فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} قال عطاء عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه؛ وذلك أن المشركين قالوا ربُّنا الله والملائكة بناته وهؤلاء شفعاؤنا عند الله؛ فلم يستقيموا.
وقال أبو بكر: ربُّنا الله وحده لا شريك له ومحمد صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله؛ فاستقام.
وفي الترمذي عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} قال: «قد قال الناس ثم كفر أكثرهم فمن مات عليها فهو ممن استقام» قال: حديث غريب.
ويروى في هذه الآية عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ معنى {استقاموا}؛ ففي صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفيّ قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك وفي رواية غيرك.
قال: «قل آمنت بالله ثم استقم» زاد الترمذي قلت: يا رسول الله ما أخوف ما تخاف عليّ؟ فأخذ بلسان نفسه وقال: «هذا».
وروي عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه أنه قال: {ثُمَّ استقاموا} لم يشركوا بالله شيئًا.
وروى عنه الأسود بن هلال أنه قال لأصحابه: ما تقولون في هاتين الآيتين {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} و{الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] فقالوا: استقاموا فلم يذنبوا ولم يلبسوا إيمانهم بخطيئة؛ فقال أبو بكر: لقد حملتموها على غير المحمل {قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} فلم يلتفتوا إلى إله غيره {وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ} بشرك {أولئك لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ}.
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال على المنبر وهو يخطب: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} فقال: استقاموا والله على الطريقة لطاعته ثم لم يَرغُوا روغان الثعالب.
وقال عثمان رضي الله عنه: ثم أخلصوا العمل لله.
وقال عليّ رضي الله عنه: ثم أدوا الفرائض.
وأقوال التابعين بمعناها.
قال ابن زيد وقتادة: استقاموا على الطاعة لله.
الحسن: استقاموا على أمر الله فعملوا بطاعته واجتنبوا معصيته.
وقال مجاهد وعكرمة: استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى ماتوا.
وقال سفيان الثوري: عملوا على وِفاق ما قالوا.
وقال الربيع: أعرضوا عما سوى الله.
وقال الفضيل بن عياض: زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية.
وقيل: استقاموا إسرارًا كما استقاموا إقرارًا.
وقيل: استقاموا فعلًا كما استقاموا قولًا.
وقال أنس: لما نزلت هذه الآية قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «هم أمتي وربِّ الكعبة» وقال الإمام ابن فُورك: السين سين الطلب مثل استسقى أي سألوا من الله أن يثبتهم على الدين.
وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال: اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة.
قلت: وهذه الأقوال وإن تداخلت فتلخيصها: اعتدلوا على طاعة الله عقدًا وقولًا وفعلًا، وداموا على ذلك.
{تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة} قال ابن زيد ومجاهد: عند الموت.
وقال مقاتل وقتادة: إذا قاموا من قبورهم للبعث.
وقال ابن عباس: هي بشرى تكون لهم من الملائكة في الآخرة.
وقال وكيع وابن زيد: البشرى في ثلاثة مواطن عند الموت وفي القبر وعند البعث.
{أَلاَّ تَخَافُواْ} أي ب {أَلاَّ تَخَافُوا} فحذف الجار.
وقال مجاهد: لا تخافوا الموت {وَلاَ تَحْزَنُواْ} على أولادكم فإن الله خليفتكم عليهم.
وقال عطاء بن أبي رباح: لا تخافوا رد ثوابكم فإنه مقبول، ولا تحزنوا على ذنوبكم فإني أغفرها لكم.
وقال عكرمة: ولا تخافوا أمامكم، ولا تحزنوا على ذنوبكم.
{وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}.
قوله تعالى: {نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة} أي تقول لهم الملائكة الذين تتنزل عليهم بالبشارة {نَحْنُ أَوْلِيَاءُكُمْ} قال مجاهد: أي نحن قرناؤكم الذين كنا معكم في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة قالوا لا نفارقكم حتى ندخلكم الجنة.
وقال السدي: أي نحن الحفظة لأعمالكم في الدنيا وأولياؤكم في الآخرة.
ويجوز أن يكون هذا من قول الله تعالى؛ والله ولِي المؤمِنِينَ ومولاهم.
{وَلَكُمْ فِيهَا مَا تشتهي أَنفُسُكُمْ} أي من الملاذّ.
{وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} تسألون وتتمنون.
{نُزُلًا} أي رزقًا وضيافة.
وقد تقدّم في آل عمران وهو منصوب على المصدر أي أنزلناه نزلًا.
وقيل: على الحال.
وقيل: هو جمع نازل، أي لكم ما تدعون نازلين، فيكون حالًا من الضمير المرفوع في {تَدَّعُونَ} أو من المجرور في {لَكُمْ}.
قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحًا} هذا توبيخ للذين تواصَوْا باللغو في القرآن.
والمعنى: أيّ كلام أحسن من القرآن، ومن أحسن قولًا من الداعي إلى الله وطاعته وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
قال ابن سيرين والسدي وابن زيد والحسن: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان الحسن إذا تلا هذه الآية يقول: هذا رسول الله، هذا حبيب الله، هذا وليّ الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا والله أحب أهل الأرض إلى الله؛ أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب إليه.
وقالت عائشة رضي الله عنها وعكرمة وقيس بن أبي حازم ومجاهد: نزلت في المؤذّنين.
قال فضيل بن رفيدة: كنت مؤذنًا لأصحاب عبد الله بن مسعود، فقال لي عاصم بن هبيرة: إذا أذّنت فقلت: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، فقل وأنا من المسلمين؛ ثم قرأ هذ الآية؛ قال ابن العربي؛ الأول أصح؛ لأن الآية مكية والأذان مدني؛ وإنما يدخل فيها بالمعنى؛ لا أنه كان المقصود وقت القول، ويدخل فيها أبو بكر الصدّيق حين قال في النبيّ صلى الله عليه وسلم وقد خنقه الملعون {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله} [غافر: 28] وتتضمن كل كلام حسن فيه ذكر التوحيد والإيمان.
قلت: وقول ثالث وهو أحسنها؛ قال الحسن: هذه الآية عامة في كل من دعا إلى الله.
وكذا قال قيس بن أبي حازم قال: نزلت في كل مؤمن.
قال: ومعنى {وَعَمِلَ صَالِحًا} الصلاة بين الأذان والإقامة.
وقاله أبو أمامة؛ قال: صلى ركعتين بين الأذان والإقامة.
وقال عكرمة: {وَعَمِلَ صَالِحًَا} صلّى وصام.
وقال الكلبي: أدى الفرائض.
قلت: وهذا أحسنها مع اجتناب المحارم وكثرة المندوب.
والله أعلم.
{وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المسلمين} قال ابن العربي: وما تقدّم يدل على الإسلام، لكن لما كان الدعاء بالقول والسيف يكون للاعتقاد ويكون للحجة، وكان العمل يكون للرياء والإخلاص، دل على أنه لابد من التصريح بالاعتقاد لله في ذلك كله، وأن العمل لوجهه.
مسألة: لما قال الله تعالى: {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المسلمين} ولم يقل له اشترط إن شاء الله، كان في ذلك رد على من يقول أنا مسلم إن شاء الله. اهـ.

.قال الثعالبي:

وقوله تعالى: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ} قال سفيان بن عبد اللَّه الثَّقَفِيُّ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ، قَالَ: «قُلْ: رَبِّيَ اللَّهُ ثُمَّ استقم».
ت: هذا الحديث خَرَّجه مسلم في صحيحه، قال صاحب المُفْهِمِ: جوابه صلى الله عليه وسلم من جوامع الكَلِم، وكأَنَّهُ مُنْتَزَعٌ من قول اللَّه تعالى: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} الآية، وتلخيصه: اعْتَدَلُوا على طاعته قولًا وفعلًا وعقدًا، انتهى من شرح الأربعين حديثًا لاِبْنِ الفَاكِهَانِيِّ.
قال ع: واخْتَلَفَ النَّاسُ في مقتضى قوله: {ثُمَّ استقاموا} فذهب الحَسَنُ وجماعةٌ إلى أَنَّ معناه: استقاموا بالطاعاتِ واجتناب المعاصِي، وتلا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هذه الآيةُ على المِنْبَرِ، ثم قال: استقاموا واللَّهِ بطاعتهِ، ولم يروغوا روِغانَ الثَّعَالِبِ.
قال ع: فذهب رحمه اللَّه إلى حَمْلِ الناس على الأَتَمِّ الأفْضَلِ، وإلاَّ فيلزم على هذا التأويل من دليل الخطاب أَلاَّ تتنزل الملائكةُ عِنْدَ الموت على غير مستقيمٍ على الطاعَةِ، وذهب أبو بكْرٍ رضي اللَّه عنه وجماعةٌ معه إلى أَنَّ المعنى: ثم: استقاموا على قولهم: رَبُّنَا اللَّهُ، فلم يختلَّ توحيدُهُمْ، ولا اضطرب إيمانهم.
قال ع: وفي الحديث الصحيح: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلاَمِهِ: لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّه، دَخَلَ الجَنَّةَ» وهذا هو الْمُعْتَقَدُ إن شاء اللَّه، وذلك أَنَّ العصاة من أُمَّةِ محمَّد وغيرها فرقتان: فأَمَّا مَنْ غفر اللَّه له، وترك تعذيبه، فلا محالة أَنَّه مِمَّن تتنزَّل عليهم الملائكة بالبشارة، وهو إنَّما استقام على توحيده فَقَطْ، وأَمَّا مَنْ قَضَى اللَّهُ بِتَعْذِيبِهِ مُدَّةً، ثم يأمر بإدخاله الجَنَّةَ، فلا محالة أَنَّه يلقى جميعَ ذلك عند مَوْتِهِ وَيَعْلَمُهُ، وليس يَصِحُّ أنْ تكون حاله كحالة الكافر واليائِسِ مِنْ رحمة اللَّه، وإذا كان هذا فقَدْ حَصَلَتْ له بشارة بأَلاَّ يخافَ الخُلُودَ، ولا يحزنَ منه، ويدخلَ فيمن يقال لهم: {وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} ومع هذا كله فلا يختلف في أَنَّ المُوَحِّدَ المستقيمَ عَلَى الطَّاعَةِ أَتَمُّ حالًا وأَكمل بشارةً، وهو مقصد أمير المؤمنين عمر رضي اللَّه عنه، وبالجملة، فكُلَّما كان المرءُ أشَدَّ استعدادا، كان أسْرَعَ فوزًا بفَضْلِ اللَّه تعالى؛ قال الثعلبيُّ: قوله تعالى: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة} أي: عند الموت {أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ} قال وَكِيعٌ: والبشرى في ثلاثة مَوَاطِنَ: عند الموت، وفي القبر، وعند البعث، وفي البخاريِّ: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة} أي عند الموت، انتهى، قال ابن العربيِّ في أحكامه: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة} قال المُفَسِّرُونَ: عند الموت، وأنا أقول: كُلَّ يَوْم، وأَوْكَدُ الأيام: يومُ الموت، وحينَ القَبْرِ، ويَوْمُ الفزع الأكبر، وفي ذلك آثار بَيَّنَّاها في موضعها، انتهى.
قال ع: قوله تعالى: {أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ}: أَمَنَةٌ عامَّةٌ في كُلِّ هَمِّ مستأنفٍ، وتسليةٌ تَامَّةٌ عن كُلِّ فَائِتٍ مَاضٍ، وقال مجاهدٌ: المعنى: لا تخافُونَ ما تَقْدُمُونَ عليه، ولا تحزنوا على ما خلفتم من دنياكم.
ت: وذكر أبو نُعَيْمٍ عن ثابتٍ البُنَانيِّ أَنَّه قرأ: حم السجدةِ حَتَّى بلغ: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة}، فوقف، وقال: بلغنا أنَّ العَبْدَ المؤمن حين يُبْعَثُ من قبره يتلقَّاه المَلَكَانِ اللَّذانِ كانا معه في الدنيا، فيقولانِ له: لاَ تَخَفْ، ولا تَحْزَنْ، وأبشر بالجنة التي كنت تُوْعَدُ، قال: فَأَمَّنَ اللَّه خوفَه، وأَقَرَّ عينه، الحديث.
انتهى.
قال ابن المبارك في رقائقه: سمعتُ سفيانَ يَقُولُ في قوله تعالى: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة}: أي عند الموت {أَلاَّ تَخَافُواْ}: ما أمامكم {وَلاَ تَحْزَنُواْ}: على ما خلفتم من ضَيْعَاتِكُمْ {وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} قال: يُبَشَّرُ بثلاث بشاراتٍ: عند الموت، وإذا خرج من القبر، وإذا فَزِعَ، {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ في الحياة الدنيا} قال: كانوا معهم، قال ابن المبارك: وأخبرنا رَجُلٌ عن منصورٍ، عن مجاهدٍ في قوله تعالى: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ في الحياة الدنيا} قال: قُرَنَاؤُهُمْ يلقونهم يوم القيامة، فيقولون: لا نفارقُكُمْ حتى تدخلوا الجنة،. اهـ.
وقوله تعالى: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ في الحياة الدنيا وَفِى الاخرة} المتكلم ب {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ} هم الملائكة القائلون: {أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ} أي: يقولون للمؤمنين عند الموت وعند مشاهدة الحق: نحن كُنَّا أولياءَكُمْ في الدنيا، ونحن هُمْ أولياؤكم في الآخرة؛ قال السُّدِّيُّ: المعنى: نحن حَفَظَتُكُم في الدنيا، وأولياؤكم في الآخرة، والضمير في قوله: {فِيهَا} عائدٌ على الآخرة، و{تَدَّعُونَ} معناه: تَطْلُبُونَ؛ قال الفَخْرُ: ومعنى كونِهِمْ أولياءَ للمؤمنين، إشارةٌ إلى أَنَّ للملائكة تأثيراتٍ في الأرواحِ البشريَّةِ، بالإلهاماتِ والمُكَاشَفَاتِ اليقينيَّةِ والمناجاتِ الخفيَّةِ؛ كما أَنَّ للشياطينِ تَأْثيراتٍ في الأرواحِ بإلقاء الوسَاوِسِ، وبالجملة، فَكَوْنُ الملائكةِ أولياءَ للأرواح الطَّيِّبَةِ الطاهرةِ، حاصِلٌ من جهاتٍ كثيرةٍ معلومةٍ لأربابِ المكاشفاتِ والمشاهَدَاتِ، فَهُمْ يَقُولُونَ: كما أَنَّ تلك الولاياتِ حاصلةٌ في الدنيا، فهي تكونُ باقيةً في الآخرة؛ فإنَّ تلك العلائِقَ ذاتِيَّةٌ لازمة، غير مائلة إلى الزوال؛ بل تصير بعد الموت أقوى وأبقى؛ وذلك لأَنَّ جوهر النفْسِ من جنس الملائكة، وهي كالشُّعْلَةِ بالنسبة إلى الشمس والقطرة بالنسبة إلى البحر، وإنَّما التَّعَلُّقَاتُ الجَسَدَانِيَّةُ والتدبيراتُ البدنيَّةُ هي الحائلة بَيْنَهَا وبين الملائكة، فإذا زالَتْ تلك العلائِقُ، فقد زَالَ الْغِطَاءُ، واتَّصَلَ الأثر بالمؤثر، والقطرةُ بالبَحْرِ، والشعلةُ بالشمْسِ، انتهى.
ت: وقد نقل الثعلبيُّ من كلام أرباب المعاني هنا كلامًا كثيرًا حَسَنًا جِدًّا، موقظًا لأربابِ الهِمَمِ، فانظره إنْ شِئْتَ، وروى ابن المبارك في رقائقه بسنده عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ بأَنَّهُ قال: «إذَا فَنِيَتْ أَيَّامُ الدُّنْيَا عَنْ هَذَا الْعَبْدِ المُؤْمِنِ، بَعَثَ اللَّهُ إلى نَفْسِهِ مَنْ يَتَوَفَّاهَا، قَالَ: فَقَالَ صَاحِبَاهُ اللَّذَانِ يَحْفَظَانِ عَلَيْهِ عَمَلَهُ: إنَّ هَذَا قَدْ كَانَا لَنَا أَخًا وَصَاحِبًا، وَقَدْ حَانَ الْيَوْمَ مِنْهُ فِرَاقٌ، فَأْذَنُوا لَنَا، أَوْ قَالَ: دَعُونَا نُثْنِ على أَخِينَا، فَيُقَالُ: أَثْنِيَا عَلَيْهِ، فَيَقُولاَنِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، وَرَضِيَ عَنْكَ، وَغَفَرَ لَكَ، وأَدْخَلَكَ الجَنَّةَ؛ فَنِعْمَ الأَخُ كُنْتَ والصَّاحِبُ؛ مَا كَانَ أَيْسَرَ مُؤْنَتَكَ، وَأَحْسَنَ مَعُونَتَكَ على نَفْسِكَ، مَا كَانَتْ خَطَايَاكَ تَمنَعُنَا أَنْ نَصْعَدَ إلى رَبِّنَا، فَنُسَبِّحَ بِحَمْدِهِ، وَنُقَدِّسَ لَهُ، وَنَسْجُدَ لَهُ، وَيَقُولُ الَّذِي يتوفى نَفْسَهُ: اخرج أَيُّهَا الرُّوْحُ الطَّيِّبُ إلى خَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ، فَنِعْمَ مَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ، اخرج إلَى الرَّوْحِ وَالرَّيْحَانِ وَجَنَّاتِ النَّعِيمِ وَرَبٍّ عَلًَيْكَ غَيْرِ غَضْبَانَ،، وَإذَا فَنِيَتْ أَيَّامُ الدُّنْيَا عَنِ الْعَبْدِ الْكَافِرِ، بَعَثَ اللَّهُ إلى نَفْسِهِ مَنْ يَتَوَفَّاهَا، فَيَقُولُ صَاحِبَاهُ اللَّذَانِ كَانَا يَحْفَظَانِ عَلَيْهِ عَمَلَهُ: إنَّ هَذَا قَدْ كَانَ لَنَا صَاحِبًا، وَقَدْ حَانَ مِنْهُ فِرَاقٌ، فَأْذَنُوا لَنَا، وَدَعُونَا نُثْنِ على صَاحِبِنَا، فَيُقَالُ: أَثْنِيَا عَلَيْهِ فَيَقُولاَن: لَعْنَةُ اللَّهِ وَغَضَبُهُ عَلَيْهِ، وَلاَ غَفَرَ لَهُ، وَأَدْخَلَهُ النَّارَ فَبِئْسَ الصَّاحِبُ؛ مَا كَانَ أَشَدَّ مُؤْنَتَهُ، وَمَا كَانَ يُعِينُ على نَفْسِهِ؛ إنْ كَانَتْ خَطَايَاهُ وَذُنُوبُهُ لَتَمْنَعُنَا أَنْ نَصْعَدَ إلى رَبِّنَا فَنُسَبِّحَ لَهُ، وَنُقَدِّسَ لَهُ، وَنَسْجُدَ لَهُ، وَيَقُولُ الَّذِي يتوفى نَفْسَهُ: اخرج أَيُّهَا الرُّوحُ الخَبِيثُ إلى شَرِّ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ، فَبِئْسَ مَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ، اخرج إلَى الحَمِيمِ وَتَصْلِيَةِ الجَحِيمِ وَرَبٍّ عَلَيْكَ غَضْبَانَ» انتهى.
وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى الله} الآية ابتداءُ توصيةٍ لنبيِّه عليه السلام، وهو لفظ يَعُمُّ كلَّ مَنْ دعا قديمًا وحديثًا إلى اللَّه عزَّ وجلَّ من الأنبياء والمؤمنين، والمعنى: لا أَحَدَ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ هذه حالُهُ، وإلى العمومِ ذهب الحسن ومقاتلٌ وجماعةٌ، وقيل: إنَّ الآية نزلَتْ في المُؤَذِّنينَ، وهذا ضعيفٌ؛ لأَنَّ الآية مَكِّيَّةٌ، والأذانُ شُرِعَ بالمدينةِ. اهـ.