فصل: قال ابن قتيبة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وجيء بقوله: {نذيرًا} معطوفًا بالواو للتنبيه على اختلاف موقع كل من الحالين فهو بشير لقوم وهم الذين اتبعوه ونذير لآخرين، وهم المعرضون عنه، وليس هو جامعًا بين البشارة والنذارة لطائفة واحدة فالواو هنا كالواو في قوله: {ثيبات وأبكارا} [التحريم: 5] بعد قوله: {مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات} [التحريم: 5].
وتفريع {فأعْرَضَ أكْثَرُهُم} على ما ذكر من صفات القرآن.
وضمير {أكثرهم} عائد إلى معلوم من المقام وهم المشركون كما هي عادة القرآن في غير موضع.
والمعنى: فأعرض أكثر هؤلاء عما في القرآن من الهدى فلم يهتدوا، ومن البشارة فلم يُعنوا بها، ومن النذارة فلم يحذروها، فكانوا في أشد الحماقة، إذ لم يعنوا بخَير، ولا حَذِرُوا الشر، فلم يأخذوا بالحيطة لأنفسهم وليس عائدًا ل {قوم يعلمون} لأن الذين يعلمون لا يُعرض أحد منهم.
والفاء في قوله: {فَهُمْ لا يَسْمَعُون} للتفريع على الإِعراض، أي فهم لا يُلقون أسماعهم للقرآن فضلًا عن تدبره، وهذا إجمال لإِعراضهم.
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في {فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} دون أن يقول: فلا يسمعون لإِفادة تقوّي الحكم وتأكيده.
{وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)} عطف {وقالوا} على {فأعرض} [فصلت: 4] أو حالٌ من {أكثرهم} [فصلت: 4] أو عطف على {لا يَسْمَعُونَ} [فصلت: 4]، أو حال من ضميره، والمعنى: أنهم أعرضوا مصرحين بقلة الاكتراث وبالانتصاب للجفاء والعداء.
وهذا تفصيل للإعراض عما وُصف به القرآن من الصفات التي شأنها أن تقربهم إلى تلقيه لا أن يَبعدوا ويعرضوا وقد جاء بالتفصيل بأقوالهم التي حرمتهم من الانتفاع بالقرآن واحدًا واحدًا كما ستعلمه.
والمراد بالقلوب: العقول، حكي بمصطلح كلامهم قولهم إذ يطلقون القلب على العقل.
والأكنة: جمع كنان مثل: غطاء وأغطية وزنًا ومعنى، أثبتت لقلوبهم أغطية على طريقة التخييل، وشُبهت القلوب بالأشياء المغطّاة على طريقة الاستعارة المكنية.
ووجه الشبه حيلولة وصول الدعوة إلى عقولهم كما يحول الغطاء والغلاف دون تناول ما تحته.
ومَا يدعوهم إليه يعم كل ما دعاهم إليه من المدلولات وأدلتها، ومنها دلالة معجزة القرآن وما تتضمنه من دلالة أمية الرسول صلى الله عليه وسلم من نحو قوله تعالى: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك} [العنكبوت: 48].
وجعلت القلوب في أكنة لإِفادة حرف {في} معنى إحاطة الظرف بالمظروف.
وكذلك جعل الوَقر في القلوب لإِفادة تغلغله في إدراكهم.
ومِن في قوله: {مِمَّا تَدْعُونَا إلَيْهِ} بمعنى عن مثل قوله تعالى: {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر اللَّه} [الزمر: 22] وقوله: {قد كنا في غفلة من هذا} [الأنبياء: 97]، والمعنى: قلوبنا في أكنة فهي بعيدة عما تدعونا إليه لا ينفذ إليها.
والوَقر بفتح الواو: ثقل السمع وهو الصمم، وكأنَّ اللغة أخذته من الوِقر بكسر الواو، وهو الحِمل لأنه يثقل الدَّابة عن التحرك، فأطلقوه على عدم تحرك السمع عند قرع الصوت المسموع، وشاع ذلك حتى ساوى الحقيقة ففتحوا له الواو تفرقة بين الحقيقة والمجاز، كما فرقوا بين العَضّ الحقيقي وعظِّ الدهر بأن صيروا ضادهُ ظاء.
وقد تقدم ذكر الأكنة والوقر في قوله: {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا} في الأنعام (25) وفي سورة الإِسراء (46).
والحجاب: الساتر للمرئيّ من حائط أو ثوب.
أطلقوا اسم الحجاب على ما يمنع نفوسهم أن يأخذوا بالدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من كراهية دينه وتجافي تقلده بجامععِ أن الحجاب يحول بين الرائي والمَرْئِيّ فلا ينظر أحدهما الآخر ولا يصل إليه، ومرادهم البراءة منه.
مثل نبوّ قلوبهم عن تقبُّل الإسلام واعتقاده بحال ما هو في أكنّة، وعدمَ تأثر أسماعهم بدعوته بصَم الآذان، وعدمَ التقارب بين ما هم عليه وما هو عليه بالحجاب الممدود بينه وبينهم فلا تلاقيَ ولا ترائيَ.
وقد جمعوا بين الحالات الثلاث في التمثيل للمبالغة في أنهم لا يقبلون ما يدعوهم إليه.
واجتلابُ حرف {مِن} في قوله: {وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِك حِجَابٌ} لتقوية معنى الحجاب بين الطرفين وتمكن لازمه الذي هو بُعد المسافة التي بين الطرفين لأن {مِن} هذه زائدة لتأكيد مضمون الجملة.
وضمير {بيننا} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {أكثرهم} [فصلت: 4].
وعطف وبينك تأكيد لأن واو العطف مغنية عنه وأكثر استعمال بين أن يكون معطوفًا عليه مثله كقوله تعالى: {قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين} [الزخرف: 38].
وقد جعل ابن مالك من الداخلة على قبل وبعد زائدة فيكون بَين مقيسًا على قبل وبعد لأن الجميع ظروف.
وهذا القول المحكي عنهم في القرآن ب {قالوا} يحتمل أن يكون القرآن حكاه عنهم بالمعنى، فجمع القرآن بإيجازه وبلاغته ما أطالوا به الجدال وأطنبوا في اللجاج، ويحتمل أنه حكاه بلفظهم فيكون مما قاله أحد بلغائهم في مجامعهم التي جمعت بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم وهذا ظاهر ما في سيرة ابن إسحاق، وزعم أنهم قالوه استهزاء وأن الله حكاه في سورة الكهف.
ويحتمل أن يكونوا تلقفوه ممّا سمعوه في القرآن من وصف قلوبهم وسمعهم وتباعدهم كقوله: {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا} في سورة الإسراء (46)، فإن سورة الإسراء معدودة في النزول قبل سورة فصلت.
وكذلك قوله تعالى: {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابًا مستورًا} في سورة الإِسراء (45) أيضًا، فجمعوا ذلك وجادلوا به الرسول.
فيكون ما في هذه الآية من البلاغة قد اقتبسوه من آيات أخرى.
قيل: إن قائله أبو جهل في مجمع من قريش فلذلك أسند القول إليهم جميعًا لأنهم مشائعون له.
وقد جاء في حكاية أقوالهم ما فيه تفصيل ما يقابل ما ذُكر قبله من صفات القرآن وهي {تَنزِيلٌ مِنَ الرحمنن الرَّحِيممِ كتاب فُصِّلَتْ ءاياته قُرْءَانًا عَرَبِيًا} [فصلت: 2، 3]، فإن كونَه تنزيلًا من الرحمان الرحيم يستدعي تفهمه والانتفاع بما فيه، فقوبل بقولهم: {قُلُوبُنَا فِي أكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إليهِ} وكونَهُ فُصلت آياته يستدعي تلقّيها والاستماعَ إليها فقوبل بقولهم: {في آذاننا وقر}، أي فلا نسمع تفصيله، وكونَه قرآنًا عربيًا أشد إلزامًا لهم بفهمه فقوبل ذلك بما يقطع هذه الحجة وهو {من بيننا وبينك حجاب} أي فلا يصل كلامه إليهم ولا يتطرق جانبهم، فهذه تفاصيل إعراضهم عن صفات القرآن.
وقولهم: {فاعْمَل إنَّنَا عاملون} تفريع على تأييسهم الرسول من قبولهم دعوته وجعل قولهم هذا مقابِل وصف القرآن بأنه بَشير ونذير لظهور أنه تعين كونه نذيرًا لهم بعذاب عظيم لأنهم أعرضوا فحكي ما فيه تصريحهم بأنهم لا يعبأُون بنذارته فإن كان له أذى فليؤذهم به وهذا كقول فرعون: {ذَرَوني أَقتُل موسى ولْيَدْعُ ربه}.
وحذف مفعولا اعمل و{عاملون} ليعُمّ كل ما يمكن عمله كل مع الآخر ما يناسبه.
والأمر في قوله: {فاعمل} مستعمل في التسوية كقول عنترة بن الأخرس المعْنِي:
أَطِلْ حملَ الشَّناءة لِي وبُغضي ** وعِشْ ما شئتَ فانظر من تضيرُ

وكقوله تعالى: {اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير} [فصلت: 40].
والخَبر في قولهم: {إنَّنَا عاملون} مستعمل في التهديد. اهـ.

.قال ابن قتيبة:

باب ذكر العرب وما خصّهم اللّه به من العارضة والبيان واتّساع المجاز:
وإنما يعرف فضل القرآن من كثر نظره، واتسع علمه، وفهم مذاهب العرب وافتنانها في الأساليب، وما خصّ اللّه به لغتها دون جميع اللغات، فإنه ليس في جميع الأمم أمّة أوتيت من العارضة، والبيان، واتساع المجال، ما أوتيته العرب خصّيصى من اللّه، لما أرهصه في الرسول، وأراده من إقامة الدليل على نبوّته بالكتاب، فجعله علمه، كما جعل علم كل نبي من المرسلين من أشبه الأمور بما في زمانه المبعوث فيه:
فكان لموسى فلق البحر، واليد، والعصا، وتفجّر الحجر في التّيه بالماء الرّواء، إلى سائر أعلامه زمن السّحر.
وكان لعيسى إحياء الموتى، وخلق الطير من الطين، وإبراء الأكمه والأبرص، إلى سائر أعلامه زمن الطب.
وكان لمحمد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، الكتاب الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله، لم يأتوا به، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، إلى سائر أعلامه زمن البيان.
فالخطيب من العرب، إذا ارتجل كلاما في نكاح، أو حمالة، أو تحضيض، أو صلح، أو ما أشبه ذلك- لم يأت به من واد واحد، بل يفتنّ: فيختصر تارة إرادة التخفيف، ويطيل تارة إرادة الإفهام، ويكرّر تارة إرادة التوكيد، ويخفي بعض معانيه حتى يغمض على أكثر السامعين، ويكشف بعضها حتى يفهمه بعض الأعجميين، ويشير إلى الشيء ويكني عن الشيء.
وتكون عنايته بالكلام على حسب الحال، وقدر الحفل، وكثرة الحشد، وجلالة المقام.
ثمّ لا يأتي بالكلام كلّه، مهذّبا كلّ التّهذيب، ومصفّى كلّ التّصفية، بل تجده يمزج ويشوب، ليدل بالنّاقص على الوافر، وبالغثّ على السمين. ولو جعله كلّه نجرا واحدا، لبخسه بهاءه، وسلبه ماءه.
ومثل ذلك الشّهاب من القبس نبرزه للشّعاع، والكوكبان يقترنان، فينقص النّوران، والسّخاب ينظم بالياقوت والمرجان والعقيق والعقيان، ولا يجعل كلّه جنسا واحدا من الرفيع الثّمين، ولا النّفيس المصون.
وألفاظ العرب مبنية على ثمانية وعشرين حرفا، وهي أقصى طوق اللّسان.
وألفاظ جميع الأمم قاصرة عن ثمانية وعشرين ولست واجدا في شيء من كلامهم حرفا ليس في حرفنا إلا معدولا عن مخرجه شيئا، مثل الحرف المتوسط مخرجي القاف والكاف، والحرف المتوسط مخرجي الفاء والباء.
فهذه حال العرب في مباني ألفاظها.
ولها الإعراب الذي جعله اللّه وشيا لكلامها، وحلية لنظامها، وفارقا في بعض الأحوال بين الكلامين المتكافئين، والمعنيين المختلفين كالفاعل والمفعول، لا يفرّق بينهما، إذا تساوت حالاهما في إمكان الفعل أن يكون لكلّ واحد منهما- إلا بالإعراب.
ولو أن قائلا قال: هذا قاتل أخي بالتنوين، وقال آخر: هذا قاتل أخي بالإضافة- لدّل التنوين على أنه لم يقتله، ودلّ حذف التنوين على أنه قد قتله.
ولو أن قارئا قرأ: {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76)} [يس: 76] وترك طريق الابتداء بإنّا، وأعمل القول فيها بالنصب على مذهب من ينصب أنّ بالقول كما ينصبها بالظن- لقلب المعنى عن جهته، وأزاله عن طريقته، وجعل النبيّ، عليه السلام، محزونا لقولهم: إنّ اللّه يعلم ما يسرّون وما يعلنون. وهذا كفر ممن تعمّده، وضرب من اللحن لا تجوز الصلاة به، ولا يجوز للمأموين أن يتجوّزوا فيه.
وقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «لا يقتل قرشي صبرا بعد اليوم».
فيمن رواه جزما أوجب ظاهر الكلام للقرشي ألا تقتل إن ارتد، ولا يقتصّ منه إن قتل.
ومن رواه رفعا انصرف التأويل إلى الخبر عن قريش: أنه لا يرتدّ منها أحد عن الإسلام فيستحقّ القتل.
أفما ترى الإعراب كيف فرق بين هذين المعنيين.
وقد يفرقون بحركة البناء في الحرف الواحد بين المعنيين.
فيقولون: رجل لعنة، إذا كان يلعنه الناس. فإن كان هو الذي يلعن الناس، قالوا:
رجل لعنة فحركوا العين بالفتح.
ورجل سبّة إذا كان يسبه الناس، فإن كان هو يسبّ الناس قالوا: رجل سببة.
وكذلك: هزأة، وهزأة وسخرة، وسخرة وضحكة، وضحكة وخدعة، وخدعة.
وقد يفرقون بين المعنيين المتقاربين بتغيير حرف في الكلمة حتى يكون تقارب ما بين اللفظين، كتقارب ما بين المعنيين.
كقولهم للماء الملح الذي لا يشرب إلا عند الضرورة: شروب، ولما كان دونه مما قد يتجوّز به: شريب.
وكقولهم لما ارفضّ على الثوب من البول إذ كان مثل رءوس الإبر: نضح، ورشّ الماء عليه يجزىء من الغسل، فإن زاد على ذلك قليلا قيل له: نضخ ولم يجزىء فيه إلا الغسل.
وكقولهم للقبض بأطراف الأصابع: قبض وبالكف: قبض وللأكل بأطراف الأسنان: قضم وبالفم: خضم.
ولما ارتفع من الأرض: حزن فإن زاد قليلا قيل: حزم.
وللذي يجد البرد: خصر فإن كان مع ذلك جوع قيل: خرص.
وللنار إذا طفئت: هامدة فإن سكن اللّهب وبقي من جمرها شيء قيل: خامدة.
وللقائم من الخبل: صائم فإن كان ذلك من حفىّ أو وجى، قيل: صائن.
وللعطاء: شكد فإن كان مكافأة قيل: شكم.
وللخطأ من غير التعمد: غلط فإن كان في الحساب قيل: غلت.
وللضيق في العين: خوص فإن كان ذلك في مؤخّرها قيل: حوص.
وقد يكتنف الشيء معان فيشتقّ لكل معنى منها اسم من اسم ذلك الشيء، كاشتقاقهم من البطن للخميص: مبطّن وللعظيم البطن إذا كان خلقة: بطين فإذا كان من كثرة الأكل قيل مبطان وللمنهوم: بطن وللعليل البطن: مبطون.
ويقولون: وجدت الضّالة ووجدت في الغضب، ووجدت في الحزن، ووجدت في الاستغناء. ثم يجعلون الاسم الضّالة: وجودا ووجدانا وفي الحزن وجدا وفي الغضب موجدة وفي الاستغناء وجدا.
في أشياء كثيرة، ليس لاستقصاء ذكرها في كتابنا هذا، وجه.
وللعرب الشّعر الذي أقامه اللّه تعالى لها مقام الكتاب لغيرها، وجعله لعلومها مستودعا، ولآدابها حافظا، ولأنسابها مقيّدا، ولأخبارها ديوانا لا يرثّ على الدّهر، ولا يبيد على مرّ الزّمان.
وحرسه بالوزن، والقوافي، وحسن النّظم، وجودة التخيير- من التدليس والتّغيير، فمن أراد أن يحدث فيه شيئا عسر ذلك عليه، ولم يخف له كما يخفى في الكلام المنثور.