فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أبصاركم وَلاَ جُلُودُكُمْ} حكاية لما سيقال لهم يومئذٍ من جهته تعالى بطريق التوبيخ والتقريع تقريرًا لجواب الجلود، واستظهر أبو حيان أنه من كلام الجوارح و{أَن يَشْهَدَ} مفعول له بتقدير مضاف أي ما كنتم تستترون في الدنيا عند مباشرتكم الفواحش مخافة أو كراهة أن تشهد عليكم جوارحكم بذلك أي ليس استتاركم للخوف مما ذكر أو لكراهته {ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مّمَّا تَعْمَلُونَ} أي ولكن لأجل ظنكم أن الله تعالى لا يعلم كثيرًا مما تعملون وهو ما عملتم خفية فلا يظهره سبحانه يوم القيامة وينطق الجوارح به فلذا سعيتم في الاستتار عن الخلق دون الخالق عز وجل أو هو بتقدير حرف جر متعلق بتستترون فقيل: هو الباء والمستتر عنه الجوارح، والمعنى ما استترتم عنها بملابسة أن تشهد عليكم أي تتحمل الشهادة إذ ما ظننتم أنها تشهد عليكم بل ظننتم أن الله سبحانه لا يعلم فلذا لم يكن استتاركم بهذا السبب، وقيل: هو عن والمعنى لم يمكنكم الاستتار عن الجوارح لئلا تتحمل الشهادة عليكم حين ترتكبون ما ترتكبون لكن ظننتم ما ظننتم.
وقيل: {أَن تَشْهَدَ} مفعول له والمستتر عنه الجوارح أي ما تستترون عن جوارحكم مخافة أن تشهد عليكم لكن ظننتم الخ، وقيل: إن {تَسْتَتِرُونَ} ضمن معنى الظن فعدى تعديته أي ما كنتم تستترون ظانين شهادة الجوارح عليكم، ويؤيده قول قتادة: أي ما كنتم تظنون أن تشهد عليكم الخ، والحق أن هذا بيان لحاصل المعنى.
أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وجماعة عن ابن مسعود قال: كنت مستترًا بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر قرشي وثقفيان أو ثقفي وقرشيان كثير لحم بطونهم قليل عفة قلوبهم فتكلموا بكلام لم أسمعه فقال أحدهم: أترون الله يسمع كلامنا هذا؟ فقال الآخر: إنا إذا رفعنا أصواتنا يسمعه وإذا لم نرفع لم يسمع فقال الآخر: إن سمع منه شيئًا سمعه كله قال: فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أبصاركم} إلى قوله: {سبحانه مّنَ الخاسرين} [فصلت: 23] فالحكم المحكي حينئذٍ يكون خاصًا بمن كان على ذلك الاعتقاد من الكفر لكنه قيل في الفكرة.
وفي الإرشاد لعل الأنسب أن يراد بالظن معنى مجازي يعم معناه الحقيقي وما يجري مجراه من الأعمال المنبئة عنه كما في قوله تعالى: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} [الهمزة: 3] ليعم ما حكى من الحال جميع أصناف الكفرة فتدبر.
وفي الآية تنبيه على أن المؤمن ينبغي أن لا يمر عليه حال إلا بملاحظة أن عليه رقيبًا كما قال أبو نواس:
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل ** خلوت ولكن قل على رقيب

ولا تحسبن الله يغفل ساعة ** ولا أن ما يخفى عليه يغيب

{وَذَلِكُمْ} إشارة إلى ظنهم المذكور في ضمن قوله سبحانه: {ظَنَنتُمْ} [فصلت: 22] وما فيه من معنى البعد للإيذان بغاية بعد منزلته في الشر والسوء، وهو مبتدأ وقوله تعالى: {ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ} بدل منه، وقوله سبحانه: {أردياكم} أي أهلككم خبره، وجوز أن يكون {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ} خبرًا و{أَرْدَاكُمْ} خبرًا بعد خبر.
ورده أبو حيان بأن {ذلكم} إشارة إلى ظنهم السابق فيصير التقدير وظنكم بربكم أنه لا يعلم ظنكم بربكم فما استفيد من الخبر هو ما استفيد من المبتدأ وهو لا يجوز كقولهم: سيد الجارية مالكها وقد منعه النحاة.
وأجيب بأنه لا يلزم ما ذكر لجواز جعل الإشارة إلى الأمر العظيم في القباحة فيختلف المفهوم باختلاف العنوان ويصح الحمل كما في هذا زيد، ولو سلم فالاتحاد مثله في قوله:
أنا أبو النجم وشعري شعري

مما يدل على الكمال في الحسن كما في هذا المثال أو في القبح كما في الجملة المذكورة، وقيل: المراد منه التعجب والتهكم، وقد يراد من الخبر غير فائدة الخبر ولازمها.
واختار بعضهم في الجواب ما أشار إليه ابن هشام في شرح بانت سعاد وبسط الكلام فيه من أن الفائدة كما تحصل من الخبر تحصل من صفته وقيده كالحال، وجوز في جملة {أَرْدَاكُمْ} أن تكون حالًا بتقدير قد أو بدونه، والموصول في جميع الأوجه صفة {ظَنُّكُمُ} وقيل: الثلاثة أخبار فلا تغفل {فَأَصْبَحْتُم} بسبب ذلك الظن السوء الذي أهلككم {مّنَ الخاسرين} إذ صار ما أعطوا من الجوارح لنيل السعادة في الدنيا والآخرة لأن بها تعيشهم في الدنيا وإدراكهم ما يهتدون به إلى اليقين ومعرفة رب العالمين الموصل للسعادة الأخروية سببًا للشقاء في الدارين حيث أداهم إلى كفران نعم الرازق والكفر بالخالق والانهماك في الغفلات وارتكاب المعاصي واتباع الشهوات.
{فَإِن يَصْبِرُواْ فالنار مَثْوًى لَّهُمْ} أي محل ثواء وإقامة أبدية لهم بحيث لا براح لهم منها، وترتيب الجزاء على الشرط لأن التقدير إن يصبروا والظن أن الصبر ينفعهم لأنه مفتاح الفرج لا ينفعهم صبرهم إذا لم يصادف محله فإن النار محلهم لا محالة، وقيل: في الكلام حذف والتقدير أو لا يصبروا كقوله تعالى: {اصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَاء عَلَيْكُمْ} [الطور: 16] وقيل: المراد فإن يصبروا على ترك دينك واتباع هواهم فالنار مثوى لهم وليس بذاك، والالتفات للإيذان باقتضاء حالهم أن يعرض عنهم ويحكي سوء حالهم للغير أو للإشعار بإبعادهم عن حيز الخطاب وإلقائهم في غيابة دركات النار {وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ} أي يسألوا العتبى وهي الرجوع إلى ما يحبونه جزعًا مما هم فيه {فَمَا هُم مّنَ المعتبين} أي المجابين إليها.
وقال الضحاك: المراد إن يعتذروا فما هم من المعذورين.
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وموسى الأسواري {وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ} مبنيًّا للمفعول {فَمَا هُم مّنَ المعتبين} اسم فاعل أي إن طلب منهم أن يرضوا ربهم فما هم فاعلون ولا يكون ذلك لأنهم قد فارقوا الدنيا دار الأعمال كما قال صلى الله عليه وسلم: «ليس بعد الموت مستعتب» ويحتمل أن تكون هذه القراءة بمعنى قوله عز وجل: {وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ}. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19)} لما فُرغ من موعظة المشركين بحال الأمم المكذبة من قبلهم وإنذارهم بعذاب يحلّ بهم في الدنيا كما حل بأولئك ليكون لهم ذلك عبرة فإن لاستحضار المثل والنظائر أثرًا في النفس تعتبر به ما لا تعتبر بتوصف المعاني العقلية، انتقل إلى إنذارهم بما سيحلّ بهم في الآخرة فجملة {ويَوْمَ نحشر أعداء الله} الآيات، معطوفة على جملة {فَقُلْ أنذَرتُكُم صاعقة} [فصلت: 13] الآيات.
والتقدير: وأنذرهم يوم نحشر أعداء الله إلى النار.
ودل على هذا المقدر قوله: {أنذَرتُكُم صاعقة}. إلخ، أي وأنذرهم يوم عقاب الآخرة.
وأعداء الله: هم مشركو قريش لأنهم أعداء رسوله قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} [الممتحنة: 1] يعني المشركين لقوله بعده: {يخرجون الرسول وإياكم} [الممتحنة: 1]، ولأنها نزلت في قضية كِتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يعلمهم بتهيّؤ النبي صلى الله عليه وسلم لغزو مكة ولقوله في آخر هذه الآيات {ذلك جَزَاءُ أعْدَاءِ الله} [فصلت: 28] بعد قوله: {وقال الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لهذا القُرءَاننِ والغَوا فِيهِ لَعَلَّكُم تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26].
ولا يجوز أن يكون المراد ب {أعْدَاءَ الله} جميع الكفار من الأمم بحيث يدخل المشركون من قريش دخول البعض في العموم لأن ذلك المحمل لا يكون له موقع رشيق في المقام لأن الغرض من ذكر ما أصاب عادًا وثمود هو تهديد مشركي مكة بحلول عذاب مثله في الدنيا لأنهم قد علموه ورأوا آثاره فللتهديد بمثله موقع لا يسعهم التغافل عنه، وأما عذاب عاد وثمود في الآخرة فهو موعود به في المستقبل وهم لا يؤمنون به فلا يناسب أن يجعل موعظة لقريش بل الأجدر أن يقع إنذار قريش رأسًا بعذاب يعذَّبونه في الآخرة، ولذلك أطيل وصفه لتهويله ما لم يُطل بمثله حينَ التعرض لِعذاب عاد في الآخرة بقوله: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أخزى} [فصلت: 16] المكتفى به عن ذكر عذاب ثمود.
ولهذا فليس في قوله: {أَعْدَاءَ الله} إظهار في مقام الإِضمار من ضمير عاد وثمود.
ويجوز أن يكون {ويَوْمَ نحشر أعْدَاءَ الله} مفعولًا لفعل واذكر محذوفًا مثل نظائره الكثيرة.
والحشر: جمع الناس في مكَان لمقصد.
ويتعلق قوله: {إلى النَّارِ} ب {نَحْشر} لتضمين {نحشر} معنى: نرسل، أي نرسلهم إلى النار.
والفاء في قوله: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} عطف وتفريع على {نحشر} لأن الحشر يقتضي الوزْع إذ هو من لوازمه عُرفًا، إذ الحشر يستلزم كثرة عدد المحشورين وكثرةُ العدد تستلزم الاختلاط وتداخل بعضهم في بعض فلا غنى لهم عن الوزع لتصفيفهم ورَدِّ بعضهم عن بعض.
والوزْع: كفّ بعضهم عن بعض ومنعهم من الفوضى، وتقدم في سورة النمل (17)، وهو كناية عن كثرة المحشورين.
وقرأ نافع ويعقوب {نَحشر} بنون العظمة مبنيًّا للفاعل ونصب {أَعْدَاءَ}.
وقرأه الباقون بياء الغائب مبنيًّا للنائب.
و{حتى} ابتدائية وهي مفيدة لمعنى الغاية فهي حرف انتهاء في المعنى وحرف ابتداء في اللفظ، أي أن ما بعدها جملة مستأنفة.
و{إذا} ظرف للمستقبل متضمن معنى الشرط وهو متعلق بجوابه، و{ما} زائدة للتوكيد بعد {إذَا} تفيد توكيد معنى {إذَا} من الارتباط بالفعل الذي بعد {إذا} سواء كانت شرطية كما في هذه الآية أم كانت لمجرد الظرفية كقوله تعالى: {وإذا ما غضبوا هم يغفرون} [الشورى: 37].
ويظهر أن ورود {مَا} بعد {إذا} يقوّي معنى الشرط في {إذا}، ولعلهُ يكون معنى الشرط حينئذٍ نصًا احتمالًا.
وضمير المؤنث الغائب في {جَاءُوهَا} عائد إلى {النَّارِ}، أي إذا وصلوا إلى جهنم.
وجملة {شَهِدَ عَلَيهِم سَمْعُهُم وأبصارهم} إلخ يقتضي كلام المفسرين أنها جواب {إذا}، فاقتضى الارتباط بين شرطها وجوابها وتعليقها بفعل الجواب.
واستشعروا أن الشهادة عليهم تكون قبل أن يوجهوا إلى النار، فقدَّروا فِعلًا محذوفًا تقديره: وسُئلوا عما كانوا يفعلون فأنكروا فشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم، يعني: سألهم خزنة النار.
وأحسنُ من ذلك أن نقول: إن جواب {إذا} محذوف للتهويل وحذف مثله كثير في القرآن، ويكون جملة {شَهِدَ عَلَيهِم سَمْعُهُم} إلى آخرها مستأنفة استئنافًا بيانيًا نشأ عن مفاد {حتى} من الغاية لأن السائل يتطلب ماذا حصل بين حشرهم إلى النار وبين حضورهم عند النار فأجيب بأنه {شَهِدَ عَلَيهِم سَمْعُهُم وأبصارهم وَجُلُودُهُم} إلى قوله: {الَّذِي أنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} ويتضمن ذلك أنهم حوسبوا على أعمالهم وأنكروها فشهدت عليهم جوارحهم وأجسادهم.
أو أن يكون جواب {إذا}.
قوله: {فَإِن يَصْبِرُوا فالنَّارُ مَثْوَىً لَهُم} [فصلت: 24] الخ.
وجملة {شَهِدَ عَلَيهِم سَمْعُهُم وأبصارهم} وما عطف عليها معترضة بين الشرط وجوابه.
وشهادة جوارحهم وجلودهم عليهم: شهادة تكذيب وافتضاح لأن كون ذلك شهادة يقتضي أنهم لما رأوا النار اعتذروا بإنكار بعض ذنوبهم طمعًا في تخفيف العذاب وإلا فقد علم الله ما كانوا يصنعون وشهدت به الحفظة وقرئ عليهم كتابُهم، وما أُحضروا للنار إلا وقد تحققت إدانتهم، فما كانت شهادة جوارحهم إلا زيادة خزي لهم وتحسيرًا وتنديمًا على سوء اعتقادهم في سعة علم الله.
وتخصيص السمع والأبصار والجلود بالشهادة على هؤلاء دون بقية الجوارح لأن للسمع اختصاصًا بتلقي دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وتلقي آيات القرآن، فسمعهم يشهد عليهم بأنهم كانوا يصرفونه عن سماع ذلك كما حكى الله عنهم بقوله: {وَفِي ءَاذَانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: 5]، ولأن للأبصار اختصاصًا بمشاهدة دلائل المصنوعات الدالة على انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير فذلك دليل وحدانيته في إلهيته، وشهادة الجلود لأن الجلد يحوي جميع الجسد لتكون شهادة الجلود عليهم شهادة على أنفسها فيظهر استحقاقها للحرق بالنار لبقية الأجساد دون اقتصار على حرق موضع السمع والبصر.
ولذلك اقتصروا في توجيه الملامة على جلودهم لأنها حاوية لجميع الحواس والجوارح، وبهذا يظهر وجه الاقتصار على شهادة السمع والأبصار والجلود هنا بخلاف آية سورة النور (24) {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون}، لأن آية النور تصف الذين يرمون المحصنات وهم الذين اختلقوا تهمة الإِفك ومشَوا في المجامع يُشيعونها بين الناس ويشيرون بأيديهم إلى من اتهموه إفكًا.
وإنما قالوا لجلودهم {لِمَ شَهِدتُمْ عَلَيْنَا} دون أن يقولوه لسمعهم وأبصارهم لأن الجلود مواجهة لهم يتوجهون إليها بالملامة.
وإجراء ضمائر السمع والبصر والجلود بصيغتي ضمير جمع العقلاء لأن التحاور معها صيرها بحالة العقلاء يومئذٍ.
ومن غريب التفسير قول من زعموا أن الجلود أريد بها الفروج ونسب هذا للسدي والفراء، وهو تعنت في محمل الآية لا داعي إليه بحال، وعلى هذا التفسير بنى أحمد الجرجاني في كتاب كنايات الأدباء فعدَّ الجلود من الكنايات عن الفُروج وعزاه لأهل التفسير فجازف في التعبير.
والاستفهام في قولهم: {لِمَ شَهِدتُمْ عَلَيْنَا} مستعمل في الملامة وهم يحسبون أن جلودهم لكونها جزءًا منهم لا يحق لها شهادتها عليهم لأنها تجر العذاب إليها.
واستعمال الاستفهام عن العلة في معرض التوبيخ كثير كقوله تعالى: {فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم} [آل عمران: 66].
وقول الجلود {أنطَقَنَا الله} اعتذار بأن الشهادة جرت منها بغير اختيار.
وهذا النطق من خوارق العادات كما هو شأن العالم الأخروي.
وقولهم: {الَّذِي أنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} تمجيد لله تعالى ولا علاقة له بالاعتذار، والمعنى: الذي أنطق كل شيء له نطق من الحيوان واختلاف دلالة أصواتها على وجدانها، فعموم {كُلَّ شَيْءٍ} مخصوص بالعرف.
{ءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ} يجوز أن تكون هذه الجملة والتي عطفت عليها من تمام ما أنطق الله به جلودهم قُتفِّيَ على مقالتها تشهيرًا بخطئهم في إنكارهم البعث والمصير إلى الله لزيادة التنديم والتحسير، وهذا ظاهر كون الواو في أول الجملة واو العطف فيكون التعبير بالفعل المضارع في قوله: {وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ} لاستحضار حالتهم فإنهم ساعتئذٍ في قبضة تصرف الله مباشرة.
وأما رجوعهم بمعنى البعث فإنه قد مضى بالنسبة لوقت إحضارهم عند جهنم، أو يكون المراد بالرجوع الرجوع إلى ما ينتظرهم من العذاب.
ويجوز أن تكون هذه الجملة وما بعدها اعتراضًا بين جملة {وَيَوْمَ نُحْشَرُ أعْدَاءَ الله إلى النَّارِ} وجملة {فَإنْ يَصْبِرُوا فالنَّارُ مَثْوىً لَهُم} [فصلت: 24] موجهًا من جانب الله تعالى إلى المشركين الأحياء لتذكيرهم بالبعث عقب ذكر حالهم في القيامة انتهازًا لفرصة الموعظة السابقة عند تأثرهم بسماعها.