فصل: التفسير الإشاري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75)}.
قوله: {تَفْرَحُونَ} {تَمْرَحون} مِنْ باب التجنيس المحرَّفِ، وهو أن يقعَ الفرقُ بين اللفظَيْنِ بحرفٍ.
{ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)}.
قوله: {فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين} المخصوصُ محذوفٌ أي: جهنم، أو مثواكم، ولم يَقُلْ فبِئْسَ مَدْخَلُ؛ لأنَّ الدخولَ لا يَدوم وإنما يَدُوْمُ الثَّواءُ؛ فلذلك خَصَّه بالذمِّ، وإنْ كان الدخولُ أيضًا مَذْمومًا.
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)}.
قوله: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} قال الزمخشري: أصلُه: فإنْ نَرَكَ و ما مزيدةٌ لتأكيدِ معنى الشرطِ، ولذلك أُلْحِقَتِ النونُ بالفعل. ألا تراك لا تقول: إنْ تُكْرِمَنّي أُكْرِمْك، ولكنْ إمَّا تُكْرِمَنِّي أكرمْك. قال الشيخ: وما ذكره مِنْ تلازُمِ النونِ، و ما الزائدة ليس مذهبَ سيبويه، إنما هو مذهبُ المبردِ والزجَّاجِ، ونصَّ سيبويه على التخيير.
قلت: وهذه القواعدُ وإنُ تقدَّمَتْ مُسْتَوفاةً، إلاَّ أنِّي أذكُرها لذِكْرِهم إياها، وفي ذلك تنبيهٌ أيضًا وتذكيرٌ بما تقدَّم.
قوله: {فإلينا يُرْجَعُون} ليس جوابًا للشرطِ الأولِ، بل جوابًا لِما عُطِفَ عليه، وجوابُ الأولِ محذوفٌ. قال الزمخشري: {فإلينا يُرْجَعُون} متعلِّق بقولِه: {نَتَوَفَّيَنَّك} وجوابُ {نُرِيَنَّك} محذوفٌ تقديرُه: فإنْ نُرِيَنَّك بعضَ الذي نَعِدُهم مِنَ العذابِ وهو القَتْلُ يومَ بدرٍ فذاك، وإنْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبلَ يومِ بَدْرٍ فإلينا يُرْجَعُون فننتقمُ منهم أشدَّ الانتقامَ.
قلت: قد تقدَّمَ مثلُ هذا في سورةِ يونس وبحثُ الشيخِ معه فَلْيُلْتَفَتْ إليه. وقال الشيخ: وقال بعضُهم: جوابُ {فإمَّا نُرِيَنَّك} محذوفٌ لدلالةِ المعنى عليه أي: فَتَقَرُّ عَيْنك. ولا يَصِحُّ أَنْ يكونَ {فإلينا يُرْجَعُون} جوابًا للمعطوفِ عليه والمعطوفِ، لأنَّ تركيبَ {فإمَّا نُرِيَنَّكَ بعضَ الذين نَعِدُهم} في حياتك {فإلينا يُرْجَعون} ليس بظاهرٍ، وهو يَصِحُّ أَنْ يكونَ جوابَ {أو نَتَوَفَّيَنَّك} أي: فإلينا يُرْجَعُون فننتقمُ منهم ونُعَذِّبُهم لكونِهم لم يَتَّبِعوك. نظيرُ هذه الآيةِ قولُه تعالى: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الذي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ} [الزخرف: 42] إلاَّ أنه هنا صَرَّح بجوابِ الشرطَيْن. قلت: وهذا بعينِه هو قولُ الزمخشريِّ.
وقرأ السُّلميُّ ويعقوبُ {يَرْجَعون} بفتح ياءِ الغَيْبَةِ مبنيًّا للفاعلِ. وابنُ مصرف ويعقوب أيضًا بفتح تاءِ الخطابِ.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)}.
قوله: {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا} يجوزُ أَنْ يكونَ {منهم} صفةً ل {رُسُلًا} فيكون {مَنْ قَصَصْنا} فاعِلًا به لاعتمادِه، ويجوزُ أَنْ يكونَ خبرًا مقدمًا، و{مَنْ} مبتدأٌ مؤخر. ثم في الجملة وجهان: الوصفُ ل {رُسُلًا} وهو الظاهرُ والاستئنافُ.
{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79)}.
قوله: {مِنْهَا} {وَمِنْهَا} مِنْ الأولى يجوزُ أَنْ تكونَ للتبعيضِ، إذ ليس كلُّها تُرْكَبُ، ويجوزُ أَنْ تكونَ لابتداءِ الغايةِ إذ المرادُ بالأنعامِ شيءٌ خاصٌّ، وهي الإِبل. قال الزجَّاج: لأنه لم يُعْهَدْ للركوبِ غيرُها. وأمَّا الثانيةُ فكالأولى. وقال ابنُ عطية: هي لبيانِ الجنسِ قال: لأنَّ الخيلَ منها ولا تُؤْكَلُ.
{وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80)}.
قوله: {وَعَلَى الفلك} اخْتِير لفظُ {على} هنا على لفظِ في كقولِه: {قُلْنَا احمل فِيهَا} [هود: 40] لمناسبةِ قولِه: {وعليها} كذا أجابُوا. ويظهر أنَّ في هناك أليقُ؛ لأنَّ سفينةَ نوحٍ عليه السلام على ما يقالُ كانَتْ مُطْبِقَةً عليهم، وهي محيطةٌ بهم كالوعاءِ. وأمَّا غيرُها فالاستعلاءُ فيه واضحٌ؛ لأنَّ الناسَ على ظهرِها.
{وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)}.
قوله: {فَأَيَّ آيَاتِ الله} منصوبٌ ب {تُنْكِرون} وقُدِّمَ وجوبًا؛ لأنَّ له صَدْرَ الكلامِ. قال مكي: ولو كان مع الفعلِ هاءٌ لكان الاختيارُ الرفعَ في أي بخلافِ ألفِ الاستفهامِ تَدْخُلُ على الاسمِ، وبعدها فعلٌ واقعٌ على ضميرِ الاسمِ، فالاختيارُ النصبُ نحو قولِك: أزيدًا ضَرَبْتُه، هذا مذهبُ سيبويهِ فرَّقَ بين الألفِ وبين أيّ قلت: يعني أنَّك إذا قلتَ: أيُّهم ضربْتَه كان الاختيارُ الرفعَ لأنه لا يُحْوِج إلى إضمارٍ، مع أنَّ الاستفهامَ موجودٌ في أزيدًا ضربْتُه يُختار النصبُ لأجلِ الاستفهامِ فكان مُقْتضاه اختيارَ النصبِ أيضًا، فيما إذا كان الاستفهامُ بنفس الاسمِ. والفرقُ عَسِرٌ. وقال الزمخشري: فأيَّ آياتِ جاءتْ على اللغةِ المستفيضةِ. وقولك: فأيةَ آياتِ اللَّهِ قليلٌ؛ لأنَّ التفرقةَ بين المذكرِ والمؤنثِ في الأسماءِ غير الصفاتِ نحو: حِمار وحِمارة غريبٌ، وهو في أَيّ أغربُ لإِبهامِه. قال الشيخ: ومِنْ قِلَّةِ تأنيثِ أيّ قولُه:
بأيِّ كتابٍ أم بأيةِ سُنَّةٍ ** ترى حُبَّهم عارًا عليَّ وتَحْسَبُ

قوله: وهو في أيّ أغربُ إنْ عنى أيًّا على الإِطلاق فليس بصحيحٍ، لأنَّ المستفيضَ في النداء أَنْ يُؤَنَّثَ في نداء المؤنث كقولِه تعالى: {ياأيتها النفس المطمئنة} [الفجر: 27] ولا نعلَمُ أحدًا ذكر تَذْكيرها فيه، فيقولُ: يا أيُّها المرأة، إلاَّ صاحبَ البديع في النحو، وإنْ عنى غيرَ المناداةِ فكلامُه صحيحٌ يَقِلُّ تأنيثها في الاستفهامِ وموصولةً وشرطيةً. قلت: وأمَّا إذا وقعَتْ صفةً لنكرةٍ وحالًا لمعرفةٍ، فالذي ينبغي أَنْ يجوزَ الوجهان كالموصولةِ، ويكون التأنيثُ أقلَّ نحو: مررتُ بامرأةٍ أيةِ امرأة و جاءَتْ هندٌ أيةَ امرأةٍ، وكان ينبغي للشيخِ أن ينبِّهَ على هذين الفرعَيْنِ.
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)}.
قوله: {فَمَآ أغنى عَنْهُم} يجوزُ في ما أَنْ تكونَ نافيةً، واستفهاميةً بمعنى النفي، ولا حاجةَ إليه.
قوله: ما كانوا يجوزُ أَنْ تكونَ ما مصدريةً، ويجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي، فلا عائدَ على الأولِ، وعلى الثاني هو محذوفٌ أي: يَكْسِبونه، وهي فاعلٌ ب {أَغْنَى} على التقديرَيْن.
{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83)}.
قوله: {بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم} فيه أوجهٌ:
أحدُها: أنه تهكُّمٌ بهم. والمعنى: ليس عندهم علمٌ.
الثاني: أنَّ ذلك جاء على زَعْمِهم أنَّ عندهم عِلْمًا يَنْتَفعون به.
الثالث: أنَّ {مِنْ} بمعنى بَدَل أي: بما عندهم من الدنيا بدلَ العلمِ. وعلى هذه الأوجه فالضميران للكفارِ.
الرابع: أَنْ يكونَ الضَميران للرسل أي: فَرِحَ الرسُل بما عندهم من العلم.
الخامس: أنَّ الأولَ للكفارِ، والثاني للرسل، ومعناه: فَرِحَ الكفارُ فَرَحَ ضَحِكٍ واستهزاءٍ بما عند الرسُلِ مِن العلمِ، إذ لم يَأْخُذوه بقَبولٍ ويمتثِلوا أوامرَ الوحيِ ونواهيه. وقال الزمخشري: ومنها- أي من الوجوه- أَنْ يُوْضَعَ قولُه: {فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم} مبالغةً في نَفْيِ فَرَحِهم بالوحيِ الموجِبِ لأَقْصى الفرحِ والمَسَرَّةِ مع تهكُّمٍ بفَرْطِ خُلُوِّهم من العلم وجَهْلِهم.
قال الشيخ: ولا يُعَبَّرُ بالجملةِ الظاهرِ كونُها مُثْبتةً عن الجملةِ المنفيةِ، إلاَّ في قليلٍ من الكلام نحو: شَرٌّ أهرَّ ذا نابٍ، على خلافٍ فيه، ولما آلَ أمرُه إلى الإِثباتِ المحصورِ جازَ. وأمَّا في الآيةِ فينبغي أَنْ لا يُحْمَلَ على القليلِ؛ لأن في ذلك تَخْليطًا لمعاني الجملِ المتباينةِ.
{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)}.
قوله: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ} يجوزُ رفعُ {إيمانُهم} اسمًا لكان، و{يَنْفَعُهم} جملةٌ خبرًا مقدمًا، ويجوزُ أَنْ يرتفعَ بأنه فاعلُ {يَنْفَعُهم} وفي كان ضمير الشأن. وقد تقدَّم لك هذا مُحَقَّقًا عند قولِه: {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ} [الأعراف: 137] وأنه لا يكونُ من بابِ التنازع فعليك بالالتفاتِ إليه، ودَخل حرفُ النفي على الكونِ لا على النفيِ؛ لأنه بمعنًى لا يَصِحُّ ولا ينبغي، كقوله: {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} [مريم: 35].
قوله: {سُنَّةَ اللَّهِ} يجوزُ انتصابُها على المصدرِ المؤكِّدِ لمضمونِ الجملةِ، يعني: أنَّ الذي فَعَلَ اللَّهُ بهم سُنَّةٌ سابقةٌ من الله. ويجوزُ انتصابُها على التحذيرِ أي: احذروا سنةَ اللَّهِ في المكذِّبين التي قد خَلَتْ في عبادِه.
و{هنالك} في الأصل مكان. قيل: واسْتُعير هنا للزمانِ، ولا حاجةَ له، فالمكانيَّةُ فيه ظاهرةٌ. اهـ.

.التفسير الإشاري:

قال الألوسي:
ومن باب الإشارة في بعض الآيات: على ما أشار إليه بعض السادات {حم} [غافر: 1] إشارة إلى ما أفيض على قلب محمد صلى الله عليه وسلم من الرحمن فإن الحاء والميم من وسط الاسمين الكريمين، وفي ذلك أيضًا سر لا يجوز كشفه ولما صدرت السورة بما أشار إلى الرحمة وأنها وصف المدعو إليه والداعي ذكر بعد من صفات المدعو إليه وهو الله عز وجل ما يدل على عظم الرحمة وسبقها، وفي ذلك من بشار المدعو ما فيه.
{الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ} [غافر: 7] إلخ فيه إشارة إلى شرف الإيمان وجلالة قدر المؤمنين وإلى أنه ينبغي للمؤمنين من بني آدم أن يستغفر بعضهم لبعض؛ وفي ذلك أيضًا من تأكيد الدلالة على عظم رحمة الله عز وجل ما لا يخفى {فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [غافر: 14] بأن يكون غير مشوب بشيء من مقاصد الدنيا والآخرة {يُلْقِى الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} قيل: في إطلاق الروح إشارة إلى روح النبوة وهو يلقى على الأنبياء، وروح الولاية ويلقى على العارفين، وروح الدراية ويلقى على المؤمنين الناسكين {لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق} [غافر: 15] قيل التلاقي مع الله تعالى ولا وجود لغيره تعالى وهو مقام الفناء المشار إليه بقوله سبحانه: {يَوْمَ هُم بارزون} من قبور وجودهم {لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شيء لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] إذ ليس في الدار غيره ديار {اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ} من التجلي {بِمَا كَسَبَتْ} في بذل الوجود للمعبود {لاَ ظُلْمَ اليوم} [غافر: 17] فتنال كل نفس من التجلي بقدر بذلها من الوجود لا أقل من ذلك {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الازفة إِذِ القلوب لَدَى الحناجر كاظمين} [غافر: 18] هذه قيامة العوام المؤجلة ويشير إلى قيامة الخواص المعجلة لهم، فقد قيل: إن لهم في كل نفس قيامة من العتاب والعقاب والثواب والبعاد والاقتراب وما لم يكن لهم في حساب، وخفقان القلب ينطق والنحول يخبر واللون يفصح والمشوق يستر ولكن البلاء يظهر، وإذا أزف فناء الصفات بلغت القلوب الحناجر وشهدت العيون بما تخفي الضمائر {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الاعين وَمَا تُخْفِى الصدور} [غافر: 19] خائنة أعين المحبين استحسانهم تعمد النظر إلى غير المحبوب باستحسان واستلذاذ وما تخفيه الصدور من متمنيات النفوس ومستحسنات القلوب ومرغوبات الأرواح {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} قيل أي اطلبوني مني أجبكم فتجدوني ومن وجدني وجد كل شيء فالدعاء الذي لا يرد هو هذا الدعاء، ففي بعض الأخبار من طلبني وجدني {إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى} دعائي وطلبي {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ} الحرمان والبعد مني {داخرين} [غافر: 60] ذليلين مهينين {الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِرًا} [غافر: 61] فيه إشارة إلى ليل البشرية ونهار الروحانية، وذكر أن سكون الناس في الليل المعروف على أقسام فأهل الغفلة يسكنون إلى استراحة النفوس والأبدان، وأهل الشهوة يسكنون إلى أمثالهم وأشكالهم من الرجال والنسوان، وأهل الطاعة يسكنون إلى حلاوة أعمالهم وقوة آمالهم.
وأهل المحبة يسكنون إلى أنين النفوس وحنين القلوب وضراعة الإسرار واشتعال الأرواح بالأشواق التي هي أحر من النار {الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَارًا} يشير إلى أنه تعالى جعل أرض البشرية مقرًا للروح {والسماء} بناء أي سماء الروحانية مبنية عليها {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64] بأن جعلكم مرايا جماله وجلاله، وفي الخبر «خلق الله تعالى آدم على صورته» وفي ذلك إشارة إلى رد {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء} [البقرة: 30] ولله تعالى من قال:
ما حطك الواشون عن رتبة ** عندي ولا ضرك مغتاب

كأنهم أثنوا ولم يعلموا ** عليك عندي بالذي عابوا

والكافر لسوء اختياره التحق بالشياطين وصار مظهرًا لصفات القهر من رب العالمين {وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين} [الزخرف: 76] تم الكلام على سورة المؤمن والحمد لله أولًا وآخرًا وباطنًا وظاهرًا. اهـ.