فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)} اعلم أن الكلام إنما ابتدىء من قوله: {أَنَّمَا إلهكم إله واحد} [فصلت: 6] واحتج عليه بقوله: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذى خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9] وحاصله أن الإله الموصوف بهذه القدرة القاهرة كيف يجوز الكفر به، وكيف يجوز جعل هذه الأجسام الخسيسة شركاء له في الإلهية؟ ولما تمم تلك الحجة قال: {فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صاعقة مّثْلَ صاعقة عَادٍ وَثَمُودَ} وبيان ذلك لأن وظيفة الحجة قد تمت على أكمل الوجوه، فإن بقوا مصرين على الجهل لم يبق حينئذٍ علاج في حقهم إلا إنزال لعذاب عليهم فلهذا السبب قال: {فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ} بمعنى أن أعرضوا عن قبول هذه الحجة القاهرة التي ذكرناها وأصروا على الجهل والتقليد {فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ} والإنذار هو: التخويف، قال المبرد والصاعقة الثائرة المهلكة لأي شيء كان، وقرئ {صاعقة مّثْلَ صاعقة عَادٍ وَثَمُودَ} قال صاحب الكشاف وهي المرة من الصعق.
ثم قال: {إِذْ جَاءتْهُمُ الرسل مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} وفيه وجهان الأول: المعنى أن الرسل المبعوثين إليهم أتوهم من كل جانب واجتهدوا بهم وأتوا بجميع وجوه الحيل فلم يروا منهم إلا العتو والإعراض، كما جكى الله تعالى عن الشيطان قوله: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [الأعراف: 17] يعني لآتينهم من كل جهة ولأعملن فيهم كل حيلة، ويقول الرجل: استدرت بفلان من كل جانب فلم تؤثر حيلتي فيه.
السؤال الثاني: المعنى: أن الرسل جاءتهم من قبلهم ومن بعدهم، فإن قيل: الرسل الذين جاؤا من قبلهم ومن بعدهم، كيف يمكن وصفهم بأنهم جاؤهم؟ قلنا: قد جاءهم هود وصالح داعيين إلى الإيمان بهما وبجميع الرسل، وبهذا التقدير فكأن جميع الرسل قد جاؤهم.
ثم قال: {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} يعني أن الرسل الذي جاؤهم من بين أيديهم ومن خلفهم أمروهم بالتوحيد ونفي الشرك، قال صاحب الكشاف أن في قوله: {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} بمعنى أي أو مخففة من الثقيلة أصله بأنه لا تعبدوا أي بأن الشأن والحديث قولنا لكم لا تعبدوا إلا الله.
ثم حكى الله تعالى عن أولئك الكفار أنهم قالوا {لَوْ شَاء رَبُّنَا لأَنزَلَ ملائكة} يعني أنهم كذبوا أولئك الرسل، وقالوا الدليل على كونكم كاذبين أنه تعالى لو شاء إرسال الرسالة إلى البشر لجعل رسله من زمرة الملائكة، لأن إرسال الملائكة إلى الخلق أفضى إلى المقصود من البعثة والرسالة، ولما ذكروا هذه الشبهة قالوا {فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون} معناه: فإذًا أنتم بشر ولستم بملائكة، فأنتم لستم برسل، وإذا لم تكونوا من الرسل لم يلزمنا قبول قولكم، وهو المراد من قوله: {فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون}.
واعلم أنا بالغنا في الجواب عن هذه الشبهات في سورة الأنعام، وقوله: {أُرْسِلْتُمْ بِهِ} ليس بإقرار منهم بكون أولئك الأنبياء رسلًا، وإنما ذكروه حكاية لكلام الرسل أو على سبيل الاستهزاء، كما قال فرعون {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27].
روي أن أبا جهل قال في ملأ من قريش: التبس علينا أمر محمد، فلو التمستم لنا رجلًا عالمًا بالشعر والسحر والكهانة فكلمه، ثم أتانا ببيان عن أمره، فقال عتبة بن ربيعة والله لقد سمعت الشعر والسحر والكهانة وعلمت من ذلك علمًا وما يخفى علي، فأتاه فقال: يا محمد أنت خير أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد الله؟ لم تشتم آلهتنا وتضللنا؟ فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك للواء فكنت رئيسنا، وإن تكن بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختارهن، أي بنات من شئت من قريش، وإن كان المال مرادك جمعنا لك ما تستغني به، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت، فلما فزع قال: بسم الله الرحمن الرحيم {حم تنزيل من الرحمن الرحيم} إلى قوله: {صاعقة مّثْلَ صاعقة عَادٍ وَثَمُودَ} فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش، فلم احتبس عنهم قالوا، لا نرى عتبة إلا قد صبأ، فانطلقوا إليه وقالوا يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت: فغضب وأقسم لا يكلم محمدًا أبدًا، ثم قال: والله لقد كلمته فأجابني بشيء ما هو شعر ولا سحر ولا كهانة، ولما بلغ صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود أمسكت بفيه وناشدته بالرحم، ولقد علمت أن محمدًا إذا قال شيئًا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب.
واعلم أنه تعالى لما بيّن كفر قوم عاد وثمود على الإجمال بيّن خاصية كل واحدة من هاتين الطائفتين فقال: {فَأَمَّا عَادٌ فاستكبروا فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} وهذالاستكبار فيه وجهان الأول: إظهارالنخوة والكبر، وعدم الالتفات إلى الغير والثاني: الاستعلاء على الغير واستخدامهم، ثم ذكر تعالى سبب ذلك الاستكبار وهو أنهم قالو {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} وكانوا مخصوصين بكبر الأجسام وشدة القوة، ثم إنه تعالى ذكر ما يدل على أنه لا يجوز لهم أن يغتروا بشدة قوتهم، فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} يعني أنهم وإن كانوا أقوى من غيرهم، فالله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة، فإن كانت الزيادة في القوة توجب كون الناقص في طاعة الكامل، فهذه المعاملة توجب عليهم كونهم منقادين لله تعالى، خاضعين لأوامره ونواهيه.
واحتج أصحابنا بهذه الآية على إثبات القدرة لله، فقالوا القوة لله تعالى ويتأكد هذا بقوله: {الله الذي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} يدل على إثبات القوة لله تعالى ويتأكد هذا بقوله: {إِنَّ الله هُوَ الرزاق ذُو القوة المتين} [الذاريات: 58] فإن قيل صيغة أفعل التفضيل إنما تجري بين شيئين لأحدهما مع الآخر نسبة، لكن قدرة العبد متناهية وقدرة الله لا نهاية لها، والمتناهي لا نسبة له إلى غير المتناهي، فما معنى قوله إن الله أشد منهم قوة؟ قلنا هذا ورد على قانون قولنا الله أكبر.
ثم قال: {وَكَانُواْ بآياتنا يَجْحَدُونَ} والمعنى أنهم كانوا يعرفون أنها حق ولكنهم جحدوا كما يجحد المودع الوديعة.
واعلم أن نظم الكلام أن يقال: أما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وكانوا بآياتنا يجحدون، وقوله: {وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} واعتراض وقع في البين لتقرير السبب الداعي لهم إلى الاستكبار.
واعلم أنا ذكرنا أن مجامع الخصال الحميدة الإحسان إلى الخلق والتعظيم للخالق، فقوله: {استكبروا فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} مضاد للإحسان إلى الخلق وقوله: {وَكَانُواْ بآياتنا يَجْحَدُونَ} مضاد للتعظيم للخالق، وإذا كان الأمر كذلك فهم قد بلغوا في الصفات المذمومة الموجبة للهلاك والإبطال إلى الغاية القصوى، فلهذا المعنى سلّط الله العذاب عليهم فقال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} وفي الصرصر قولان أحدهما: أنها العاصفة التي تصرصر أن تصوت في هبوبها، وفي علة هذه التسمية وجوه قيل إن الرياح عند اشتداد هبوبها يسمع منها صوت يشبه صوت الصرصر فسميت هذه الرياح بهذا الاسم وقيل هو من صرير الباب، وقيل من الصرة والصيحة، ومنه قوله تعالى: {فَأَقْبَلَتِ امرأته في صَرَّةٍ} [الذاريات: 29] والقول الثاني: أنها الباردة التي تحرق ببردها كما تحرق النار بحرها، وأصلها من الصر وهو البرد قال تعالى: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} [آل عمران: 117] وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الرياح ثمان أربع منها عذاب العاصف والصرصر والعقيم والسموم، وأربع منها رحمة الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات» وعن ابن عباس أن الله تعالى ما أرسل على عباده من الريح إلا قدر خاتمي، والمقصود أنه مع قلته أهلك الكل وذلك يدل على كمال قدرته.
وأما قوله: {فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو {نَّحِسَاتٍ} بسكون الحاء والباقون بكسر الحاء، قال صاحب الكشاف يقال نحس نحسًا نقيض سعد سعدًا فهو نحس، وأما نحس فهو إما مخفف نحس أو صفة على فعل أو وصف بمصدر.
المسألة الثانية:
استدل الأحكاميون من المنجمين بهذه الآية على أن بعض الأيام قد يكون نحسًا وبعضها قد يكون سعدًا، وقالوا هذه الآية صريحة في هذا المعنى، أجاب المتكلمون بأن قالوا {أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} أي ذوات غبار وتراب ثائر لا يكاد يبصر فيه ويتصرف، وأيضًا قالوا معنى كون هذه الأيام نحسات أن الله أهلكهم فيها، أجاب المستدل الأول بأن النحسات في وضع اللغة هي المشؤمات لأن السعد يقابله السعد، والكدر يقابله الصافي، وأجاب عن السؤال الثاني أن الله تعالى أخبر عن إيقاع ذلك العذاب في تلك الأيام النحسات، فوجب أن يكون كون تلك الأيام نحسة مغايرًا لذلك العذاب الذي وقع فيها.
ثم قال تعالى: {ولنذيقهم عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا} أي عذاب الهوان والذل، والسبب فيه أنهم استكبروا، فقابل الله ذلك الاستكبار بإيصال الخزي والهوان والذل إليهم.
ثم قال تعالى: {وَلَعَذَابُ الآخرة أخزى} أي أشد إهانة وخزيًا {وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ} أي أنهم يقعون في الخزي الشديد ومع ذلك فلا يكون لهم ناصر يدفع ذلك الخزي عنهم.
ولما ذكر الله قصة عاد أتبعه بقصة ثمود فقال: {وَأَمَّا ثَمُودُ} قال صاحب الكشاف قرئ {ثَمُودُ} بالرفع والنصب منونًا وغير منون والرفع أفصح لوقوعه بعد حرف الابتداء وقرئ بضم الثاء وقوله: {فهديناهم} أي دللناهم على طريق الخير والشر {فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} أي اختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد.
واعلم أن صاحب الكشاف ذكر في تفسير الهدى في قوله تعالى: {هُدىً لّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] أن الهدى عبارة عن الدلالة الموصلة إلى البغية، وهذه الآية تبطل قوله، لأنها تدل على أن الهدى قد حصل مع أن الإفضاء إلى البغية لم يحصل، فثبت أن قيد كونه مفضيًا إلى البغية غير معتبر في اسم الهدى.
وقد ثبت في هذه الآية سؤال يشعر بذلك إلا أنه لم يذكر جوابًا شافيًا فتركناه، قالت المعتزلة هذه الآية دالة على أن الله تعالى قد ينصب الدلائل ويزيح الأعذار والعلل، إلا أن الإيمان إنما يحصل من العبد لأن قوله: {وَأَمَّا ثَمُودُ فهديناهم} يدل على أنه تعالى قد نصب لهم الدلائل وقوله: {فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} يدل على أنهم من عند أنفسهم أتوا بذلك العمى فهذا يدل على أن الكفر والإيمان يحصلان من العبد، وأقول بل هذه الآية من أدل الدلائل، على أنهما إنما يحصلان من الله لا من العبد، وبيانه من وجهين: الأول: أنهم إنما صدر عنهم ذلك العمى، لأنهم أحبوا تحصيله، فلما وقع في قلبهم هذه المحبة دون محبة ضده، فإن حصل ذلك الترجيح لا لمرجح فهو باطل، وإن كان المرجح هو العبد عاد الطلب، وإن كان المرجح هو الله فقد حصل المطلوب الثاني: أنه تعالى قال: {فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} ومن المعلوم بالضرورة أن أحدًا لا يحب العمى والجهل مع العلم بكونه عمى وجهلًا، بل ما لم يظن في ذلك العمى والجهل كونه تبصرة وعلمًا لا يرغب فيه، فإقدامه على اختيار ذلك الجهل لابد وأن يكون مسبوقًا بجهل آخر، فإن كان ذلك الجهل الثاني باختياره أيضًا لزم التسلسل وهو محال، فلابد من انتهاء تلك الجهالات إلى جهل يحصل فيه لا باختياره وهو المطلوب، ولما وصف الله كفرهم قال: {فَأَخَذَتْهُمْ صاعقة العذاب الهون} و{صاعقة العذاب} أي داهية العذاب و{الهون} الهوان، وصف به العذاب مبالغة أو أبدل منه {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} يريد من شركهم وتكذيبهم صالحًا وعقرهم الناقة، وشرع صاحب الكشاف هاهنا في سفاهة عظيمة.
والأولى أن لا يلتفت إليه أنه وإن كان قد سعى سعيًا حسنًا فيما يتعلق بالألفاظ، إلا أن المسكين كان بعيدًا من المعاني.
ولما ذكر الله الوعيد أردفه بالوعد فقال: {وَنَجَّيْنَا الذين ءامَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ} يعني وكانوا يتقون الأعمال التي كان يأتي بها قوم عاد وثمود، فإن قيل: كيف يجوز للرسول صلى الله عليه وسلم أن ينذر قومه مثل صاعقة عاد وثمود، مع العلم بأن ذلك لا يقع في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد صرّح الله تعالى بذلك في قوله: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} [الأنفال: 33] وجاء في الأحاديث الصحيحة أن الله تعالى رفع عن هذه الأمة هذه الأنواع من الآفات قلنا إنهم لما عرفوا كونهم مشاركين لعاد وثمود في استحقاق مثل تلك الصاعقة جوزوا حدوث ما يكون من جنس ذلك، وإن كان أقل درجة مهم وهذا القدر يكفي في التخويف. اهـ.