفخ، ويورم، ويتشامخ، ويتعالى. يحيك في صدره الكبر. يستمده من الشيطان الذي هلك بهذا الكبر. ثم سلط على الإنسان فأتاه من قبله!
وإنه ليجادل في آيات الله ويكابر. وهي ظاهرة ناطقة معبرة للفطرة بلسان الفطرة. وهو يزعم لنفسه وللناس أنه إنما يناقش لأنه لم يقتنع، ويجادل لأنه غير مستيقن. والله العليم بعباده، السميع البصير المطلع على السرائر، يقرر أنه الكبر. والكبر وحده. هو الذي يحيك في الصدر. وهو الذي يدعو صاحبه إلى الجدال فيما لا جدال فيه. الكبر والتطاول إلى ما هو أكبر من حقيقته. ومحاولة أخذ مكان ليس له، ولا تؤهله له حقيقته.
وليست له حجة يجادل بها، ولا برهان يصدع به. إنما هو ذلك الكبر وحده: {إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه}..
ولو أدرك الإنسان حقيقته وحقيقة هذا الوجود. ولو عرف دوره فأتقنه ولم يحاول أن يتجاوزه. ولو اطمأن إلى أنه كائن مما لا يحصى عدده من كائنات مسخرة بأمر خالق الوجود، وفق تقديره الذي لا يعلمه إلا هو، وأن دوره مقدر بحسب حقيقته في كيان هذا الوجود.. لو أدرك هذا كله لاطمأن واستراح، ولتطامن كذلك وتواضع، وعاش في سلام مع نفسه ومع الكون حوله. وفي استسلام لله وإسلام.
{فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير}..
والاستعاذة بالله في مواجهة الكبر توحي باستبشاعه واستفظاعه. فالإنسان إنما يستعيذ بالله من الشيء الفظيع القبيح، الذي يتوقع منه الشر والأذى.. وفي الكبر هذا كله. وهو يتعب صاحبه ويتعب الناس من حوله؛ وهو يؤذي الصدر الذي يحيك فيه ويؤذي صدور الآخرين. فهو شر يستحق الاستعاذة بالله منه..
{إنه هو السميع البصير}.. الذي يسمع ويرى، والكبر الذميم يتمثل في حركة ترى وفي كلام يسمع. فهو يكل أمره إلى السميع البصير يتولاه بما يراه.
ثم يكشف للإنسان عن وضعه الحقيقي في هذا الكون الكبير. وعن ضآلته بالقياس إلى بعض خلق الله الذي يراه الناس، ويدركون ضخامته بمجرد الرؤية، ويزيدون شعورًا به حين يعلمون حقيقته: {لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.
والسماوات والأرض معروضتان للإنسان يراهما، ويستطيع أن يقيس نفسه إليهما. ولكنه حين يعلم حقيقة النسب والأبعاد وحقيقة الأحجام والقوى، يطامن من كبريائه، ويتصاغر ويتضاءل حتى ليكاد يذوب من الشعور بالضآلة. إلا أن يذكر العنصر العلوي الذي أودعه الله إياه، والذي من أجله كرمه. فهو وحده الذي يمسك به أمام عظمة هذا الكون الهائل العظيم..
ولمحة خاطفة عن السماوات والأرض تكفي لهذا الإدراك.
هذه الأرض التي نحيا عليها تابع صغير من توابع الشمس تبلغ كتلتها ثلاثة من مليون من كتلة الشمس! ويبلغ حجمها أقل من واحد من مليون من حجم الشمس.