فصل: فوائد لغوية إعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَقَالُواْ} أي لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم عندَ دعوتِه إيَّاهم إلى الإيمان والعملِ بما في القرآن {قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ} أي أغطيةٍ متكاثفةٍ {مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ} أي صممٌ، وأصلُه الثقلُ. وقُرئ بالكسرِ، وقُرئ بفتحِ القافِ {وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} غليظٌ يمنعنَا عن التواصلِ، ومنْ للدلالةِ على أن الحجابَ مبتدأٌ من الجانبينِ بحيثُ استوعبَ ما بينهما من المسافةِ المتوسطةِ ولم يبقَ ثمةَ فراغٌ أصلًا وهذه تمثيلاتٌ لنُبوِّ قلوبِهم عنْ إدراك الحقِّ وقبولِه ومجِّ أسماعِهم له كأنَّ بها صممًا وامتناع مواصلتِهم وموافقتِهم للرسولِ عليه الصلاةُ والسلامُ.
{فاعمل} أي على دينكَ وقيلَ في إبطال أمرنا {إِنَّنَا عاملون} أي على دينِنا، وقيل في إبطال أمرِك والأولُ هو الأظهرُ فإن قولَه تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ} تلقينٌ للجوابِ عنه أي لستُ منْ جنس مغايرٍ لكم حتى يكونَ بيني وبينكم حجابٌ وتباينٌ مصححٌ لتباين الأعمالِ والأديان، كما ينبىءُ عنه قولُكم.
{فاعملْ إننَا عاملونَ} بلْ إنما أنا بشرٌ مثلُكم مأمورٌ بما أُمرتم به حيثُ أُخبرْنا جميعًا بالتوحيدِ بخطابِ جامعٍ بيني وبينكم فإن الخطابَ في إلهُكم محكيٌ منتظمٌ لكلِّ لا أنه خطابٌ منه عليه الصلاةُ والسلامُ للكفرةِ كما في مثلُكم، وقيلَ المعنى لستُ مَلَكًا ولا جِنيًا لا يمكنكم التلقّي منه ولا أدعوكم إلى ما تنبُو عته العقولُ والأسماعُ وإنما أدعوكُم إلى التوحيدِ والاستقامةِ في العملِ، وقد تدلُّ عليهما دلائلُ العقلِ وشواهدُ النقلِ. وقيلَ المَعْنى إني لستُ بملَكٍ وإنما أنا بشرٌ مثلُكم وقد أُوحي إليّ دونَكُم فصحَّتْ بالوحي إليَّ وأنا بشرٌ نبوتِي وإذا صحَّت نبوتِي وجبَ عليكم اتباعِي، فتأمل. والفاءُ في قولِه تعالى: {فاستقيموا إِلَيْهِ} لترتيبِ ما بعدَها على ما قبلَها من إيحاءِ الوحدانيةِ فإن ذلك موجبٌ لاستقامتِهم إليه تعالى بالتوحيدِ والإخلاصِ في الأعمالِ {واستغفروه} مما كنتم عليهِ من سُوءِ العقيدةِ والعملِ.
وقوله تعالى: {وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ} ترهيبٌ وتنفيرٌ لهم عن الشركِ إثَر ترغيبِهم في التوحيدِ.
وصفَهُم بقولِه تعالى: {الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة} لزيادة التحذيرِ والتخويفِ عن منع الزكاةِ حيثُ جُعلَ من أوصافِ المشركينَ وقُرنَ بالكفر بالآخرة، حيث قيل {وَهُم بالأخرة كافرون} وهو عطفٌ على لا يُؤتون داخلٌ في حيزِ الصلةِ، واختلافُهما بالفعلية والاسميةِ لما أنَّ عدمَ إيتائِها متجددٌ والكفرُ أمرٌ مستمرٌ. ونُقلَ عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنه فسرَ لا يُؤتون الزكاةَ بقوله لا يقولون لا إلَه إلا الله فإنها زكاةُ الأنفسِ، والمعنى لا يطهرون أنفسَهُم من الشرك بالتوحيد، وهو مأخوذٌ من قولِه تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} وقال الضحاكُ ومقاتلٌ لا ينفقون في الطاعات ولا يتصدقُون وقال مجاهدٌ لا يزكون أعمالَهُم.
{إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي لا يُمنُّ به عليهم من المَنِّ وأصله الثقلُ أو لا يُقطع من مننتُ الحبلَ قطعتُه. وقيل نزلتْ في المَرضى والهَرمى إذا عجزُوا عن الطاعة كُتب لهم الأجرُ كأصحِّ ما كانوا يعملونه.
{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ} إنكارٌ وتشنيعٌ لكفرهم وإنَّ واللامُ إما لتأكيد الإنكارِ وتقديمُ الهمزةِ لاقتضائها الصدارةَ لا لإنكارِ التأكيدِ وإما للإشعارِ بأن كفرَهُم من البعد بحيثُ ينكرُ العقلاءُ وقوعَهُ فيحتاجُ إلى التأكيد وإنما علق كفرُهم بالموصول حيثُ قيل: {بالذى خَلَقَ الأرض في يَوْمَيْنِ} لتفخيم شأنِه تعالى واستعظامِ كفرِهم به أي بالعظيمِ الشأنِ الذي قدَّرَ وجودَها أي حكَم بأنها ستوجدُ في مقدار يومينِ أو في نوبتينِ على أن ما يُوجدُ في كلِّ نوبةٍ يوجدُ بأسرعِ ما يكونُ وإلا فاليومُ الحقيقيُّ إنما يتحققُ بعدَ وجودِها وتسويةِ السمواتِ وإبداعِ نيرّاتِها وترتيبِ حركاتِها {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا} عطفٌ على تكفرُونَ داخلٌ في حكم الإنكارِ والتوبيخِ. وجمعُ الأندادِ باعتبار ما هو الواقعُ لا بأن يكونَ مدارُ الإنكارِ هو التعددُ أي وتجعلونَ له أندادًا والحالُ أنه لا يمكنُ أن يكونَ له ندٌّ واحدٌ {ذلك} إشارةٌ إلى الموصولِ باعتبار اتصافِه بما في حيز الصلةِ وما فيه من معنى البعدِ مع قرب العهدِ بالمشار إليه للإيذانِ ببُعدِ منزلتِه في العظمة وإفرادُ الكافِ لما مرَّ مِرارًا من أنَّ المرادَ ليس تعيينَ المخاطبينَ وهو مبتدأٌ خبرُهُ ما بعدَهُ أي ذلكَ العظيمُ الشأنِ الذي فعلَ ما ذُكرَ {رَبّ العالمين} أي خالقُ جميعِ الموجوداتِ ومربيها دونَ الأرضِ خاصَّة فكيف يتُصورُ أن يكونَ أخسُّ مخلوقاتِه نِدًا له وقولُه تعالَى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ} عطفٌ على خلقَ داخلٌ في حكم الصلةِ والجعلُ إبداعيٌّ وحديثُ لزومِ الفصلِ بينهما بجملتينِ خارجتينِ عن حيزِ الصلةِ مدفوعٌ بأن الأُولى متحدةٌ بقوله تعالى: {تكفرونَ} فهو بمنزلةِ الإعادةِ له، والثانيةُ اعتراضيةٌ مقررةٌ لمضمون الكلامِ بمنزلة التأكيدِ فالفصلُ بهما كلاَ فصلٍ على أن فيه فائدةَ التنبيِه على أن مجردَ المعطوفِ عليه كافٍ في تحقق ربوبيتِه للعالمينَ واستحالةِ أنْ يجعلَ له ندٌّ فكيفَ إذا انضمَّ إليه المعطوفاتُ وقيلَ هو عطفٌ على مقدرٍ أي خلقَها وجعلَ إلخ وقيلَ هو كلامٌ متسأنفٌ وأيًَّا ما كان فالمرادُ تقديرُ الجعلِ لا الجعلُ بالفعلِ.
وقوله تعالى: {مّن فَوْقِهَا} متعلقٌ بجعلَ أو بمضمر هو صفةٌ لرواسِي أي كائنةً من فوقها مرتفعةً عليها لتكونَ منافعُها معرضةً لأهلها ويظهرَ للنظّارِ ما فيَها من مراصدِ الاعتبارِ ومطارحِ الأفكارِ {وبارك فِيهَا} أي قدرَ أن يكثرَ خيرُها بأن يخلقَ أنواعَ الحيواناتِ التي من جُملتها الإنسانُ وأصنافُ النباتِ التي منها معايشُهم {وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها} أي حكَم بالفعلِ بأن يوجدَ فيما سيأتي لأهلها من الأنواع المختلفةِ أقواتُها المناسبةُ لها على مقدار معينٍ تقتضيه الحكمةُ. وقُرئ {وقَسَّم فيَها أقواتَها} {فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} متعلقٌ بحصول الأمورِ المذكورةِ، لا بتقديرها أي قدرَ حصولَها في يومينِ وإنما قيلَ في أربعة أيامٍ أي تتمةِ أربعةٍ تصريحًا بالفذلكةِ {سَوَاء} مصدرٌ مؤكدٌ لمضمرٍ، هو صفةٌ لأيامٍ أي استوتْ سواءً أيَّ استواءً كما ينبىءُ عنه القراءةُ بالجرِّ وقيلَ هو حالٌ من الضمير في أقواتها أو في فيَها. وقُرئ بالرفع أي هو سواءٌ {لّلسَّائِلِينَ} متعلقٌ بمحذوف تقديرُه هذا الحصرُ للسائلينَ عن مدةِ خلقِ الأرضِ وما فيها أو بقدَّرَ أي قدَّرَ فيها أقواتَها لأجل السائلينَ أي الطالبين لها المحتاجين إليها من المقتاتين.
وقوله تعالى: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء} شروعٌ في بيان كيفيةِ التكوينِ إثرَ كيفيةِ التقديرِ، ولعلَّ تخصيصَ البيانِ بما يتعلقُ بالأرض وأهلِها لما أن بيان اعتنائِه تعالى بأمر المخاطبين وترتيبِ مبادِي معايشِهم قبلَ خلقِهم مما يحملُهم على الإيمان ويزجُرهم عن الكفر والطغيانِ أي ثم قصدَ نحوهَا قصدًا سويًا لا يلوِي على غيرِه {وَهِىَ دُخَانٌ} أي أمرٌ ظلمانيٌّ عبرَ به عن مادتها أو عن الأجزاء المتصغرةِ التي ركبتْ هي منها أو دخانٌ مرتفعٌ من الماءِ كما سيأتي وإنما خصَّ الاستواءَ بالسماءِ مع أن الخطابَ المترتبَ عليه متوجهٌ إليهما معًا حسبما ينطقُ به قولُه تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ} اكتفاءً بذكر تقديرِ ما فيها كأنه قيل فقال لها وللأرض التي قدرَ وجودَ ما فيها: {ائتيا} أي كُونا واحدُثا على وجه معينٍ وفي وقت مقدرٍ لكل منكُما وهو عبارةٌ عن تعلق إرادتِه تعالى بوجودهما تعلقًا فعليًا بطريق التمثيلِ بعد تقديرِ أمرِهما من غير أن يكونَ هناك أمرٌ ومأمورٌ كما في قوله تعالى: {كُنْ} وقولُه تعالى: {طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} تمثيلٌ لتحتم تأثيرِ قدرتِه تعالى فيهما واستحالةِ امتناعِهما من ذلكَ لا إثباتُ الطوعِ والكرهِ لهما وهما مصدرانِ وقعا موقعَ الحالِ، أي طائعتينِ أو كارهتينِ.
وقوله تعالى: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} أي منقادينِ تمثيلٌ لكمال تأثرهما بالذات عن القدرة الربانيةِ وحصولِهما كما أُمرتا بهِ وتصويرٌ لكونِ وجودِهما كما هما عليه جاريًا على مُقتضى الحكمةِ البالغةِ، فإن الطوعَ منبىءٌ عن ذلكَ والكُرهَ موهمٌ لخلافهِ وإنما قيلَ طائعينَ باعتبارِ كونِهما في معرض الخطابِ والجوابِ كقوله تعالى: {ساجدين} وقولُه تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سموات} تفسيرٌ وتفصيلٌ لتكوين السماءِ المجملِ المعبرِ عنه بالأمر وجوابِه لا أنه فعلٌ مترتبٌ على تكوينها أي خلقهنَّ خلقًا إبداعيًا وأتقنَ أمرَهنَّ حسبما تقتضيهِ الحمكةُ. والضميرُ: إما للسماء على المَعْنى أو مبهمٌ وسبعَ سمواتٍ حالٌ على الأول تمييزٌ على الثانِي {فِى يَوْمَيْنِ} في وقتٍ مقدرٍ بيومينِ وقد بينَ مقدارُ زمانِ خلقِ الأرضِ وخلقِ ما فيها عند بيانِ تقديرهما فكانَ خلقُ الكلِّ في ستة أيامٍ حسبما نصَّ عليهِ في مواقعَ من التنزيلِ.
{وأوحى في كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا} عطفٌ على قضاهُنَّ أي خلقَ في كلِّ منها ما فيها من الملائكة والنيّراتِ وغيرِ ذلك مما لا يعلمُه إلا الله تعالى كما قاله قَتَادةُ والسدِّيُ فالوحي عبارةٌ عن التكوينِ كالأمر مقيدٌ بما قُيد به المعطوفُ عليه من الوقت أو أوحى إلى أهل كلَ منَها أَو أمرَهُ وكلَّفهم ما يليقُ بهم من التكاليف فهو بمعناهُ ومطلقٌ عن القيد المذكورِ، وأيًا ما كان فعلى ما قُررَ من التفصيل لا دِلالةَ في الآية الكريمةِ على الترتيب بين إيجادِ الأرضِ وإيجادِ السماءِ وإنما الترتيبُ بين التقديرِ والإيجادِ.
وإما على تقديرِ كونِ الخلقِ وما عُطفَ عليهِ من الأفعالِ الثلاثةِ على معانيها الظاهرة فهيَ وما في سورةِ البقرةِ من قوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا في الأرض جَمِيعًا ثُمَّ استوى إِلَى السماء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سموات} تدلانِ على تقدم خلقِ الأرضِ وما فيها على خلق السماءِ وما فيها، وعليه إطباقُ أكثرِ أهلِ التفسيرِ وقد رُريَ أن العرشَ العظيمَ كان قبلَ خلقِ السمواتِ والأرضِ على الماء ثم إنه تعالى أحدثَ في الماء اضطرابًا فأزبدَ فارتفعَ منه دخانٌ فأما الزبدُ فبقيَ على وجه الماءِ فخلقَ فيه اليُبوسةَ فجعلَه أرضًا واحدةً ثم فتقَها فجعلَها أرَضينَ، وأما الدخانُ فارتفعَ وعلا فخلقَ منه السمواتِ. ورُويَ أنه تعالَى خلقَ جِرْمَ الأرضِ يومَ الأحدِ ويومَ الاثنينِ ودحاهَا وخلقَ ما فيها يومَ الثلاثاءِ ويومَ الأربعاءِ وخلق السمواتِ وما فيهن يومَ الخميسِ ويومَ الجمعةِ وخلق آدمَ عليه السلامُ في آخرِ ساعةٍ منه وهي الساعةُ التي تقومُ فيها القيامةُ وقيل إن خلقَ جرمِ الأرضِ مقدمٌ على خلقِ السمواتِ لكنْ دحوُها وخلقُ ما فيها مؤخرٌ عنه لقولِه تعالى: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها} ولما رُويَ عن الحسنِ رحمه الله من أنه تعالى خلقَ الأرضَ في موضعِ بيتِ المقدسِ كهيئة الفِهْرِ عليه دخانٌ ملتزقٌ بهَا ثم أصعدَ الدخانَ وخلقَ منه السمواتِ وأمسك الفهِرَ في موضَعها وبسطَ منها الأرضَ وذلك قولُه تعالى: {كَانَتَا رَتْقًا ففتقناهما} الآيةَ وليسَ المرادُ بنظمها مع السماءِ في سلكِ الآمرِ بالإتيانِ إنشاءَها وإحداثَها بل إنشاءَ دحوِها وجعْلِها على وجهٍ خاصَ يليقُ بها من شكلٍ معينٍ ووصفٍ مخصوصٍ كأنه قيلَ ائتيَا على ما ينبغي أنْ تأتيَا عليه ائتِي يا أرضُ مدحوّةً قرارًا ومِهادًا لأهلكِ وائتِي يا سماءُ مُقبّبةً سقفًا لهم. ومعنى الإتيانِ الحصولُ على ذلك الوجهِ كما تبىءُ عنه قراءةُ آتِيا وآتينَا منَ المُواتاةِ وهي الموافقةُ. وأنتَ خبيرٌ بأنَّ المذكورَ قبلَ الأمرِ بالإتيان ليسَ مجردَ خلقِ جِرْمِ الأرضِ حتى يتأتَّى ما ذكرَ بل خلقِ ما فيَها أيضًا من الأمور المتأخرةِ عن دحوِها قطعًا، فالأظهرُ أن يُسلكَ مسلكَ الأولينَ ويُحملَ الأمرُ بالإتيانِ على تكوينهِما متوافقتينِ على الوجهِ المذكورِ وليسَ من ضرورتِه أن يكونَ دحوُهَا مترتبًا على ذلك التكوينِ وإنما اللازمُ ترتبُ حصولِ التوافقِ عليه، ولا ريبَ في أن تكوينَ السماءِ على الوجه اللائقِ بها كافٍ في حصولِه، ولا يقدحُ في ذلكَ تكوينُ الأرضِ على الوجه المذكورِ قبل ذلك وأن يُجعلَ الأرضُ في قولِه تعالى: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها} منصوبًا بمضمرٍ قد حُذفَ على شرطية التفسيرِ ويجعلَ ذلكَ إشارةً إلى ذكِر ما ذُكرَ من بناءِ السماءِ ورفعِ سَمِكها وتسويتِها وغيرَها لا إلى أنفسِها وتحملَ البعديةُ إما على أنه قاصرٌ عن الأولِ في الدلالةِ على القدرة القاهرةِ كما قيلَ وإمَّا على أنه أدخلُ في الإلزامِ لما أنَّ المنافعَ المنوطةَ بما في الأرض أكثرُ وتعلقَ مصالحِ الناسِ بذلكَ أظهرُ وإحاطتَهُم بتفاصيلِها أكملُ وليسَ ما رُويَ عنِ الحسنِ رضي الله عنه نصًا في تأخر دحوِ الأرضِ عن خلق السماءِ فإن بسطَ الأرضِ معطوفٌ على إصعاد الدخانِ وخلقِ السماءِ بالواوِ فلا دلالةَ في ذلكَ على الترتيب قطعًا وقد نقلَ الإمامُ الواحديُّ عن مقاتلٍ أن خلقَ السماءِ مقدمٌ على إيجادِ الأرضِ فضلًا عن دَحْوهِا فلابد من حمل الأمرِ بإتيانهِما حينئذٍ أيضًا على ما ذكرَ من التوافقِ والمواتاةِ ولا يقدحُ في ذلكَ تقدمُ خلقِ السماء على خلقِ الأرضِ كما لم يقدحْ فيهِ تقدمُ خلقِ الأرضِ على خلقِ السماءِ، هذا كلُّه على تقدير كونِ كلمةِ ثمَّ للتراخِيِّ الزمانيِّ وأما عَلى تقديرِ كونِها للتراخِي الرتبِي كما جنحَ إليهِ الأكثرونَ فلا دَلالةَ في الآيةِ الكريمةِ على الترتيب كما في الوجهِ الأولِ وعلى ذلك بُنيَ الكلامُ في تفسيرِ قولِه تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا في الأرض جَمِيعًا} الآيةَ وإنما لم يُحملْ الخلقُ هناكَ على معنى التقديرِ كما حُملَ عليه ههانا لتوفيةِ مقامِ الامتنانِ حقَّهُ.
{وَزَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح} من الكواكب فإنها كلَّها تُرى متلألئةً عليها كأنَّها فيها والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ لإبرازِ مزيدِ العنايةِ بالأمرِ.
وقوله تعالى: {وَحِفْظًا} مصدرٌ مؤكدٌ لفعلٍ معطوفٍ على زيَّنا أيْ وحفظناهَا من الآفاتِ أو من المُسترِقة حِفظًا وقيل مفعولٌ لهُ على المَعنْى كأنَّه قيلَ وخلقنَا المصابيحَ زينةً وحِفْظًا {ذلك} الذي ذُكِرَ بتفاصيلِه {تَقْدِيرُ العزيز العليم} المبالغ في القدرةِ والعلم. اهـ.

.فوائد لغوية إعرابية:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
بصيرة في طوع:
الطَّوْع: الانقياد، وضِدّ الكَره؛ قال تعالى: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} والطاعة مثله.
لكن أَكثر ما يقال في الائتمار فيما أُمر.
وقوله تعالى: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ}، أي أَطيعوا، أي لِيَكُنْ منكم طاعة معروفة بلا إِثم.
وهولى طائع، وطَيِّعٌ، وطاعٍ، وطاعٌ، والجمع: طُوَّعٌ.
وهو يَطُوع لى وطاوعته على كذا، وأَطاع الله طاعة.
وهو مُطيع، ومِطْواع، ومِطواعة، قال:
إِذا سُدْتَه سُدْت مِطواعةً ** ومهما وكَلْتَ إِليه كفاه

وهو من ناسٍ مَطاويع.
وهو متطوِّع بكذا: مبترّع متنفّل.
وهو من المُطَّوِّعة، أي من الذين يتطوَّعون بالجهاد.
وقال تعالى في صفة النبىّ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} إِلى قوله: {مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ}.
والمتطوِّع من يتكلّف الطاعة.، وكلّ متنفّل خير تبرّعا متطوّع.
قال تعالى: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ}.
وقرأَ الكوفيّون غير عاصم: {فَمَنْ يَطَّوَّعْ}.
أَى يَتَطوَّع.
وقوله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ} أي تابَعته، وقيل: سَهّلت له نفسُه وطاوعته.
وقال مجاهد: أي شجّعته وأَعانته، وأَجابته إِليه.
وقال الأَخفش: هو مثل طوّقت له، ومعناه: رخَّصت وسهّلت.
والاستطاعة: والإِطاقة، وربما قالوا: استطاع يَسْطِيع، يحذفون التاءَ استثقالًا لها مع الطاءِ، ويكرهون إِدغام التاءِ فيها فتُحرَّكَ السّين وهى لا تحرّك أَبدا.
وقرأَ حمزة غير خلاَّد {فَمَا اسْطَاعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ} بالإِدغام، فجمع بين السّاكنين.
وذكر الأَخفش أَن بعض العرب يقول: اسْتَاع يَسْتيع فيحذف الطاء استثقالا وهون يريد استطاع يستطيع، قال: وبعض يقولون: أَسْطاع يُسْطيع بقطع الهمزة وهو يريد أَطاع يُطيع، ويجعل السّين عِوضًا عن ذهاب حركة العين، أي عين الفعل.
ويقال: تطاوَعَ لهذا الأَمر: تكلّف استطاعته حتى يستطيعه.
وهو ضد معنى قول عمرو بن معد يكرب رضى الله عنه:
إِذا لم تستطع أَمرًا فَدَعْهُ ** وجاوِزْه إِلى ما تستطيع

وقوله تعالى: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ}، أي هل يقدر.
وقرأَ الكسائىّ: {هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ} بالتَّاءِ ونصب الباءِ، أي هل تستدعى إِجابته في أَن يُنزل علينا مائدة من السّماءِ، أَو هل تستطيع سؤال ربّك، وهو استفعال من قولك: طاع لى يطوع.
وأَصل الاستطاعة الاستطواع.
فلمَّا أُسقطت الواو جُعلت الهاءُ بدلًا منها.
والمُطَّوِّعَة: الذين يتطوَّعون بالجهاد، قال تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ}، أي المتطوّعين فأَدغم.
والاستطاعة عند المحققين، اسم للمعانى التي بها يتمكّن الإِنسان ممّا يريده من إِحداث الفعل.
وهى أَربعة أَشياء: بِنْية مخصوصة للفاعل، وتصوّر للفعل، ومادّة قابلة للتأثير وآلة: إِن كان الفعل آليًّا؛ كالكتابة، فإِنَّ الكاتب يحتاج إِلى هذه الأَربعة في إِيجاده للكتابة، ولذلك يقال: فلان غير مستطيع للكتابة إِذا فَقَد واحدا من هذه الأَربعة فصاعدًا.
ويضادّه العجز، وهو أَلاّ يجد أَحَدَ هذه الأَربعة فصاعدًا.
ومتى وجدها فمستطيع مطلقًا، ومتى فقدها فعاجز مطلقًا.
ومتى وجد بعضه دون بعض فمستطيع من وجه عاجز من وجه آخر، ولأَن يوصف بالعجز أَولى.
والاستطاعة أَخصّ من القدرة.
وقوله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} فإِنه يحتاج إِلى هذه الأَربعة.
وقوله صلَّى الله عليه وسلم: «الاستطاعة الزَّاد والراحلة» فإِنه بيان لما يُحتاج إِليه من الآلة، وخصّه بالذِّكر دون الأُخر إِذ كان معلومًا من حيث العقل ومقتضى الشرع أَن التكليف من دون تلك الأُخر لا يصحّ.
قوله: {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ}، الإِشارة بالاستطاعة هاهنا إِلى عدم الآلة من المال والظَّهْر.
وقد يقال: فلان لا يستطيع كذا لما يصعب عليه فعله لعدم الرّياضة، وذلك يرجع إِلى افتقاد الآلة وعدم التصّور، وقد يصحّ معه التَّكليف ولا يصير به الإِنسان معذورًا.
وعلى هذا الوجه قال: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}، وقد حمل على هذه قوله: {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاءِ}.
وقوله: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ} قيل: إِنَّهم قالوا ذاك قبل أَن قويت معرفتهم بالله.
وقيل: إِنَّهم لم يقصدوا قَصْد القدرة، وإِنما قصدوا أَنه: هل تقتضى الحكمة أَن يَفعل ذلك.
وقيل: يستطيع ويُطِيع بمعنى واحد، ومعناه: هل يجيب، كقوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} أي يُجاب. اهـ.