فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولعل وصف الملائكة المتنزلين بأنهم أولياء يقتضي أن عملهم مع المؤمن عمل صلاح وتأييد مثل إلهام الطاعات ومحاربة الشياطين ونحو ذلك، وبذلك تتم مقابلة تنزلهم على المؤمنين بذكر تقييض القرناء للكافرين، وهذا أحسن.
وجملة {ولَكُم فِيهَا ما تَشْتَهِي أنفُسُكُم} عطف على {التي كُنتُم تُوعَدُون} وما بينهما جملة معترضة كما بينته آنفًا.
ومعنى {مَا تَدَّعُونَ}: ما تتمنون.
يقال: ادَّعَى، أي تمنى، وقد تقدم عند قوله تعالى: {ولهم ما يدَّعون} في سورة يس (57).
والمعنى: لكم فيها ما تشتهونه مما يقع تحت الحسّ وما تتمنونه في نفوسكم من كل ما يخطر بالبال مما يجول في الخيال، فما يدّعون غير ما تشتهيه أنفسهم.
ولهذه المغايرة أعيد {لكم} ليؤذن باستقلال هذا الوعد عن سابقه، فلا يتوهم أن العطف عطف تفسير أو عطف عام على خاص.
والنزُل بضم النون وضم الزاي: ما يُهَيَّأ للضيف من القِرى، وهو مشتق من النزول لأنه كرامة النزيل، وهو هنا مستعار لما يُعطَوْنَه من الرغائب سواء كانت رزقًا أم غيره.
ووجه الشبه سرعة إحضاره كأنه مُهَيَّأٌ من قبللِ أن يشتهوه أو يتمنوه.
و{من غَفُورٍ رحيمٍ} صفة {نُزُلًا}، و{مِنْ} ابتدائية.
وانتصب {نُزُلًا} على الحال من {مَا تَشتهي أنفُسُكم}.
و{مَا تَدَّعُونَ} حال كونه كالنزل المهيّأ للضيف، أي تعطونه كما يعطى النزل للضيف.
وأوثرت صفتا الغفور الرحيم هنا للإِشارة إلى أن الله غفر لهم أو لأكثرهم اللممَ وما تابوا منه، وأنه رحيم بهم لأنهم كانوا يحبونه ويخافونه ويناصرون دينه.
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} ليس هذا من حكاية خطاب الملائكة للمؤمنين في الآخرة وإنما هو موجه من الله فالأظهر أنه تكملة للثناء على {الذين قالوا ربنا الله} [فصلت: 30]، واستقاموا، وتوجيه لاستحقاقهم تلك المعاملة الشريفة، وقمع للمشركين إذ تقرع أسماعَهم، أي كيف لا يكونون بتلك المثابة وقد قالوا أحسن القول وعملوا أحسن العمل.
وذكر هذا الثناء عليهم بحسن قولهم عقب ذكر مذمة المشركين ووعيدُهم على سوء قولهم: {لا تسمعوا لهذا القرآن} [فصلت: 26]، مشعر لا محالة بأن بين الفريقين بونًا بعيدًا، طَرَفَاه: الأحسنُ المصرحُ به، والأسوأُ المفهوم بالمقابلة، أي فلا يستوي الذين قالوا أحسنَ القول وعملوا أصلح العمل مع الذين قالوا أسوأ القول وعملوا أسوأَ العمل، ولهذا عقب بقوله: {وَلا تَسْتَوي الحَسَنة ولاَ السَّيِئَة} [فصلت: 34].
والواو إما عاطفة على جملة {إنَّ الذين قالوا ربُّنا الله} [فصلت: 30]، أو حاليَّة من {الذينَ قالُوا}، والمعنى: أنهم نالوا ذلك إذْ لا أحسن منهم قولًا وعملًا.
و{مَنْ} استفهام مستعمل في النفي، أي لا أحد أحسن قولًا من هذا الفريق كقوله: {ومن أحسن دينًا ممن أسلم وجهه للَّه} الآية في سورة النساء (125).
و{ممن دعا إلى اللَّه}: كل أحد ثبت له مضمون هذه الصلة.
والدعاء إلى شيء: أمر غيرك بالإقبال على شيء، ومنه قولهم: الدعوة العباسية والدعوة العَلوية، وتسمية الواعظ عند بني عبيد بالداعي لأنه يدعو إلى التشيُّع لآل علي بن أبي طالب.
فالدعاء إلى الله: تمثيل لحال الآمِرِ بإفراد الله بالعبادة ونبذ الشرك بحال من يدعو أحدًا بالإِقبال إلى شخص، وهذا حال المؤمنين حين أعلنوا التوحيد وهو ما وُصفوا به آنفًا في قوله: {إنَّ الَّذِين قالوا ربُّنا} [فصلت: 30] كما علمتَ وقد كان المؤمنون يدعون المشركين إلى توحيد الله، وسيّدُ الداعين إلى الله هو محمد.
وقوله: {مِمَّن دعا إلى الله} مِنْ فيه تفضيلية لاسْم {أَحْسَنُ}، والكلام على حذف مضاف تقديره: من قول من دعا إلى الله.
وهذا الحذف كالذي في قول النابغة:
وقد خِفت حتى ما تَزيد مخافتي ** على وَعِللٍ في ذي المَطارة عاقل

أي لا تزيد مخافتي على مخافة وعل، ومنه قوله تعالى: {ولكن البر من آمن باللَّه} الآية في سورة البقرة (177).
والعمل الصالح: هو العمل الذي يصلُح عامِلُه في دينه ودنياه صلاحًا لا يشوبه فساد، وذلك العمل الجاري على وفق ما جاء به الدين، فالعمل الصالح: هو ما وصف به المؤمنون آنفًا في قوله: {ثمَّ استقاموا} [فصلت: 30].
وأما {وَقَالَ إنَّني مِنَ المُسْلِمِينَ} فهو ثناء على المسلمين بأنهم افتخروا بالإسلام واعتزوا به بين المشركين ولم يتستروا بالإسلام.
والاعتزاز بالدين عمل صالح ولكنه خص بالذكر لأنه أريد به غيظ الكافرين.
ومثال هذا ما وقع يوم أحد حين صَاح أبو سفيان: اعْلُ هُبَلْ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم قولوا: «الله أعلى وأجلّ» فقال أبو سفيان: لنا العُزى ولا عُزى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «قولوا الله مولانا ولا مولى لكم».
وإنما لم يذكر نظير هذا القول في الصلة المشيرة إلى سبب تنزّل الملائكة على المؤمنين بالكرامة وهي {الذِينَ قَالُوا رَبُّنا الله ثُمَّ استقاموا} [فصلت: 30] لأن المقصود من ذكرها هنا الثناء عليهم بتفاخرهم على المشركين بعزة الإِسلام، وذلك من آثار تلك الصلة فلا حاجة إلى ذكره هنالك بخلاف موقعه هنا.
وفي هذه الآية منزع عظيم لفضيلة علماء الدين الذين بينوا السنن ووضحوا أحكام الشريعة واجتهدوا في التوصل إلى مراد الله تعالى من دينه ومن خَلْقه.
وفيها أيضًا منزع لطيف لتأييد قول الماتريدي وطائفة من علماء القيروان وعلى رأسهم مُحمد بن سُحنون: أن المسلم يقول: أَنا مؤمن ولا يقول إن شاء الله خلافًا لقول الأشعري وطائفة من علماء القيروان وعلى رأسهم محمد بن عَبدوس فنُقل أنه كان يقول: أنا مؤمن إن شاء الله.
وقد تطاير شرر هذا الخلاف بين علماء القيروان مدة قرن.
والحق إنه خلاف لفظي كما بينه الشيخ أبو محمد بن أبي زيد ونقله عياض في المدارك ووافقه.
وذكرنا المسألة مفصلة عند قوله تعالى: {وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء اللَّه ربنا} في سورة الأعراف (89) وبذلك فلا حجة في هذه الآية لأحد الفريقين وإنما الحجة في آية سورة الأعراف على الماتريدي ومحمد بن سحنون.
والقول في قوله: {وقَالَ إنَّني مِنَ المُسْلِمين} كالقول في {إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنا الله} [فصلت: 30]. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

قال ابن القيم:
قوله تعالى: {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين} وقال تعالى {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني يوسف} 108 وسواء كان المعنى أنا ومن اتبعني يدعو إلى الله على بصيرة أو كان الوقف عند قوله ادعو إلى الله ثم يبتدئ {على بصيرة أنا ومن اتبعني} فالقولان متلازمان فإنه امره سبحانه أن يخبر أن سبيله الدعوة إلى الله فمن دعا إلى الله تعالى فهو على سبيل رسوله وهو على بصيرة وهو من اتباعه ومن دعا إلى غير ذلك فليس على سبيله ولا هو على بصيرة ولا هو من اتباعه.
فالدعوة إلى الله تعالى هي وظيفة المرسلين واتباعهم وهم خلفاء الرسل في أممهم والناس تبع لهم والله سبحانه قد أمر رسوله أن يبلغ ما انزل اليه وضمن له حفظه وعصمته من الناس وهكذا المبلغون عنه من أمته لهم من حفظ الله وعصمته اياهم بحسب قيامهم بدينه وتبليغهم لهم وقد أمر النبي بالتبليغ عنه ولو آية ودعا لمن بلغ عنه ولو حديثا وتبليغ سنته إلى الأمة افضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو لأن ذلك التبليغ يفعله كثير من الناس واما تبليغ السنن فلا تقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم في أممهم جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه.
وهم كما قال فيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خطبته التي ذكرها ابن وضاح في كتاب الحوادث والبدع له قال الحمد لله الذي امتن على العباد بأن جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى.
ويصبرون منهم على الاذى ويحيون بكتاب الله أهل العمى كم من قتيل لإبليس قد احيوه وضال تائه قد هدوه بذلوا دماءهم واموالهم دون هلكة العباد فما أحسن اثرهم على الناس واقبح اثر الناس عليهم يقبلونهم في سالف الدهر والى يومنا هذا فما نسيهم ربك وما كان ربك نسيا مريم 64 وجعل قصصهم هدى وأخبر عن حسن مقالتهم فلا تقصر عنهم فإنهم في منزلة رفيعة وإن اصابتهم الوضيعة.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام وليا من اوليائه يذب عنها وينطق بعلاماتها فاغتنموا حضور تلك المواطن وتوكلوا على الله.
ويكفي في هذا قول النبي لعلي رضي الله عنه لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم.
وقوله من احيا شيئا من سنتي كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وضم بين اصبعيه.
وقوله من دعا إلى هدى فاتبع عليه كان له مثل اجر من تبعه إلى يوم القيامة.
فمتى يدرك العامل هذا الفضل العظيم والحظ الجسيم بشيء من عمله وانما ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم فحقيق بالمبلغ عن رسول الله الذي اقامه الله سبحانه في هذا المقام أن يفتتح كلامه بحمد الله تعالى والثناء عليه وتمجيده والاعتراف له بالوحدانية وتعريف حقوقه على العباد ثم بالصلاة على رسول الله وتمجيده والثناء عليه أن يختمه أيضا بالصلاة عليه تسليما. اهـ.

.تفسير الآيات (34- 38):

قوله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان التقدير: لا أحد أحسن قولا منه، بل هو المحسن وحده، فلا يستوي هذا المحسن وغيره أصلًا، ردًا عليهم أن حالهم أحسن من حال الدعاة إلى الله، وكان القيام بتكميل الخلق يحتاج إلى جهاد للنفس عظيم من تحمل المشاق والصبر على الأذى، وغير ذلك من جميع الأخلاق، عطف عليه التفرقة بين عمليهما ترغيبًا في الحسنات فقال: {ولا تستوي} أي وإن اجتهدت في التحرير والاعتبار {الحسنة} أي لا بالنسبة إلى أفراد جنسها ولا بالنسبة إلى عامليها عند وحدتها، لتفاوت الحسنات في أنفسها، والحسنة الواحدة باعتبار نيات العاملين لها واجتهادهم فيها ولا بالنسبة إلى غيرها، وإلى ذلك إشارة بالتأكيد في قوله: {ولا السيئة} أي في نفسها ولا بالنسبة إلى جنس آخر.
ولما أنتج هذا الحث على الإقبال على الحسن والإعراض عن السيء، وأفهم أن كلًا من القسمين متفاوت الجزئيات متعالى الدرجات، وكان الإنسان لا ينفك عن عوارض تحصل له من الناس ومن نفسه يحتاج إلى دفع بعضها، أنتج عند قصد الأعلى فقال: {ادفع} أي كل ما يمكن أن يضرك من نفسك ومن الناس {بالتي} أي الخصال والأحوال التي {هي أحسن} على قدر الإمكان من الأعمال الصالحات فالعفو عن المسيء حسن، والإحسان أحسن منه {فإذا الذي بينك وبينه عداوة} عظيمة قد ملأت ما بين البينين فاجأته حال كونه {كأنه ولي} أي قريب ما يفعل القريب {حميم} أي في غاية القرب لا يدع مهمًا إلا قضاه وسهله ويسره، وشفا علله، وقرب بعيده، وأزال درنه، كما يزيل الماء الحار الوسخ.
ولما كانت هذه الخصلة أمّا جامعًا لجميع مصالح الدين والدنيا قال منبهًا على عظيم فضلها وبديع نبلها حاثًا على الاستظلال بجميع ظلها مشيرًا بالبناء للمفعول إلى أنها هي العمدة المقصودة بالذات على وجه منبه على أنها مخالفة لجبلة الإنسان حثًا على الرغبة في طلبها من واهبها {وما يلقّاها} أي يجعل لاقيًا لهذه الخصلة التي هي مقابلة الإساءة بأحسن الحسن وهو الإحسان الذي هو أحسن من العفو والحلم والصبر والاحتمال بأن يعلق الله تعالى إرادته على وجه الشدة والمبالغة بإلقائها إليه {إلا الذين صبروا} أي وجدت منهم هذه الحقيقة وركزت في طباعهم، فصاروا يكظمون الغيظ ويحتملون المكاره، وكرر إظهار البناء للمفعول للتنبيه على أنه لا قدرة عليها أصلًا إلا بتوفيق الخالق بأمر وطني يقذفه الله في القلب قذفًا وحيًا تظهر ثمرته على سائر البدن، فقال دالًا باعادة النافي على زيادة العظم وعلى أن أصحاب هذه الخصلة على رتبتين كل رتبة منهما مقصودة في نفسها {وما يلقّاها} على ما هي عليه من العظمة {إلا} وأفرد هنا بعد جمع الصابر دلالة على ندرة المستقيم على هذه لخصلة {ذو حظ} أي نصيب وقسم وبخت {عظيم} أي جليل في الدنيا والآخرة عند الله وعند الناس.
ولما كان التقدير: فإن لقيت ذلك وأعاذك الله من الشيطان فأنت أنت، عطف عليه قوله معبرًا بأداة الشك المفهمة لجواز وقوع ذلك في الجملة، مع العلم بأنه- صلى الله عليه وسلم- معصوم إشارة إلى رتبة الإنسان من حيث هو إنسان وإلى أن الشيطان يتوهم مع علمه بالعصمة أنه يقدر على ذلك فيعلق أمله به، وكأنه لذلك أكد لأن نزغه له في محل الإنكار {وإمّا} ولما كانت وسوسة الشيطان تبعث على ما لا ينبغي، وكان العاقل لا يفعل ما لا ينبغي إلا بالالجاء، شبه المتعاطي له بالمنخوس الذي حمله النخس على ارتكاب ما يضر فقال: {ينزغنك} أي ينخسنك ويطعننك طعنًا مفسدًا فيحصل لك تألم {من الشيطان} البعيد من الرحمة المحترق باللعنة.
ولما كان المقام خطرًا لأن الطبع مساعد للوسواس، جعل النزغ نفسه نازغًا إشارة إلى ذلك فقال: {نزغ} أي وسوسة تحرك نحو الموسوس من أجله وتبعث إليه بعث المنخوس إلى الجهة التي يوجه إليها، فإن ينبعث إلى تلك الجهة بعزم عظيم {فاستعذ بالله} أي استجر بالملك الأعلى واطلب منه الدخول في عصمته مبادرًا إلى ذلك حين نخس بالنزغة فإنه لا يقدر على الإعاذة منه غيره ولا تذر النزغة تتكرر بل ارجع إلى المحيط علمًا وقدرة في أول الخطرة، فإنك إن لم تخالف أول الخطرة صارت فكرة فيحصل العزم فتقع الزلة فتصير قسوة فيحصل التمادي- نبه عليه القشيري.
ولما كانت الاستعاذة هنا من الشيطان، وكان نزغه مما يعلم لا مما يرى وكانت صفة السمع نعم ما يرى وما لا يرى، قال مؤكدًا لوقوف الجامدين مع الظواهر: {إنه هو} أي وحده {السميع} وختم بقوله: {العليم} الذي يسمع كل مسموع من استعاذتك وغيرها، ويعلم كل معلوم من نزغه وغيره، فهو القادر على رد كيده، وتوهين أمره وأيده، وليس هو كما جعلتموه له من الأنداد الصم البكم التي لا قدرة لها على شيء أصلًا.