فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والبصير: العليم بالمبصرات.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41)} أعقب تهديدهم على الإِلحاد في آيات الله على وجه العموم بالتعرض إلى إلحادهم في آيات القرآن وهو من ذكر الخاص بعد العام للتنويه بخصال القرآن وأنه ليس بعُرضَةٍ لأن يُكفر به بل هو جدير بأن يتقبل بالاقتداء والاهتداء بهديه، فلهذه الجملة اتصال في المعنى بجملة: {إن الذين يلحدون في آياتنا} [فصلت: 40] واتصال في الموقع بجملة {اعملوا ما شئتم} [فصلت: 40].
وتحديد هذين الاتصالين اختلفت فيه آراء المفسرين، وعلى اختلافهم فيهما جرى اختلافهم في موقعها من الإعراب وفي مواقع أجزائها من تصريح وتقدير.
فجعل صاحب الكشاف قوله: {إنَّ الذِين كَفَروا بالذِّكر} بدلًا من قوله: {إنَّ الذين يُلحِدُونَ في آياتنا} وهو يريد أنه إبدال المفرد من المفرد بدلًا مطابقًا أو بدل اشتمال، وأنه بتكرير العامل وهو حرف {إنَّ} وإن كانت إعادة العامل مع البدل غير مشهورة إلاّ في حرف الجر كما قال الرضيّ، فكلام الزمخشري في المفصل يقتضي الإِطلاق، وإن كان أتى بمثالين عاملهما حرف جر.
وعلى هذا القول لا يقدر خبر لأن الخبر عن المبدل منه خبر عن البدل وهو قوله: {لا يَخْفَون علينا} [فصلت: 40].
وعن أبي عمرو بن العلاء والكسائي وعمرو بن عبيد ما يقتضي أنهم يجعلون جملة: {إنَّ الذين كفروا بالذِكْر} جملة مستقلة لأنهم جعلوا ل {إن} خبرًا.
فأما أبو عمرو فقال: خبر {إن}.
قوله: {أولئك ينادون من مكان بعيد} [فصلت: 44].
حكي أن بلال بن أبي بردة سئل في مجلس أبي عمرو بن العلاء عن خبر {إن} فقال: لم أجد لها نفاذًا، فقال له أبو عمرو: إنه منك لقريب: {أولئك ينادون من مكان بعيد}.
وهو يقتضي جعل الجمل التي بين اسم إنَّ وخبرها جملًا معترضة وهي نحو سبع.
وأما الكسائي وعمرو بن عبيد فقدروا خبرًا لاسم {إن} فقال الكسائي: الخبر محذوف دل عليه قوله قبله: {أفمن يلقى في النار خير} [فصلت: 40]، فنقدر الخبر، يُلقون في النار، مثلًا.
وسأل عيسى بنُ عمر عمرو بن عبيد عن الخبر، فقال عمرو: معناه أن الذين كفروا بالذكر كفروا به وإنه لكتاب عزيز.
فقال عيسى: أجدتَ يا أبا عثمان.
ويجيء على قول هؤلاء أن تكون الجملة بدلًا من جملة: {إنَّ الذين يُلْحدون في آياتِنا} بدل اشتمال إن أريد بالآيات في قوله: في ءاياتنا مطلق الآيات، أو بدلًا مطابقًا إن أريد بالآيات آيات القرآن.
وقيل الخبر قوله: {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} [فصلت: 43]، أي ما يقال لك فيهم إلا ما قد قلنا للرسل من قبلك في مكذبيهم، أو ما يقولون إلا كما قاله الأمم للرسل من قبلك، وما بينهما اعتراض.
والكفر بالقرآن يشمل إنكار كل ما يوصف به القرآن من دلائل كونه من عند الله وما اشتمل عليه مما خالف معتقدهم ودين شركهم وذلك بالاختلافات التي يختلفونها كقولهم: سحر، وشعر، وقول كاهن، وقول مجنون، ولو نشاء لقلنا مثل هذا، وأساطير الأولين، وقلوبنا في أكنّة، وفي آذاننا وقر.
والأظهر أن تكون جملة {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالذِّكْرِ} إلخ واقعة موقع التعليل للتهديد بالوعيد في قوله: {لاَ يَخْفَونَ عَلَيْنا} [فصلت: 40].
والمعنى: لأنهم جديرون بالعقوبة إذ كفروا بالآيات، وهي آية القرآن المؤيد بالحق، وبشهادة ما أوصي إلى الرسل من قوله.
وموقع {إن} موقع فاء التعليل.
وخبر {إنّ} محذوف دل عليه سياق الكلام.
والأحسن أن يكون تقديره بما تدل عليه جملةُ الحال من جلالة الذكر ونفاسته، فيكون التقدير: خسروا الدنيا والآخرة، أو سفهوا أنفسهم أو نحو ذلك مما تذهب إليه نفس السامع البليغ، ففي هذا الحذف توفير للمعاني وإيجاز في اللفظ يقوم مقام عدة جمل، وحَذْفُ خبرِ {إنّ} إذا دل عليه دليل وارد في الكلام.
وأجازه سيبويه في باب ما يحسن السكوت عليه من هذه الأحرف الخمسة، وتبعه الجمهور، وخالفه الفراء فشرطه بتكرر {إنّ}.
ومن الحذف قوله تعالى: {إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام} الآية في سورة الحج (25)، وأنشد سيبويه:
يا ليت أيام الصبا رواجعا

إذ روي بنصب رواجعا على الحال فلم يذكر خبر ليت.
وذكر أن العرب يقولون: إنّ مالًا وإنَّ وَلَدًا أي إِنَّ لهم، وقول الأعشى:
إنَّ مَحلًا وإِنَّ مُرْتَحَلا

أي أن لنا في الدنيا حلولًا ولنا عنها مرتحلًا، إذ ليس بقية البيت وهو قوله:
وإن في السَّفر إذ مَضَوْا مَهَلا

ما يصح وقوعه خبرًا عن إنّ الأولى.
وقال جميل:
وقالوا نراها يا جميل تنكرتْ ** وغَيَّرها الواشي فقلتُ لعلَّها

وقال الجاحظ في البيان في باب من الكلام المحذوف عن الحسن: أن المهاجرين قالوا: يا رسول الله إن الأنصار آوونا ونصرونا، قال النبي صلى الله عليه وسلم تعرفون ذلك لهم، قالوا: نعم، قال: فإن ذلك ليس في الحديث غير هذا يريد فإن ذلك شكر ومكافأة. اهـ.
وفي المقامة الثالثة والأربعين حسبك يا شيخُ فقد عرفتُ فنَّك، واستبنتُ أنك أي أنك أبو زيد.
وقد مثل في شرح التسهيل لحذف خبر إنَّ بهذه الآية.
وجملة: {وَإنَّهُ لكتاب} إلخ في موضع الحال من الذِّكْر، أي كفروا به في حاله هذا، ويجوز أن تكون الجملة عطفًا على جملة: {إنَّ الذينَ كَفَروا بالذِّكْر} على تقدير خبر {إن} المحذوف.
وقد أجري على القرآن ستة أوصاف ما منها واحد إلا وهو كمال عظيم:
الوصف الأول: أنه ذِكر، أي يذكِّر الناس كلهم بما يغفلون عنه مما في الغفلة عنه فوات فوزهم.
الوصف الثاني من معنى الذكر: أنه ذكر للعرب وسُمعة حسنة لهم بين الأمم يخلد لهم مفخرة عظيمة وهو كونه بلغتهم ونزل بينهم كما قال تعالى: {وإنه لذكر لك ولقومك} [الزخرف: 44] وفي قوله: {لما جاءهم} إشارة إلى هذا المعنى الثاني.
الوصف الثالث: أنه كتاب عزيز، والعزيز النفيس، وأصله من العزة وهي المنعة لأن الشيء النفسي يدافعَ عنه ويُحمَى عن النبذ فإنه بيِّن الإِتقان وعلوِّ المعاني ووضوح الحجة ومثل ذلك يكون عزيزًا، والعزيز أيضًا: الذي يَغلب ولا يُغلب، وكذلك حجج القرآن.
الوصف الرابع: أنه لا يتطرقه الباطل ولا يخالطه صريحُه ولا ضمنيُّه، أي لا يشتمل على الباطل بحال.
فمُثِّل ذلك بِ {من بين يديه ولا من خلفه}.
والمقصود استيعاب الجهات تمثيلًا لحال انتفاء الباطل عنه في ظاهره وفي تأويله بحال طرد المهاجم ليضر بشخص يأتيه من بين يديه فإن صدّه خاتله فأتاه من خلفه، وقد تقدم في قوله تعالى: {ثم لآتِيَنّهم من بين أيديهم ومن خلفهم} [الأعراف: 17].
فمعنى: {لا يأتِيهِ الباطل} لا يوجد فيه ولا يداخله، وليس المراد أنه لا يُدعَى عليه الباطل.
الوصف الخامس: أنه مشتمل على الحكمة وهي المعرفة الحقيقية لأنه تنزيل من حكيم، ولا يصدر عن الحكيم إلا الحكمة: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا} [البقرة: 269] فإن كلام الحكيم يأتي محكمًا متقنًا رصينًا لا يشوبه الباطل.
الوصف السادس: أنه تنزيل من حميد، والحميد هو المحمود حمدًا كثيرًا، أي مستحقّ الحمد الكثير، فالكلام المنزل منه يستحق الحمد وإنما يحمد الكلام إذْ يكون دليلًا للخيرات وسائقًا إليها لا مطعن في لفظه ولا في معناه، فيحمده سامعه كثيرًا لأنه يجده مجلبة للخير الكثير، ويحمد قائله لا محالة خلافًا للمشركين.
وفي إجراء هذه الأوصاف إيماء إلى حماقة الذين كفروا بهذا القرآن وسفاهة آرائهم إذ فرطوا فيه ففرطوا في أسباب فوزهم في الدنيا وفي الآخرة ولذلك جيء بجملة الحال من الكتاب عقب ذكر تكذيبهم إياه فقال: {وَإنَّهُ لكتاب عَزِيزٌ} الآيات. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} قال ابن عباس: نزلت في الصديق، قال المشركون: ربنا الله، والملائكة بناته، وهؤلاء شفعاؤنا عنده.
واليهود: ربنا الله، والعزير ابنه، ومحمد ليس بنبي، فلم يستقيما، والصديق قال: ربنا الله وحده لا شريك له، ومحمد عبده ورسوله، فاستقام.
ولما أطنب تعالى في وعيد الكفار، أردفه بوعيد المؤمنين؛ وليس المراد التلفظ بالقول فقط، بل لابد من الاعتقاد المطابق للقول اللساني.
وبدأ أولًا بالذي هو أمكن في الإسلام، وهو العلم بربوبية الله، ثم أتبعه بالعمل الصالح، وهو الاستقامة.
وعن سفيان بن عبد الله الثقفي، قلت للنبي، صلى الله عليه وسلم: أخبرني بأمر أعتصم به، قال: «قل ربي الله ثم استقم» قلت: ما أخوف ما تخاف علي، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه وقال: «هذا» وعن الصديق: ثم استقاموا على التوحيد، لم يضطرب إيمانهم.
وعن عمر: استقاموا لله بطاعته لم يرو غواروا روغان الثعالب.
وعن عثمان: أخلصوا العمل.
وعن علي: أدوا الفرائض.
وقال أبو العالية، والسدي: استقاموا على الإخلاص والعمل إلى الموت.
وقال الثوري: عملوا على وفاق ما قالوا.
وقال الفضل: زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية.
وقال الربيع: أعرضوا عن ما سوى الله تعالى.
وقيل: استقاموا فعلا كما استقاموا قولًا.
وعن الحسن وقتادة وجماعة: استقاموا بالطاعات واجتناب المعاصي.
قال الزمخشري: وثم لتراخي الاستقامة عن الإقرار في المرتبة وفضلها عليه، لأن الاستقامة لها الشأن كله، ونحوه قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا} والمعنى: ثم ثبتوا على الإقرار ومقتضياته.
وعن الصديق رضي الله عنه أنه تلاها ثم قال: ما تقولون فيها؟ قالوا: لم يذنبوا، قال: حملتم الأمر على أشده، قالوا: فما تقول؟ قال لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان. انتهى.
{تتنزل عليهم الملائكة}، قال مجاهد والسدي: عند الموت.
وقال مقاتل: عند البعث.
وقيل: عند الموت، وفي القبر، وعند البعث.
وأن ناصبة للمضارع، أي بانتفاء خوفكم وحزنكم، قال معناه الحوفي وأبو البقاء.
وقال الزمخشري: بمعنى أي أو المخففة من الثقيلة، وأصله بأنه لا تخافوا، والهاء ضمير الشأن. انتهى.
وعلى هذين التقديرين يكون الفعل مجزومًا بلا الناهية، وهذه آية عامة في كل هم مستأنف وتسلية تامة عن كل فائت ماض، ولذلك قال مجاهد: لا تخافوا ما تقدرون عليه، ولا تحزنوا على ما خلفتم من دنياكم.
وقال عطاء بن أبي رباح: {لا تخافوا} رد ثوابكم، فإنه مقبول؛ {ولا تحزنوا} على ذنوبكم، فإني أغفرها لكم.
وفي قراءة عبد الله: {لا تخافوا}، بإسقاط أن، أي تتنزل عليهم الملائكة قائلين: لا تخافوا ولا تحزنوا.
ولما كان الخوف مما يتوقع من المكروه أعظم من الحزن على الفائت قدمه، ثم لما وقع الأمن لهم، بشروا بما يؤولون إليه من دخول الجنة، فحصل لهم من الأمن التام والسرور العظيم بما سيفعلون من الخير.
{نحن أوليائكم}: الظاهر أنه من كلام الملائكة، أي يقولون لهم.
وفي قراءة عبد الله: يكون من جملة المقول قبل، أي نحن كنا أولياءكم في الدنيا، ونحن أولياؤكم في الآخرة.
لما كان أولياء الكفار قرناؤهم من الشياطين، كان أولياء المؤمنين الملائكة.
وقال السدي: نحن حفظتكم في الدنيا، وأولياؤكم في الآخرة.
وقيل: {نحن أوليائكم} من كلام الله تعالى، أولياؤكم بالكفاية والهداية، {ولكم فيها}: الضمير عائد على الآخرة، قاله ابن عطية.
وقال الحوفي: على الجنة، {ما تشتهي أنفسكم} من الملاذ، {ولكم فيها ما تدعون}.
قال مقاتل: ما تتمنون.
وقيل: ما تريدون.
وقال ابن عيسى: ما تدعي أنه لك، فهو لك بحكم ربك.
قال ابن عطية: ما تطلبون.
{نزلًا من غفور رحيم} النزل: الرزق المقدم للنزيل وهو الضيف، قال معناه ابن عطاء، فيكون نزلًا حالًا، أي تعطون ذلك في حال كونه نزولًا لا نزلًا، وجعله بعضهم مصدرًا لأنزل.
وقيل نزل جمع نازل، كشارف وشرف، فينتصب على الحال، أي نازلين، وذو الحال الضمير المرفوع في يدعون.
وقال الحسن: معنى نزلًا منا، وقيل: ثوابًا.
وقرأ أبو حيوة: {نزلًا} بإسكان الزاي.
ولما تقدم قوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا}، ذكر من دعا إلى ذلك فقال: {ومن أحسن قولًا}: أي لا أحد أحسن قولًا ممن يدعو إلى توحيد الله، ويعمل العمل الصالح، ويصرح أنه من المستسلمين لأمر الله المنقادين له، والظاهر العموم في كل داع إلى الله، وإلى العموم ذهب الحسن ومقاتل وجماعة.
وقيل بالخصوص، فقال ابن عباس: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعا إلى الإسلام، وعمل صالحًا فيما بينه وبين ربه، وجعل الإسلام نحلة.