فصل: التفسير الإشاري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير الإشاري:

.قال نظام الدين النيسابوري:

التأويل: إنه سبحانه من كمال الكرم والاصطناع إذا صدر من العبد أمارات النشوز والانقطاع أمهله إلى انقضاء عدة الجفاء، فلعله يعود إلى إقامة شرائط الوفاء، وتتحرك داعية في صميم قلبه من نتائج محبة ربه، إذ لم يكن له أن يكتم ما خلق الله في رحم قلبه من المحبة. وإن ابتلاه الله بمحنة الفرقة فيقرع بأصبع الندامة باب التوبة، ويقوم على قدم الغرامة في طلب الرجعة والأوبة فيقال له من غاية الفضل والنوال: يا قارع الباب دع نفسك وتعال، من طلب منا فلاحًا فليلزم عتبتنا مساء وصباحًا. {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحًا ولهن مثل الذي عليهن} أي للعباد حق في ذمة الربوبية كما أن الله تعالى حقًا في ذمة عباده، فإذا تقرب العبد إليه شبرًا فالله أحق برعاية الحق فيقرب إليه ذراعًا. والفضل له على الإطلاق لا بدرجة بل بدرجات غير متناهية {والله عزيز} أعز من أن يراعي العباد مع عجزهم كمال حقوقه {حكيم} لا تقتضي حكمته أن يطالبهم بما ليس في وسعهم بل يقبل منهم القليل ويوفيهم الثواب الجزيل {الطلاق مرتان} يعني أن أهل الصحبة لا يفارقون بجريمة ولا جريمتين كما في قصة موسى والخضر. ثم في الثالثة إن سلكوا سبيل الهجران فلا يحل للإخوان أن يواصلوا الخوان حتى يصاحب الخائن صديقًا مثله، فإن ندم بعد ذلك عن أفعاله وسام ذلك الصديق وأمثاله ورجع إلى صحبة أشكاله {فلا جناح} في التراجع {إن ظنا} فيه خيرًا ولا يجوز لأحد من الإخوان أن يعضله من صحبة الأقران. وفيه أن الله تعالى يتجاوز عن زلات العبد مرة بعد أخرى، فإذا أصر العبد ابتلاه بالخذلان وجعله قرين الشيطان كما قال: {ومن يعش عن ذكر الرحمن} [الزخرف: 36] فإن طلق قرين الشيطان ورجع إلى باب الرحمن تداركه بالغفران والرضوان. وأما قوله: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا} فإشارة إلى أنه ليس لأهل الصحبة- وإن اتفقت المفارقة- أن يستردوا خواطرهم عن الرفقاء بالكلية، فإن العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه إلا أن يؤدي إلى مداهنة وإهمال حق من حقوق الدين {فلا جناح عليهما فيها افتدت به} كأن لم يكن بينهما صحبة {فإن الله سميع} بمقالتهم {عليم} بحالهم والله ولي التوفيق. اهـ.

.قال الألوسي:

ومن باب الإشارة في هذه الآيات: {ألم تر إلى} ملأ القوى {من بني إسرائيل} البدن {من بعد موسى} القلب {إذ قالوا لنبي} عقولهم: {ابعث لَنَا مَلِكًا نقاتل في سَبِيلِ الله} وطريق الوصول إليه بواسطة أمره وإرشاده {قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تقاتلوا} أي إني أتوقع منكم عدم المقاتلة لانغماسكم في أوحال الطبيعة {قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نقاتل} في طريق السير إلى الله تعالى، {وقد أخرجنا} من ديار استعداداتنا الأصلية التي لم نزل بالحنين إليها؛ واغتربنا عن أبناء كمالاتنا اللاتي لم نبرح عن مزيد البكاء عليها {فلما كتب عليهم القتال} لعدوهم الذي تسبب لهم الاغتراب وأحل بهم العجب العجاب تولوا وأعرضوا عن مقاتلته وانتظموا في سلك شيعته {إِلاَّ قَلِيلًا مّنْهُمُ} وهم القوى المستعدة {والله عَلِيمٌ بالظالمين} [البقرة: 6 24] الذين نقصوا حظوظهم {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ} الروح الإنساني ملكًا متوجًا بتاج الأنوار الإلهية جالسًا على كسرى التدبيرات الصمدانية {قَالُواْ} لاحتجابهم بحجاب الأنانية وغفلتهم عن العلوم الحقانية كيف يكون له الملك علينا مع انحطاط مرتبته بتنزله إلى عالم الكثافة من عالمه الأصلي وليس فيه مشابهة لنا {وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ} لاشتراكنا في عالمنا ومشابهة بعضنا بعضًا وشبيه الشيء ميال إليه قريب اتباعه له:
ولكل شيء آفة من جنسه

{وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً} من مال التصرف إذ لا يتصرف إلا بالواسطة قَالَ إِنَّ الله تَعَالَى اختاره عليكم لبساطته وتركبكم وزاده سعة في العلم الإلهي وقوة في الذات النوراني، {والله يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاء} فيدبره بإذنه، {والله واسع} لسعة الإطلاق، {عَلِيمٌ} [البقرة: 7 24] بالحكم التي تقتضي الظهور والتجلي بمظاهر الأسماء، {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ} عليكم وخلافته من قبل الرب فيكم {أَن يَأْتِيَكُمُ} تابوت الصدر {فِيهِ سَكِينَةٌ} أي طمأنينة من {رَبُّكُمْ} وهي الطمأنينة بالإيمان والأنس بالله تعالى، {وَبَقِيَّةٌ مّمَّا تَرَكَ آلُ موسى} القلب {وَقَالَ لَهُمْ} السر، وهي من التوحيد وعصا لا إله إلا الله التي تلقف عظيم سحر صفات النفس وطست تجلي الأنوار الذي يغسل به قلوب الأنبياء وشيء من توراة الإلهامات {تَحْمِلُهُ} [البقرة: 8 24] ملائكة الاستعدادات لدى طالوت الروح فعند ذلك تسلم له الخلافة وينقاد له جميع أسباط صفات الإنسان، {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ} وجنوده من وزير العقل ومشير القلب ومدبر الأفهام ونظام الحواس {قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ} الطبيعة الجسمانية المترع بمياه الشهوات {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ} وكرع مفرطًا في الري فليس من أشياعي الذين هم من عالم الروحانيات وأهل مكاشفات الصفات {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ} ويذقه فإنه من سكان حظائر القدس وحضار جلوة عرائس منصة الأنس {إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ} وكرعوا وانهمكوا فيه {إِلاَّ قَلِيلًا مّنْهُمُ} وهم المتنزهون عن الأقذار الطبيعية المتقدسون عن ملابسها المتجردون عن غواشيها وقليل ما هم فلما جاوز طالوت الروح نهر الطبيعة وعبره {هُوَ والذين آمَنُواْ} من القلب والعقل والملك وغيرهم من اتباع الروح {مَعَهُ}، قال بعضهم وهم الضعفاء الذين لم يصلوا إلى مقام التمكين {لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم} بمحاربة جالوت النفس وأعوانه لعراقتهم بالخدع والدسائس {قَالَ الذين} يتيقنون {أَنَّهُم مُلاَقُواْ الله} بالرجوع إليه: {كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً} وقهرتها حتى أذهبت كثرتها {بِإِذُنِ الله} وتيسيره، {والله مَعَ الصابرين} [البقرة: 9 24] بالتجلي الخاص لهم، فلما برزوا لحرب جالوت وجنوده تبرءوا من الحول والقوة وقالوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} واستقامة، {وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا} في ميادين الجهاد حتى لا نرجع القهقرى من بعد؛ {وانصرنا} [البقرة: 0 25] على أعدائنا الذين ستروا الحق، وهم النفس الأمارة وصفاتها {فَهَزَمُوهُم} وكسروهم {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ الله وَقَتَلَ} القلب {جَالُوتَ} النفس، ووصلوا كلهم إلى مقام التمكين فلا يخشون الرجعة والردة، وكان قد رماه بحجر التسليم في مقلاع الرضا بيد ترك الالتفات إلى السوي فأصاب ذلك دماغ هواه فخر صريعًا فآتى الله تعالى داود ملك الخلافة وحكمة الإلهامات {وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء} من صنعة لبوس الحروب، ومنطق طيور الواردات وتسبيح جبال الأبدان، {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم} كأرباب الطلب {بِبَعْضِ} كالمشايخ الواصلين {لَفَسَدَتِ} أرض استعداداتهم المخلوقة في أحسن تقويم عند استيلاء جالوت النفس، {ولكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين}، [البقرة: 1 25] ومن فضله تحريك سلسلة طلب الطالبين وإلهام أسرارهم إرادة المشايخ الكاملين وتوفيقهم للتمسك بذيل تربيتهم والتشبث بأهداب سيرتهم فسبحانه من جواد لا يبخل ومتفضل على من سأل ومن لم يسأل. اهـ.

.تفسير الآية رقم (246):

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يتمنون في مكة المشرفة الإذن في مقارعة الكفار ليردوهم عما هم عليه من الأذى والغي والعمى عجب من حال بني إسرائيل حيث سألوا الأمر بالقتال ثم لم ينصفوا إذ أمروا تحذيرًا من مثل حالهم، وتصويرًا لعجيب قدرته على نقض العزائم وتقليب القلوب، وإعلامًا بعظيم مقادير الأنبياء وتمكنهم في المعارف الإلهية، ودليلًا على ختام الآية التي قبلها فقال مقبلًا على أعلى الخلق إشارة إلى أن للنفوس من دقائق الوساوس ما لا يفهمه إلا البصراء: {ألم تر} قال الحرالي: أراه في الأولى حال أهل الحذر من الموت بما في الأنفس من الهلع الذي حذرت منه هذه الأمة ثم أراه في هذه مقابل ذلك من الترامي إلى طلب الحرب وهما طرفا انحراف في الأنفس، قال صلى الله عليه وسلم: «لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموه فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» ففيه إشعار لهذه الأمة بأن لا تطلب الحرب ابتداء وإنما تدافع عن منعها من إقامة دينها كما قال سبحانه وتعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} [الحج: 39] وقال عليه الصلاة والسلام:
والمشركون قد بغوا علينا ** إذا أرادوا فتنة أبينا

فحق المؤمن أن يأبى الحرب ولا يطلبه فإنه إن طلبه فأوتيه عجز كما عجز هؤلاء حين تولوا إلا قليلًا فهذه الأقاصيص ليس المراد منها حديثًا عن الماضين وإنما هو إعلام بما يستقبله الآتون، إياك أعني واسمعي يا جارة! فلذلك لا يسمع القرآن من لم يأخذه بجملته خطابًا لهذه الأمة بكل ما قص له من أقاصيص الأولين- انتهى.
ويجوز أن يكون الخطاب لكل من ألقى السمع وهو شهيد.
ولما كان الإخلال من الشريف أقبح قال: {إلى الملإ} أي الأشراف، قال الحرالي: الذين يملؤون العيون بهجة والقلوب هيبة- انتهى.
ولما كان ذلك من أولاد الصلحاء أشنع قال: {من بني إسراءيل} ولما كان ممن تقرر له الدين واتضحت له المعجزات واشتهرت عنده الأمور الإلهيات أفحش قال: {من بعد موسى} أي الذي أتاهم من الآيات بما طبق الأرض كثرة وملأ الصدور عظمة وأبقى فيهم كتابًا عجبًا ما بعد القرآن من الكتب السماوية مثله.
قال الحرالي: وفيه إيذان بأن الأمة تختل بعد نبيها بما يصحبها من نوره زمن وجوده معهم، قالوا: ما نفضنا أيدينا من تراب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا- انتهى.
{إذ قالوا} ولما كان الإخلاف مع الأكابر لاسيما مع الأنبياء أفظع قال: {لنبي لهم} ونكره لعدم مقتض لتعريفه.
قال الحرالي: لأن نبيهم المعهود الآمر لهم إنما هو موسى عليه الصلاة والسلام، ومن بعده إلى عيسى عليهم الصلاة والسلام إنما هم أنبياء بمنزلة الساسة والقادة لهم كالعلماء في هذه الأمة منفذون وعالمون بما أنزل على موسى عليه الصلاة والسلام كذلك كانوا إلى حين تنزيل الإنجيل فكما قص في صدر السورة حالهم مع موسى عليه الصلاة والسلام قص في خواتيمها حالهم من بعد موسى لتعتبر هذه الأمة من ذلك حالها مع نبيها صلى الله عليه وسلم وبعده انتهى.
ولما كان عندهم من الغلظة ما لا ينقادون به إلا لإنالة الملك وكان القتال لا يقوم إلا برأس جامع تكون الكلمة به واحدة قالوا: {ابعث لنا} أي خاصة {ملكًا} أي يقيم لنا أمر الحرب {نقاتل} أي عن أمره {في سبيل الله} أي الملك الأعلى.
قال الحرالي في إعلامه أخذهم الأمر بمنة الأنفس حيث لم يظهر في قولهم إسناد إلى الله سبحانه وتعالى الذي لا تصح الأعمال إلا بإسنادها إليه فما كان بناء على تقوى تم، وما كان على دعوى نفس انهدّ {قال} أي ذلك النبي {هل} كلمة تنبئ عن تحقيق الاستفهام اكتفي بمعناها عن الهمزة- انتهى.
{عسيتم} أي قاربتم ولما كانت العناية بتأديب السائلين في هذا المهم أكثر قدم قوله: {إن كتب} أي فرض- كذا قالوا، والأحسن عندي كما يأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه في سورة براءة أن يكون المعنى: هل تخافون من أنفسكم، ولما كان القصد التنبيه على سؤال العافية والبعد عن التعرض للبلاء لخطر المقام بأن الأمر إذا وجب لم تبق فيه رخصة فمن قصر فيه هلك وسط بين عسى وصلتها قوله: {عليكم القتال} فرضًا لازمًا، وبناه للمفعول صيانة لاسم الفاعل عن مخالفة يتوقع تقصيرهم بها {ألا تقاتلوا} فيوقعكم ذلك في العصيان، قال الحرالي: بكسر سين عسى وفتحها لغتان، عادة النحاة أن لا يلتمسوا اختلاف المعاني من أوساط الصيغ وأوائلها، وفي فهم اللغة وتحقيقها إعراب في الأوساط والأوائل كما اشتهر إعراب الأواخر عند عامة النحاة، فالكسر حيث كان مبنى عن باد عن ضعف وانكسار، والفتح معرب عن باد عن قوة واستواء- انتهى.
فكأنه صلى الله عليه وسلم فهم أن بعضهم يترك القتال عن ضعف عنه وبعضهم يتركه عن قوة ولذلك نفى الفعل ولم يقل: أن تعجزوا.
قال الحرالي: فأنبأهم بما آل إليه أمرهم فلم يلتفوا عنه وحاجوه وردوا عليه بمثل سابقة قولهم، ففي إشعاره إنباء بما كانوا عليه من غلظ الطباع وعدم سرعة التنبه. اهـ.