فصل: فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة:

قال محمد الغزالي:
سورة فصلت:
{تنزيل من الرحمن الرحيم} من ينابيع الرحمة تنزلت آيات الكتاب، فهى هداية تقى الناس شرور أنفسهم وسيئات أعمالهم، وتحميهم من خطل الأفكار وفوضى الغرائز، وطغيان القوى وعوج الأهواء! إن الوحى المبارك فيه الخير كله والعدل كله {كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا}.
أهل الوعى يدركون فضل هذه الآيات التي تجد الأتقياء بالرضا، وتتوعد الأغبياء بالشقاء، وما أقل الواعين في الناس! ولذلك قال: {فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون}.
وعروبة القرآن سمة الوحى المعجز، فلو ترجمت معانيه إلى لسان آخر ما كان المترجم قرآنا. إن الله اختار لغة العرب لتكون وعاء وحيه، واصطفى أهل هذه اللغة ليقودوا الناس إلى الخير. وفى الجاهلية الأولى لم يقبل الناس على الإسلام أول الأمر، بل كان إعراضهم عنه قاسيا جافيا، ومازال محمد بهم- عليه الصلاة والسلام- حتى عرفوا الحقيقة وافتدوها بالنفس والمال، وهدموا دولا ظلت دهرا طويلا تحمى الطاغوت وتفرض العدوان.. أما عرب الجاهلية المعاصرة فقد انحدرت إليهم خستان: تقاليد آبائهم أيام انحلال الحضارة الإسلامية، وتقاليد الغرب المادى الغارق في ملذاته وأوهامه! ولا أعرف ناسا أوضع من ملاحدة العرب، وأبعد عن الفكر والإنصاف، ويمكن أن يرددوا مقالة أبى جهل وأضرابه {وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون}.
وقد شاء الله أن يحمل العرب رسالة الإسلام. وأن تفضل هداياته بلسانهم، وقال: {ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد}.
ذلك، ويعتبر عربيا أي امرئ من القارات الخمس استعرب وجاد في لغة القرآن. فالعروبة ليست دم جنس معين، وقد أسلم قديما من الفرس والروم من خدم القرآن ولسانه أكثر ممن ولد في بطحاء الجزيرة! والمهتم ألا تكون على القلوب أغشية وألا تكون على الحواس علل تمنع من حسن السمع والنظر.. وأى امرئ سَوىّ يستطيع بعدئذ أن يتبع محمدا وهو يناشد البشر أجمعين: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون}. هل الاستقامة على الصراط والاستغفار من الخطأ تكاليف شاقة؟ وهل توحيد الله والرحمة بالفقراء واجبات صعبة؟؟ إنها كذلك عند أولى الأثرة والكبر! ومصير هؤلاء كالح، ولذلك هدد القرآن العرب- الأولين والآخرين- بالويل إذا طال إعراضهم عن الحق وجفاؤهم لرسوله، إنه مصير آبائهم الأقدمين من عاد وثمود! {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود}.
إن عاقبة الأخلاق القبيحة متشابهة وإن تباعدت السنون. لماذا هلكت عاد؟ {فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة}.
ولماذا هلكت ثمود؟ {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى}. إن بطر الحق وغمص الناس عند عاد، وإيثار الغى على الرشاد والباطل على الحق عند ثمود، هو ما أودى بهما.. فهل ينجو غيرهم من هذا المصير إذا تخلق بهذه الأخلاق؟ كلا إن الله لا يصلح عمل المفسدين. إننى أنظر إلى عرب اليوم وموقفهم من الإسلام فيغلبنى التشاؤم..! ثم إن عذاب الدنيا لا يغنى عن عذاب الآخرة {ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون}. إن السمع والبصر نعم أسداها الله للإنسان كى يعرف من عظمة الخلق عظمة الخالق، وكى يطل بعقله على الكون الكبير، فيقول الله أكبر.. فإذا عزل المرء سمعه وغطى بصره، ولم يتخذ طريقا إلى الله، فإن هذه المشاعر المهدرة ستكون أول من يشهد عليه ويعين على عذابه، يوم يلقى في النار ويواجه مصيرا لم تلق الحيوانات مثله! ويلاحظ أنه بين عرض الدعوة وجزاء مكذبيها وقع اعتراض معنوى طويل تضمن الكلام عن نشأة الخليقة ونظام الملكوت الضخم: {قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين}.
إن الإنسان من هذه الأرض نشأ وعلى خيراتها يحيا، ومنذ استخلفه الله فيها جعله ملكا على عناصرها ليكون عبدا لربه الذي سواه ونفخ فيه من روحه.. لكن الإنسان نسى وطغى. والظاهر من كلام العلماء أن الله أبدع المجموعة الشمسية أولا {خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور}.
ثم أنشأ البشرية بعدما مهد الأرض لسكناها، وبارك فيها وقدر فيها أقواتها. وهنا، وفى مواضع أخرى لفت الإنسان إلى أقرب شيء إليه، إلى الأرض التي عليها يعيش، ويؤمن إن شاء أو يكفر!! وذكر هذه الحقائق عقب عرض الدعوة مفهوم، فتدبرها أساس الإيمان، والتعامى عنها سبب البوار. في وسط سورة فصلت حديث عن عوالم أخرى تتصل بالإنسان وهويهم بالخير أو بالشر. إنه حديث عن الجن ووساوسها والملائكة وإلهاماتها، والماديون ينكرون ذلك كله، وليس لديهم دليل إلا وقوفهم عند الحس. ونحن نحترم المادة وما وراءها ونعترف بعالم الجن والملائكة والبشر جميعا. من الجن مؤمنون أخيار، ومنهم شياطين تلازم المرء وتنتهز غفلاته لتغريه بمعصية الله والتهاون بحقوقه. وقد انتهز إبليس- كبير الشياطين- خور- آدم وغفلته وأزه على الأكل من الشجرة المحرمة، وحلف له كاذبا أنه ناصح أمين! وأكل آدم وطرد من الجنة، والسبب الأول نسيانه وضعف عزيمته.
والسبب الثانى تربص الشيطان به وانتهازه الفرصة لخديعته. وكذلك فعل الشيطان مع خصوم الإسلام صدر الدعوة قال تعالى: {وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون}.
إن الكافرين رفضوا القرآن وكرهوا سماعه، وأغراهم الشيطان أن يحدثوا ضجيجا في مجلسه حتى لا يخلص إلى القلوب، وهذا منتهى الفشل في مواجهة الحق والعجز عن مجادلته. وكل صاد عن الحق يغريه الشيطان بمثل هذه الأفعال. ويوم الحساب يندمون على هذا الهوس {وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين}. أما أولو الألباب الذين شرحوا بالحق صدرا واتجهوا إلى نصرته، فإن الملائكة تحفهم وتؤنس وحشتهم وتعينهم على تخطى العقبات: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون}. ويرى أغلب المفسرين أن هذه الآية تتنزل على المحتضرين وهم في آخر منازل الدنيا وأول منازل الآخرة، لتطمئنهم على ما تركوا من أحبة ولتشرح صدورهم بما سيلقون من رضوان!! ولا بأس بهذا القول، وهو لا ينفى ما يدل عليه السياق من أن الملائكة تهبط على المؤمنين في أثناء جهادهم فتلهمهم الرشد وتعينهم على الحق. وقد صح أن الرسول- عليه الصلاة والسلام- قال! لرجل أحسن الثناء على الله: أعانك عليها ملك كريم، وقال لحسان بن ثابت وهو ينافح عن رسول الله: روح القدس يؤيدك. إن الملائكة تعين على الحق كما تعين الشياطين على الباطل، والأساس في الثواب والعقاب هو اتجاه الإنسان، وكسبه واكتسابه.
والشيطان ماهر في تجز الإنسان بعيدا عن الله وفى تعمية الصراط المستقيم أمامه، فكانت الدعوة إلى الله عملا يذكر الناس وينشط الكسول. والمفروض أن جهاز الدعوة يحرس الحقائق ويرد الشياطين ويطارد الأوهام والأهواء {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين}. والرسل أئمة الدعاة على امتداد الزمن، ونشاطهم ركن في دعم الإيمان وانتصار الخير، وأول ما يتجهون إليه تعريف الناس بربهم وتحبيبهم فيه. وقد جاءت آيات في السورة لتحقيق هذا المعنى {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن}.
{ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت}.
{إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه}. والمحزن أن أجهزة الدعوة الإسلامية معطوبة، وقد تكون في بعض الأعصار والأمصار معدومة، وتفريط العرب في خدمة الدعوة لا يمكن الدفاع عنه، وانشغالهم بأهوائهم وعصبياتهم أسقط دولتهم وأضاع رسالتهم، ويمكن أن تساق فيهم الآيات: {إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا} {إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه}.
إن حمل العرب لرسالة محمد هو حمل لرسالات الأنبياء قاطبة. فهم في الدنيا يمثلون الوحى من الأزل حتى النهاية {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك}.
أما أهل الكتاب فقد أضاعوا ما لديهم ونسوا قواعده {ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم}.
ومن الغريب أن القوم أنشط من المسلمين المعاصرين في خدمة مواريثهم.. ولهم مطارات لتنقيل الدعاة بين الشرق والغرب!! وقد ختمت السورة بآيات تغنى العرب المحدثين والعرب القدامى جميعا {قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد}؟ ثم يقول تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد}؟ إن كل يوم يجىء يزيد أشعة القرآن وهجا وحقائقه قوة، ويزيد نبوة محمد رسوخا وصدقا. لقد دعا إلى التوحيد الخالص، فهل اكتشف إله جديد غير مرسل الأنبياء المعروفين؟ ولقد وضع نظما للفرد والمجتمع والدولة، فهل وجدت في هذه النظم ثغرة؟ إنه ما يعيبها إلا التعطيل والإهمال {ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط}. اهـ.

.في رياض آيات السورة الكريمة:

.تفسير الآيات (1- 5):

قوله تعالى: {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
{بسم الله} الذي لم يرض لإحاطته بأوصاف الكمال من جلال الكتاب إلا ما اقترن بجمال العمل {الرحمن} الذي وسع كل شيء رحمة وعلمًا ففصل الكتاب تفصيلًا وبينه غاية البيان {الرحيم} الذي خص العلماء العاملين بسماع الدعوة ونفوذ الكلمة {حم} أي حكمة محمد التي أعجزت الخلائق.
ولما ختمت غافر الكفرة جادلوا في آيات الله بالباطل، وفرحوا بما عندهم من علم ظاهر الحياة الدنيا، وأنهم عند البأس انسلخوا عنه وتبرؤوا منه ورجعوا إلى ما جاءت به الرسل فلم يقبل منهم، فعلم أن كل علم لم ينفع عند الشدة والبأس فليس بعلم، بل الجهل خير منه، وكان ذلك شاقًا على النبي صلى الله عليه وسلم خوفًا من أن يكون آخر أمر أمته الهلاك، مع الإصرار على الكفر إلى مجيء البأس، وأن يكون أغلب أحواله صلى الله عليه وسلم النذارة، افتتح سبحانه هذه السورة بأن هذا القرآن رحمة لمن كان له علم وله قوة توجب له القيام فيما ينفعه، وكرر الوصف بالرحمة في صفة العموم وصفة الخصوص إشارة إلى أن أكثر الأمة مرحوم، وأعلم أن الكتاب فصل تفصيلًا وبين تبيينًا لا يضره جدال مجال، وكيد مماحك مماحل، وأنه مغن بعجز الخلق عنه عن اقتراح الآيات فقال مخبرًا عن مبتدأ: {تنزيل} أي بحسب التدريج عظيم {من الرحمن} أي الذي له الرحمة العامة للكافر والمؤمن بإنزال الكتب وإرسال الرسل {الرحيم} أي الذي يخص رحمته بالمؤمنين بإلزامهم ما يرضيه عنهم.
ولما تشوف السامع إلى بيان هذا التنزيل المفرق بالتدريج، بين أنه مع ذلك حاوٍ لكل خير فقال مبدلًا من تنزيل: {كتاب} أي جامع قاطع غالب.
ولما كان الجمع ربما أدى إلى اللبس قال: {فصلت} أي تفصيل الجوهر {آياته} أي بينت بيانًا شافيًا في اللفظ والمعنى مع كونها مفصلة إلى أنواع من المعاني، وإلى مقاطع وغايات ترقى جلائل المعاني إلى أعلى النهايات، حال كونه {قرآنًا} أي جامعًا مع التفصيل، وهو مع الجمع محفوظ بما تؤديه مادة قرأ من معنى الإمساك، وهو مع جمع اللفظ وضبطه وحفظه وربطه منشور اللواء منتشر المعاني لا إلى حد، ولا نهاية وعد، بل كلما دقق النظر جل المفهوم، ولذلك قال تعالى: {عربيًا} لأن لسان العرب أوسع الألسن ساحة، وأعمقها عمقًا وأغمرها باحة، وأرفعها بناء وأفصحها لفظًا، وأبينها معنى وأجلها في النفوس وقعًا، قال الحرالي: وهو قرآن لجمعه، فرقان لتفصيله، ذكر لتنبيهه على ما في الفطر والجبلات، وجوده حكيم لإنبائه الاقتضاءات الحكمية، مجيد لإقامته قسطاس العدل، عربي لبيانه عم كل شيء، كما قال تعالى في سوره أحسن القصص، وتفصيل كل شيء مبين لمحوه الكفر بما أبان من إحاطة أمر الله، محفوظ لإحاطته حيث لم يختص فيقبل العدول عن سنن.
ولما كان لا يظهر إلا لمن له قابلية ذلك، وأدمن اللزوم ذلًا للأعتاب، والقرع خضوعًا وحبًا للأبواب، قال معلقًا ب {فصلت} أو {تنزيل} أو {الرحمن الرحيم}: {لقوم} أي ناس فيهم قوة الإدراك لما يحاولونه {يعملون} أي فيهم قابلية العلم وتجدد الفهم بما فيهم من سلامة الطبع وسلاسة الانقياد لبراهين العقل والسمع وحدة الأذهان وفصاحة اللسان وصحة الأفكار وبعد الأغوار، وفي هذا تبكيت لهم في كونهم لا ينظرون محاسنه فيهتدوا بها كما يعتنون بالنظر في القصائد حتى يقضوا لبعضها على بعض حتى أنهم ليعلقون بعضها على الكعبة المشرفة تشريفًا له، وفيه حث لهم- وهم أولو العزائم الكبار- على العلم بع ليغتنوا عن سؤال اليهود، وفيه بشرى بأنه تعالى يهب العرب بعد هذا الجهل علمًا كثيرًا، وعن هذا الكفر إيمانًا عظيمًا كبيرًا، وفي الآية إشارة إلى ذم المقترحين المشار إليهم آخر التي قبلها بأنهم قد أتاهم ما أغناهم عنه من آيات هذا الكتاب الذي عجزوا عن مباراته، ومناظرته ومجاراته وذلك في غاية الغرابة، لأنه كلام من جنس كلامهم في كونه عربيًا، وقد خالفت كلامهم وأسجاعهم، مع كونه ليس شعرًا ولا سجعًا أصلًا ولا هم من أنواع نثرهم، ولا من ضروب خطبهم، فعجزوا عن الإيتان بشيء من مثله في مر الأحقاب وكر الدهور والأعضار، وكفى بذلك معجزة شديدة الغرابة بمن ينيب.
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير: لما تضمنت سورة غافر بيان حال المعاندين وجاحدي الآيات، وأن ذلك ثمرة تكذيبهم وجدلهم، وكان بناء السورة على هذا الغرض بدليل افتتاحها وختمها، ألا ترى قوله تعالى: {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا} [غافر: 4] وتأنيس نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام بقوله: {فلا يغررك تقبلهم في البلاد} [غافر: 4] فقد تقدم ذلك من غيرهم فأعقبهم سوء العاقبة والأخذ الوبيل {كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه} فعصمتهم واقية.
{إنا لننصر رسلنا} [غافر: 51] وقال تعالى: {وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب} [غافر: 5] أي رأيت ما حل بهم وقد بلغك خبرهم، فلا اعتبر هؤلاء بهم 77 أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وإثارًا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق 7 [غافر: 21] وإنما أخذهم بتكذيبهم الآيات.