فصل: قال الزمخشري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} فاختاروا الكفر على الإيمان.
{فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ} مهلكة.
{العذاب الهون} أي الهوان، ومجازه: ذي هون.
{بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ وَنَجَّيْنَا الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ وَيَوْمَ يُحْشَرُ} يبعث ويجمع، وقرأ نافع ويعقوب {نَحْشُرُ} بنون مفتوحة وضم الشين.
{أَعْدَاءُ الله} نصبًا.
{إِلَى النار فَهُمْ يُوزَعُونَ} يساقون ويدفعون إلى النّار، وقال قتادة والسدي: يحبس أولهم على آخرهم.
{حتى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم} أي بشراتهم.
{بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وقال السدي وعبيد الله ابن أبي جعفر: أراد بالجلود الفروج.
وأنشد بعض الأدباء لعامر بن جوين:
المرء يسعى للسلا ** مة والسلامة حسبه

أو سالم من قد تثنى ** جلده وأبيض رأسه

وقال: جلده كناية عن فرجه.
{وَقَالُواْ} يعني الكفّار الّذين يحشرون إلى النّار.
{لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} حدثنا عقيل بن محمّد: إنّ أبا الفرج البغدادي القاضي أخبرهم عن محمّد بن جرير، حدثنا أحمد بن حازم الغفاري، أخبرنا علي بن قادم الفزاري، أخبرنا شريك، عن عبيد المكيت، عن الشعبي، عن أنس، قال: ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم حتّى بدت نواجذه، ثمّ قال: «ألاّ تسألوني مِمَّ ضحكت» قالوا: مم ضحكت يارسول الله؟ قال: «عجبت من مجادلة العبد ربّه يوم القيامة، قال: يقول يا ربّ أليس وعدتني أن لا تظلمني؟ قال: فإنّ لك ذاك. قال: فإنّي لا أقبل عليّ شاهدًا، إلاّ من نفسي. قال: أوَ ليس كفى بيّ شهيدًا، وبالملائكة الكرام الكاتبين؟ قال: فيختم على فيه وتتكلم أركانه بما كان يعمل» قال: «فيقول لهنّ بُعدًا لَكُنّ وسحقًا عنكنّ كنت أجادل».
قال الله تعالى: {وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ} أي تستخفون في قول أكثر المفسرين، وقال مجاهد: تتقون. قتادة: تظنون.
{أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ} أخبرنا الحسين بن محمّد ابن فنجويه، حدثنا هارون بن محمد بن هارون وعبد الله بن عبد الرّحمن الوراق، قالا: حدثنا محمد بن عبد العزيز، حدثنا محمد بن كثير وأبو حذيفة، قالا: حدثنا سفيان عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن وهب بن ربيعة، عن ابن مسعود، قال: إنّي لمستتر بأستارِ الكعبة، إذ جاء ثلاثة نفر، ثقفي وختناه قريشيان، كثير شحم بطونهم، قليل فقههم، فحدّثوا الحديث بينهم، فقال أحدهم: أترى يسمع ما قلنا؟ فقال الآخر: إذا رفعنا يسمع، وإذا خفضنا لم يسمع، وقال الآخر: إن كان يسمع إذا رفعنا فإنّه يسمع إذا خفضنا. فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، فأنزل الله تعالى: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ}.. إلى قوله: {فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الخاسرين} والثقفي عبد ياليل وختناه القريشيان ربيعة وصفوان بن أمية.
{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} أهلككم.
{فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الخاسرين} قال قتادة: الظنّ هاهنا بمعنى العلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يموتنّ أحدكم، إلاّ وهو يحسن الظنّ بالله، وإنّ قومًا أساءوا الظنّ بربّهم فأهلكهم» فذلك قوله: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم}.. الآية.
أخبرنا الحسين بن محمّد بن فنجويه الدينوري، حدثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي، حدثنا عبد الله بن العباس الطيالسي، حدثنا أحمد بن حفص، حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن موسى بن عقبة، عن أبي الزياد عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: أنا عند ظنّ عبدي بيّ، وأنا معه حين يذكرني».
وقال قتادة: من استطاع منكم أن يموت وهو حسن الظنّ بربّه فليفعل، فإنّ الظنّ إثنان: ظنّ ينجي، وظنّ يردي، وقال محمّد بن حازم الباهلي:
الحسن الظنّ مستريح ** يهتم من ظنّه قبيح

من روح الله عنه ** هبّت من كلّ وجه ريح

لم يخب المرء عن منح ** سخاء وإنّما يهلك الشحيح

{فَإِن يَصْبِرُواْ فالنار مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ} يسترضوا ويطلبوا العتبى.
{فَمَا هُم مِّنَ المعتبين} المرضيين، والمعتّب الّذي قَبل عتابة وأجيب إلى ما يسأل، وقرأ عبيد بن عمير {وإن تُستعتبوا} على لفظ المجهول {فَمَا هُم مِّنَ المعتبين} بكسر التاء، يعني إن سألوا أن يعملوا ما يرضون به ربّهم {فَمَا هُم مِّنَ المعتبين} أي ما هم بقادرين على إرضاء ربّهم لأنهم فارقوا دار العمل. اهـ.

.قال الزمخشري:

سورة فصلت:
وتسمى السجدة.
مكية.
وآياتها 54 وقيل 53 آية.
نزلت بعد غافر.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

.[سورة فصلت: الآيات 1- 4]:

{حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4)}.
إن جعلت {حم} اسما للسورة كانت في موضع المبتدأ. و{تَنْزِيلٌ} خبره. وإن جعلتها تعديد للحروف كان تَنْزِيلٌ خبرا لمبتدأ محذوف وكِتابٌ بدل من تنزيل. أو خبر بعد خبر. أو خبر مبتدأ محذوف. وجوز الزجاج أن يكون {تَنْزِيلٌ} مبتدأ، و{كِتابٌ} خبره.
ووجهه أن تنزيلا تخصص بالصفة فساغ وقوعه مبتدأ {فُصِّلَتْ آياتُهُ} ميزت وجعلت تفاصيل في معان مختلفة: من أحكام وأمثال ومواعظ، ووعد ووعيد، وغير ذلك. وقرئ: {فصلت} أي: فرقت بين الحق والباطل. أو فصل بعضها من بعض باختلاف معانيها، من قولك: فصل من البلد {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} نصب على الاختصاص والمدح، أي: أريد بهذا الكتاب المفصل قرآنا من صفته كيت وكيت. وقيل: هو نصب على الحال، أي: فصلت آياته في حال كونه قرآنا عربيا {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي لقوم عرب يعلمون ما نزل عليهم من الآيات المفصلة المبينة بلسانهم العربي المبين، لا يلتبس عليهم شيء منه. فإن قلت: بم يتعلق قوله: {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}؟ قلت: يجوز أن يتعلق بتنزيل أو بفصلت، أي: تنزيل من اللّه لأجلهم. أو فصلت آياته لهم.
والأجود أن يكون صفة مثل ما قبله وما بعده، أي قرآنا عربيا كائنا لقوم عرب، لئلا يفرق بين الصلات والصفات. وقرئ: {بشير ونذير} صفة للكتاب. أو خبر مبتدأ محذوف {فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} لا يقبلون ولا يطيعون، من قولك. تشفعت إلى فلان فلم يسمع قولي، ولقد سمعه ولكنه لما لم يقبله ولم يعمل بمقتضاه، فكأنه لم يسمعه.

.[سورة فصلت: آية 5]:

{وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5)}.
والأكنة: جمع كنان، وهو الغطاء. والوقر- بالفتح- الثقل. وقرئ بالكسر. وهذه تمثيلات لنبوّ قلوبهم عن تقبل الحق واعتقاده، كأنها في غلف وأغطية تمنع من نفوذه فيها، كقوله تعالى: {وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ} ومج أسماعهم له كأن بها صمما عنه، ولتباعد المذهبين والدينين كأن بينهم وما هم عليه، وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وما هو عليه: حجابا ساترا وحاجزا منيعا من جبل أو نحوه، فلا تلاقى ولا ترائى فَاعْمَلْ على دينك إِنَّنا عامِلُونَ على ديننا. أو فاعمل في إبطال أمرنا، إننا عاملون في إبطال أمرك. وقرئ {إنا عاملون} فإن قلت: هل لزيادة مِنْ في قوله: {وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ} فائدة؟ قلت: نعم، لأنه لو قيل: وبيننا وبينك حجاب: لكان المعنى: أن حجابا حاصل وسط الجهتين، وأما بزيادة مِنْ فالمعنى: أن حجابا ابتدأ منا وابتدأ منك، فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها.
فإن قلت: هلا قيل: على قلوبنا أكنة، كما قيل: وفي آذاننا وقر، ليكون الكلام على نمط واحد؟ قلت: هو على نمط واحد، لأنه لا فرق في المعنى بين قولك: قلوبنا في أكنة. وعلى قلوبنا أكنة. والدليل عليه قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} ولو قيل: إنا جعلنا قلوبهم في أكنة: لم يختلف المعنى، وترى المطابيع منهم لا يراعون الطباق والملاحظة إلا في المعاني.

.[سورة فصلت: الآيات 6- 7]:

{قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7)} فإن قلت: من أين كان قوله: {إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ} جوابا لقولهم {قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ}؟ قلت: من حيث أنه قال لهم: إنى لست بملك، وإنما أنا بشر مثلكم، وقد أوحى إلىّ دونكم فصحت- بالوحي إلىّ وأنا بشر- نبوّتى، وإذا صحت نبوّتى: وجب عليكم اتباعى، وفيما يوحى إلىّ: أن إلهكم إله واحد {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} فاستووا إليه بالتوحيد وإخلاص العبادة غير ذاهبين يمينا ولا شمالا، ولا ملتفتين إلى ما يسوّل لكم الشيطان من اتخاذ الأولياء والشفعاء، وتوبوا إليه مما سبق لكم من الشرك {وَاسْتَغْفِرُوهُ} وقرئ: {قال إنما أنا بشر}.
فإن قلت: لم خص من بين أوصاف المشركين منع الزكاة مقرونا بالكفر بالآخرة؟ قلت: لأن أحب شيء إلى الإنسان ما له وهو شقيق روحه، فإذا بذله في سبيل اللّه فذلك أقوى دليل على ثباته واستقامته وصدق نيته ونصوع طويته. ألا ترى إلى قوله عز وجل {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي: يثبتون أنفسهم ويدلون على ثباتها بإنفاق الأموال، وما خدع المؤلفة قلوبهم إلا بلمظة من الدنيا فقرّت عصبيتهم ولانت شكيمتهم وأهل الردّة بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما تظاهروا إلا بمنع الزكاة، فنصبت لهم الحرب، وجوهدوا. وفيه بعث للمؤمنين على أداء الزكاة، وتخويف شديد من منعها، حيث جعل المنع من أوصاف المشركين، وقرن بالكفر بالآخرة. وقيل: كانت قريش يطعمون الحاج، ويحرمون من آمن منهم برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقيل: لا يفعلون ما يكونون به أزكياء، وهو الإيمان.

.[سورة فصلت: آية 8]:

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)}.
الممنون: المقطوع. وقيل: لا يمنّ عليهم لأنه إنما يمنّ التفضل. فأما الأجر فحق أداؤه.
وقيل: نزلت في المرضى والزمنى والهرمى: إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر، كأصح ما كانوا يعملون.

.[سورة فصلت: الآيات 9- 12]:

{قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدادًا ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظًا ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)}.
{أَإِنَّكُمْ} بهمزتين: الثانية بين بين. وءائنكم، بألف بين همزتين ذلِكَ الذي قدر على خلق الأرض في مدة يومين. هو رَبُّ الْعالَمِينَ...... رَواسِيَ جبالا ثوابت. فإن قلت: ما معنى قوله: {مِنْ فَوْقِها} وهل اختصر على قوله وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ كقوله تعالى: {وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ}، {وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ}، {وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ}؟ قلت: لو كانت تحتها كالأساطين لها تستقر عليها، أو مر كوزة فيها كالمسامير: لمنعت من الميدان أيضا، وإنما اختار إرساءها فوق الأرض، لتكون المنافع في الجبال معرضة لطالبيها، حاضرة محصليها، وليبصر أن الأرض والجبال أثقال على أثقال، كلها مفتقرة إلى ممسك لابد لها منه، وهو ممسكها عز وعلا بقدرته وَبارَكَ فِيها وأكثر خيرها وأنماه وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها أرزاق أهلها ومعايشهم وما يصلحهم. وفي قراءة ابن مسعود: {وقسم فيها أقواتها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً} فذلكة لمدة خلق اللّه الأرض وما فيها، كأنه قال: كل ذلك في أربعة أيام كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان. قيل: خلق اللّه الأرض في يوم الأحد ويوم الاثنين، وما فيها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء. وقال الزجاج. في أربعة أيام في تتمة أربعة أيام، يريد بالتتمة اليومين. وقرئ: {سواء} بالحركات الثلاث: الجر على الوصف والنصب على: استوت سواء، أي: استواء: والرفع على: هي سواء. فإن قلت: بم تعلق قوله لِلسَّائِلِينَ؟ قلت: بمحذوف، كأنه قيل: هذا الحصر لأجل من سأل: في كم خلقت الأرض وما فيها؟ أو يقدر: أي: قدر فيها الأقوات لأجل الطالبين لها المحتاجين إليها من المقتاتين.
وهذا الوجه الأخير لا يستقيم إلا على تفسير الزجاج. فإن قلت: هلا قيل في يومين؟ وأى فائدة في هذه الفذلكة؟ قلت: إذا قال في أربعة أيام وقد ذكر أن الأرض خلقت في يومين، علم أن ما فيها خلق في يومين، فبقيت المخايرة بين أن تقول في يومين وأن تقول في أربعة أيام سواء، فكانت في أربعة أيام سواء فائدة ليست في يومين، وهي الدلالة على أنها كانت أياما كاملة بغير زيادة ولا نقصان. ولو قال: في يومين- وقد يطلق اليومان على أكثرهما- لكان يجوز أن يريد باليومين الأولين والآخرين أكثرهما {ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ} من قولك: استوى إلى مكان كذا، إذا توجه إليه توجها لا يلوى على شيء، وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج، ونحوه قولهم: استقام إليه وامتد إليه. ومنه قوله تعالى: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} والمعنى: ثم دعاه داعى الحكمة إلى خلق السماء بعد خلق الأرض وما فيها من غير صارف يصرفه عن ذلك. قيل: كان عرشه قبل خلق السماوات والأرض على الماء، فأخرج من الماء دخانا، فارتفع فوق الماء وعلا عليه، فأيبس الماء فجعله أرضا واحدة، ثم فتقها فجعلها أرضين، ثم خلق السماء من الدخان المرتفع. ومعنى أمر السماء والأرض بالإتيان وامتثالهما: أنه أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه، ووجدتا كما أرادهما، وكانتا في ذلك كالمأمور المطيع إذا ورد عليه فعل الآمر المطاع، وهو من المجاز الذي يسمى التمثيل. ويجوز أن يكون تخييلا ويبنى الأمر فيه على أن اللّه تعالى كلم السماء والأرض وقال لهما: ائتيا شئتما ذلك أو أبيتماه، فقالتا. أتينا على الطوع لا على الكره. والغرض تصوير أثر قدرته في المقدورات لا غير، من غير أن يحقق شيء من الخطاب والجواب. ونحوه قول القائل: قال الجدار للوتد: لم تشقني؟ قال الوتد: اسأل من يدقني، فلم يتركني، ورائي الحجر الذي ورائي. فإن قلت، لم ذكر الأرض مع السماء وانتظمها في الأمر بالإتيان، والأرض مخلوقة قبل السماء بيومين؟ قلت: قد خلق جرم الأرض أولا غير مدحوّة، ثم دحاها بعد خلق السماء، كما قال تعالى {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها} فالمعنى. ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف: ائتى يا أرض مدحوّة قرارا ومهادا لأهلك، وائتي يا سماء مقببة سقفا لهم. ومعنى الإتيان: الحصول والوقوع، كما تقول: أتى عمله مرضيا، وجاء مقبولا. ويجوز أن يكون المعنى: لتأت كل واحدة منكما صاحبتها الإتيان الذي أريده ونقتضيه الحكمة والتدبير: من كون الأرض قرارا للسماء، وكون السماء سقفا للأرض. وتنصره قراءة من قرأ: {آتيا} و{آتينا} من المؤاتاة وهي الموافقة: أي: لتوات كل واحدة أختها ولتوافقها. قالتا، وافقنا وساعدنا. ويحتمل وافقا أمرى ومشيئتى ولا تمتنعا.
فإن قلت: ما معنى طوعا أو كرها؟ قلت: هو مثل للزوم تأثير قدرته فيهما، وأن امتناعهما من تأثير قدرته محال، كما يقول الجبار لمن تحت يده: لتفعلن هذا شئت أو أبيت، ولتفعلنه طوعا أو كرها. وانتصابهما على الحال، بمعنى: طائعتين أو مكرهتين. فإن قلت: هلا قيل: طائعتين على اللفظ؟ أو طائعات على المعنى؟ لأنها سماوات وأرضون. قلت: لما جعلن مخاطبات ومجيبات، ووصفن بالطوع والكره قيل: طائعين، في موضع: طائعات، نحو قوله السَّاجِدِينَ.
{فَقَضاهُنَّ} يجوز أن يرجع الضمير فيه إلى السماء على المعنى كما قال طائِعِينَ ونحوه {أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ} ويجوز أن يكون ضميرا مبهما مفسرا بسبع سماوات، والفرق بين النصبين أن أحدهما على الحال، والثاني على التمييز، قيل خلق اللّه السماوات وما فيها في يومين: في يوم الخميس والجمعة، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة، فخلق فيها آدم وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة. وفي هذا دليل على ما ذكرت، من أنه لو قيل: في يومين في موضع أربعة أيام سواء، لم يعلم أنهما يومان كاملان أو ناقصان. فإن قلت: فلو قيل: خلق الأرض في يومين كاملين وقدر فيها أقواتها في يومين كاملين. أو قيل بعد ذكر اليومين: تلك أربعة سواء؟ قلت: الذي أورده سبحانه أخصر وأفصح وأحسن طباقا لما عليه التنزيل من مغاصاة القرائح ومصاك المركب، ليتميز الفاضل من الناقص، والمتقدم من الناكص، وترتفع الدرجات، ويتضاعف الثواب أَمْرَها ما أمر به فيها ودبره من خلق الملائكة والنيرات وغير ذلك. أو شأنها وما يصلحها وَحِفْظًا وحفظناها حفظا، يعنى من المسترقة بالثواقب. ويجوز أن يكون مفعولا له على المعنى، كأنه قال: وخلقنا المصابيح زينة وحفظا.