فصل: قال نظام الدين النيسابوري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فُصّلَتْ ءاياته} ميزت باعتبار اللفظ والمعنى. وقرئ {فُصّلَتْ} أي فصل بعضها من بعض باختلاف الفواصل والمعاني، أو فصلت بين الحق والباطل.
{قُرْءانًا عَرَبِيًّا} نصب على المدح أو الحال من {فُصّلَتْ}، وفيه امتنان بسهولة قراءاته وفهمه.
{لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي لقوم يعلمون العربية أو لأهل العلم والنظر، وهو صفة أخرى ل {قُرْءانًا} أو صلة ل {تَنزِيلَ}، أو ل {فُصّلَتْ}، والأول أولى لوقوعه بين الصفات.
{بَشِيرًا وَنَذِيرًا} للعاملين به والمخالفين له، وقرئا بالرفع على الصفة لل {كِتَابٌ} أو الخبر لمحذوف.
{فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ} عن تدبره وقبوله.
{فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} سماع تأمل وطاعة.
{وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ} أغطية جمع كنان.
{مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءَاذانِنَا وَقْرٌ} صمم، وأصله الثقل، وقرئ بالكسر.
{وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} يمنعنا عن التواصل، ومن للدلالة على أن الحجاب مبتدأ منهم ومنه بحيث استوعب المسافة المتوسطة ولم يبق فراغ. وهذه تمثيلات لنبو قلوبهم عن إدراك ما يدعوهم إليه واعتقادهم ومج أسماعهم له، وامتناع مواصلتهم وموافقتهم للرسول صلى الله عليه وسلم.
{فاعمل} على دينك أو في إبطال أمرنا.
{إِنَّنَا عاملون} على ديننا أو في إبطال أمرك.
{قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ} لست ملكًا ولا جنيًا لا يمكنكم التلقي منه، ولا أدعوكم إلى ما تنبو عنه العقول والأسماع، وإنما أدعوكم إلى التوحيد والاستقامة في العمل، وقد يدل عليهما دلائل العقل وشواهد النقل.
{فاستقيموا إِلَيْهِ} فاستقيموا في أفعالكم متوجهين إليه، أو فاستووا إليه بالتوحيد والإِخلاص في العمل.
{واستغفروه} مما أنتم عليه من سوء العقيدة والعمل، ثم هددهم على ذلك فقال: {وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ} من فرط جهالتهم واستخفافهم بالله.
{الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكوة} لبخلهم وعدم اشفاقهم على الخلق، وذلك من أعظم الرذائل، وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالفروع. وقيل معناه لا يفعلون ما يزكي أنفسهم وهو الإِيمان والطاعة.
{وَهُمْ بالآخرة هُمْ كافرون} حال مشعرة بأن امتناعهم عن الزكاة لاستغراقهم في طلب الدنيا وإنكارهم للآخرة.
{إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ} عظيم.
{غَيْرُ مَمْنُونٍ} لا يمن به عليهم من المن وأصله الثقل، أو لا يقطع من مننت الحبل إذا قطعته. وقيل نزلت في المرضى والهرمى إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأصلح ما كانوا يعملون.
{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذى خَلَقَ الأرض في يَوْمَيْنِ} في مقدار يومين، أو نوبتين وخلق في كل نوبة ما خلق في أسرع ما يكون. ولعل المراد من {الأرض} ما في جهة السفل من الأجرام البسيطة ومن خلقها {فِى يَوْمَيْنِ} أنه خلق لها أصلًا مشتركًا ثم خلق لها صورًا بها صارت أنواعًا، وكفرهم به إلحادهم في ذاته وصفاته.
{وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا} ولا يصح أن يكون له ند.
{ذلك} الذي {خَلَقَ الأرض في يَوْمَيْنِ}.
{رَبّ العالمين} خالق جميع ما وجد من الممكنات ومربيها.
{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ} استئناف غير معطوف على {خَلقَ} للفصل بما هو خارج عن الصلة.
{مّن فَوْقِهَا} مرتفعة عليها ليظهر للنظار ما فيها من وجوه الاستبصار وتكون منافعها معرضة للطلاب.
{وبارك فِيهَا} وأكثر خيرها بأن خلق فيها أنواع النبات والحيوان.
{وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها} أقوات أهلها بأن عين لكل نوع ما يصلحه ويعيش به، أو أقواتًا تنشأ منها بأن خص حدوث كل قوت بقطر من أقطارها، وقرئ {وقسم فِيهَا أقواتها}.
{فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} في تتمة أربعة أيام كقولك: سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام، وإلى الكوفة في خمسة عشر يومًا. ولعله قال ذلك ولم يقل في يومين للإِشعار باتصالهما باليومين الأولين. والتصريح على الفذلكة.
{سَوَاءٌ} أي استوت سواء بمعنى استواء، والجملة صفة أيام ويدل عليه قراءة يعقوب بالجر. وقيل حال من الضمير في أقواتها أو في فيها، وقرئ بالرفع على هي سواء.
{لّلسَّائِلِينَ} متعلق بمحذوف تقديره هذا الحصر للسائلين عن مدة خلق الأرض وما فيها، أو بقدر أي قدر فيها الأقوات للطالبين لها.
{ثُمَّ استوى إِلَى السماء} قصد نحوها من قولهم استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه توجهًا لا يلوي على غيره، والظاهر أن ثم لتفاوت ما بين الخلقتين لا للتراخي في المدة لقوله: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها} ودحوها متقدم على خلق الجبال من فوقها.
{وَهِىَ دُخَانٌ} أمر ظلماني، ولعله أراد به مادتها أو الأجزاء المتصغرة التي كتب منها {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا} بما خلقت فيكما من التأثير والتأثر وأبرزا ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة والكائنات المتنوعة. أو {ائتيا} في الوجود على أن الخلق السابق بمعنى التقدير أو الترتيب للرتبة، أو الإِخبار أو إتيان السماء حدوثها وإتيان الأرض أن تصير مدحوة، وقد عرفت ما فيه أو لتأت كل منكما الأخرى في حدوث ما أريد توليده منكما ويؤيده قراءة {آتيا} في المؤاتاة أي لتوافق كل واحدة أختها فيما أردت منكما.
{طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} شئتما ذلك أو أبيتما والمراد إظهار كمال قدرته ووجوب وقوع مراده لا إثبات الطوع والكره لهما، وهما مصدران وقعا موقع الحال.
{قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} منقادين بالذات، والأظهر أن المراد تصوير تأثير قدرته فيهما وتأثرهما بالذات عنها، وتمثيلهما بأمر المطاع وإجابة المطيع الطائع كقوله: {كُنْ فَيَكُونُ} وما قيل من أنه تعالى خاطبهما وأقدرهما على الجواب إنما يتصور على الوجه الأول والأخير، وإنما قال طائعين على المعنى باعتبار كونهما مخاطبتين كقوله: {ساجدين} {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سموات} فخلقهن خلقًا إبداعيًا وأتقن أمرهن، والضمير ل {السماء} على المعنى أو مبهم، و{سَبْعَ سموات} حال على الأول وتمييز على الثاني.
{فِى يَوْمَيْنِ} قيل خلق السموات يوم الخميس والشمس والقمر والنجوم يوم الجمعة.
{وأوحى في كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا} شأنها وما يتأتى منها بأن حملها عليه اختيارًا أو طبعًا. وقيل أوحى إلى أهلها بأوامره ونواهيه.
{وَزَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح} فإن الكواكب كلها ترى كأنها تتلألأ عليها.
{وَحِفْظًا} أي وحفظناها من الآفات، أو من المسترقة حفظًا. وقيل مفعول له على المعنى كأنه قال: وخصصنا السماء الدنيا بمصابيح زينة وحفظًا.
{ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم} البالغ في القدرة والعلم.
{فَإِنْ أَعْرَضُواْ} عن الإِيمان بعد هذا البيان.
{فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صاعقة} فحذرهم أن يصيبهم عذاب شديد الوقع كأنه صاعقة.
{مِّثْلَ صاعقة عَادٍ وَثَمُودَ} وقرئ {صعقة مثل صعقة عاد وثمود} وهي المرة من الصعق أو الصعق يقال صعقته الصاعقة صعقًا فصعق صعقًا.
{إِذْ جَاءَتْهُمُ الرسل} حال من {صاعقة عَادٍ}، ولا يجوز جعله صفة ل {صاعقة} أو ظرفًا ل {أَنذَرْتُكُمْ} لفساد المعنى.
{مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} أتوهم من جميع جوانبهم واجتهدوا بهم من كل جهة، أو من جهة الزمن الماضي بالإنذار عما جرى فيه على الكفار، ومن جهة المستقبل بالتحذير عما أعد لهم في الآخرة، وكل من اللفظين يحتملهما، أو من قبلهم ومن بعدهم إذ قد بلغتهم خبر المتقدمين وأخبرهم هود وصالح عن المتأخرين داعين إلى الإِيمان بهم أجمعين، ويحتمل أن يكون عبارة عن الكثرة كقوله تعالى: {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ} {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} بأن لا تعبدوا أو أي لا تعبدوا.
{قَالُواْ لَوْ شَاء رَبُّنَا} إرسال الرسل.
{لأَنزَلَ ملائكة} برسالته.
{فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} على زعمكم.
{كافرون} إذ أنتم بشر مثلنا لا فضل لَكُمْ علينا.
{فَأَمَّا عَادٌ فاستكبروا في الأرض بِغَيْرِ الحق} فتعظموا فيها على أهلها من غير استحقاق.
{وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} اغترارًا بقوتهم وشوكتهم. قيل كان من قوتهم أن الرجل منهم ينزع الصخرة فيقتلعها بيده.
{أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} قدرة فإنه قادر بالذات مقتدر على ما لا يتناهى، قوي على ما لا يقدر عليه أحد غيره.
{وَكَانُواْ بآياتنا يَجْحَدُونَ} يعرفون أنها حق وينكرونها وهو عطف على {فاستكبروا}.
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} باردة تهلك بشدة بردها من الصر وهو البرد الذي يصر أي يجمع، أو شديدة الصوت في هبوبها من الصرير.
{فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} جمع نحسة من نحس نحسًا نقيص سعد سعدًا، وقرأ الحجازيان والبصريان بالسكون على التخفيف أو النعت على فعل، أو الوصف بالمصدر قيل كان آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء وما عذب قوم إلا في يوم الأربعاء.
{لّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخزى في الحياة الدنيا} أضاف ال {عَذَابِ} إلى {الخزى} وهو الذل على قصد وصفة به لقوله: {وَلَعَذَابُ الآخرة أخزى} وهو في الأصل صفة المعذب وإنما وصف به العذاب على الإِسناد المجازي للمبالغة.
{وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ} بدفع العذاب عنهم.
{وَأَمَّا ثَمُودُ فهديناهم} فدللناهم على الحق بنصب الحجج وإرسال الرسل، وقرئ {ثَمُودَ} بالنصب بفعل مضمر يفسره ما بعده ومنونًا في الحالين وبضم الثاء.
{فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} فاختاروا الضلالة على الهدى.
{فَأَخَذَتْهُمْ صاعقة العذاب الهون} صاعقة من السماء فأهلكتهم، وإضافتها إلى {العذاب} ووصفه ب {الهون} للمبالغة.
{بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} من اختيار الضلالة.
{وَنَجَّيْنَا الذين ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ} من تلك الصاعقة.
{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ الله إِلَى النار} وقرئ {يَحْشُرُ} على البناء للفاعل وهو الله عز وجل. وقرأ نافع {نَحْشُرُ} بالنون مفتوحة وضم الشين ونصب {أَعْدَاء}.
{فَهُمْ يُوزَعُونَ} يحبس أولهم على آخرهم لئلا يتفرقوا وهو عبارة عن كثرة أهل النار.
{حتى إِذَا مَا جَاؤُوهَا} إذا حضروها و{مَا} مزيدة لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور.
{شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وأبصارهم وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} بأن ينطقها الله تعالى، أو يظهر عليها آثارًا تدل على ما اقترف بها فتنطق بلسان الحال.
{وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا} سؤال توبيخ أو تعجب، ولعل المراد به نفس التعجب.
{قَالُواْ أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَىْءٍ} أي ما نطقنا باختيارنا بل أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء، أو ليس نطقنا بعجب من قدرة الله الذي أنطق كل حي، ولو أول الجواب والنطق بدلالة الحال بقي الشيء عامًا في الموجودات الممكنة.
{وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يحتمل أن يكون تمام كلام الجلود وأن يكون استئنافًا.
{وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ سَمْعُكُمْ وَلاَ أبصاركم وَلاَ جُلُودُكُمْ} أي كنتم تستترون عن الناس عند ارتكاب الفواحش مخافة الفضاحة، وما ظننتم أن أعضاءكم تشهد عليكم بها فما استترتم عنها. وفيه تنبيه على أن المؤمن ينبغي أن يتحقق أنه لا يمر عليه حال إلا وهو عليه رقيب.
{ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مّمَّا تَعْمَلُونَ} فلذلك اجترأتم على ما فعلتم.
{وَذَلِكُمْ} إشارة إلى ظنهم هذا، وهو مبتدأ وقوله: {ظَنُّكُمْ الذي ظَنَنتُمْ بِرَبّكُمْ أَرْدَاكُمْ} خبران له ويجوز أن يكون {ظَنُّكُمُ} بدلًا و{أَرْدَاكُمْ} خبرًا.
{فَأَصْبَحْتُمْ مّنَ الخاسرين} إذ صار ما منحوا للاستسعاد به في الدارين سببًا لشقاء المنزلين.
{فَإِن يَصْبِرُواْ فالنار مَثْوًى لَّهُمْ} لا خلاص لهم عنها.
{وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ} يسألوا العتبى وهي الرجوع إلى ما يحبون.
{فَمَا هُم مّنَ المعتبين} المجابين إليها ونظيره قوله تعالى حكاية: {أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} وقرئ {وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مّنَ المعتبين}، أي إن يسألوا أن يرضوا ربهم فما هم فاعلون لفوات المكنة. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري:

{حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)} التفسير: {حم} قال بعضهم: الحاء من الحكمة، والميم من المنة أي منّ على عباده بتنزيل الحكمة من الرحمن في الأزل، الرحيم في الأبد وهي {كتاب فصلت آياته} أي ميزت أمثالًا ومواعظ وأحكامًا وقصصًا إلى غير ذلك. وقد مر في أوّل هود.
وانتصب {قرآنًا} على المدح والاختصاص أو على الحال الموطئة {لقوم يعلمون} أي لقوم عرب يفهمون معانيه يعني بالأصالة وللباقين بعدهم، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم منهم فالدعوة تحصل أوّلًا لهم. والأظهر عندي أنه كقوله: {هدى للمتقين} [البقرة: 2] وذلك أنه لا ينتفع بالقرآن إلا أهل العلم به. قال أهل السنة: الصفات المذكورة هاهنا للقرآن توجب شدة الاهتمام بمعرفته. والوقوف على معانيه بيانه أن كونه نازلًا من الرحمن الرحيم دليل على أن تنزيله رحمة للعالمين، وفيه شفاء لأمراض القلوب، وكونه كتابًا. والتركيب يدور على الجمع كما سبق في أول الكتاب يدل على أن فيه علوم الأوّلين والآخرين.
وقوله: {فصلت آياته} دليل على أنه في غاية الكشف والبيان وكونه {قرآنًا عربيًا} ولغة العرب أفصح اللغات مما يوجب أن تتوفر عليه الرغبات ولاسيما للعرب ومن داناهم. وكونه {بشيرًا ونذيرًا} يدل على أن الاحتياج إليه من أهم المهمات لأنه سعي في معرفة ما يوصل إلى الثواب الأبديّ، ويخلص من العقاب السرمدي.
فإذا علم المخاطبون هذه الفوائد ثم أعرض أكثرهم عن القرآن ولم يسمعوه سماع قبول دل ذلك على أن المهديّ من هداه الله ومن يضلله فلا هادي له. ثم أكد بيان إعراضهم بقوله: {وقالوا قلوبنا في أكنة} ولا يخفى أنه سبحانه ذكر هذا في معرض الذم فوجه الجمع بينه وبين قوله: {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا} [الأنعام: 25] هو أن الذم إنما يتوجه على اعتقادهم أنهم إذا كانوا كذلك لم يجز تكليفهم ولا خطابهم بالأمر والنهي، أو أنهم قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء. قال جار الله: فائدة {من} في قوله: {ومن بيننا وبينك حجاب} دون أن يقول {وبيننا} هو أن العبارة الثانية تدل على مطلق الحجاب، ولكن العبارة الواردة في القرآن تفيد أن المسافة التي بينهم وبين رسول الله مملوءة من الحجاب لا فراغ فيها كأنه قيل: إن الحجاب ابتدأ منا ومنك. ثم حكى عنهم ما قالوا على سبيل التهديد أو التحلية {فاعمل} أي على دينك أو في إبطال ديننا {إننا عاملون} على ديننا أو في إبطال أمرك. ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب عن شبهتهم بقوله: {إنما أنا بشر مثلكم} وتوجيه النظم إني لا أقدر أن أحملكم على الإيمان جبرًا فإني بشر مثلكم ولا امتياز إلا أني أوحي إليّ بالتوحيد والأمر به، فعليّ البلاغ وحده. ثم إن قبلتم قولي أثابكم الله وإلا عاقبكم. قال في الكشاف: أراد إن نبوّتي صحت بالوحي وإذا صحت وجب اتباعي ومن جملة ذلك القول بالتوحيد. ثم بين أن خلاصة الوحي ترجع إلى أمرين: الاستقامة والإقامة على التوحيد المتوجهين إلى الله والاستغفار من تقصير قد يقع في الطاعة. ثم هددّ أهل الشرك بقوله: {وويل للمشركين} وقرن منع الزكاة بالكفر بالله أوّلًا وبالآخرة ثانيًا، لأن المال شقيق الروح، وبه وببذله في سبيل الله يعرف الموافق من المنافق، ففيه بعث شديد لأهل الإيمان على أداء الزكاة، وفيه أن الشفقة على خلق الله قرينة التعظيم لأمر الله.