فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: {إِنَّ رَبَّكَ} كلام مبتدأ وما قبله كلام تام إذا كان الخبر مضمرًا.
وقيل: هو متصل ب {مَّا يُقَالُ لَكَ}.
{إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} أي إنما أمرت بالإنذار والتبشير.
قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أعْجَمِيًّا لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أعْجَمِيًّا} أي بلغة غير العرب {لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} أي بينت بلغتنا فإننا عرب لا نفهم الأعجمية.
فبيّن أنه أنزله بلسانهم ليتقرّر به معنى الإعجاز؛ إذ هم أعلم الناس بأنواع الكلام نظمًا ونثرًا.
وإذا عجزوا عن معارضته كان من أدل الدليل على أنه من عند الله، ولو كان بلسان العجم لقالوا لا علم لنا بهذا اللسان.
الثانية: وإذا ثبت هذا ففيه دليل على أن القرآن عربي، وأنه نزل بلغة العرب، وأنه ليس أعجميًا، وأنه إذا نقل عنها إلى غيرها لم يكن قرآنًا.
الثالثة: قوله تعالى: {ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي {اَاَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيُّ} بهمزتين مخففتين، والعجميّ الذي ليس من العرب كان فصيحًا أو غير فصيح، والأعجمي الذي لا يفصح كان من العرب أو من العجم.
فالأعجم ضدّ الفصيح وهو الذي لا يبين كلامه.
ويقال للحيوان غير الناطق أعجم، ومنه «صلاة النهار عجماء» أي لا يجهر فيها بالقراءة فكانت النسبة إلى الأعجم آكد، لأن الرجل العجمي الذي ليس من العرب قد يكون فصيحًا بالعربية، والعربيّ قد يكون غير فصيح؛ فالنسبة إلى الأعجميّ آكد في البيان.
والمعنى أقرآن أعجميّ، ونبيّ عربي؟ وهو استفهام إنكار.
وقرأ الحسن وأبو العالية ونصر بن عاصم والمغيرة وهشام عن ابن عامر {أَعْجَمِيٌّ} بهمزة واحدة على الخبر.
والمعنى {لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} فكان منهم عربيّ يفهمه العرب، وأعجمي يفهمه العجم.
وروى سعيد بن جبير قال: قالت قريش: لولا أنزل القرآن أعجميًا وعربيًا فيكون بعض آياته عجميًا وبعض آياته عربيًا فنزلت الآية.
وأنزل في القرآن من كل لغة فمنه السجِّيل وهي فارسية وأصلها سنك كيل؛ أي طين وحجر، ومنه الفِرْدَوْس رومية وكذلك القِسْطَاس وقرأ أهل الحجاز وأبو عمرو وابن ذكوان وحفص على الاستفهام، إلا أنهم ليَّنُوا الهمزة على أصولهم والقراءة الصحيحة قراءة الاستفهام والله أعلم.
قوله تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَاءٌ} أعلم الله أن القرآن هدى وشفاء لكل من آمن به من الشك والريب والأوجاع.
{والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ} أي صمم عن سماع القرآن.
ولهذا تواصَوْا باللغو فيه.
ونظير هذه الآية: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَارًا} [الإسراء: 82] وقد مضى مستوفى.
وقراءة العامة {عَمًى} على المصدر.
وقرأ ابن عباس وعبد الله بن الزبير وعمرو بن العاص ومعاوية وسليمان بن قَتَّة {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمٍ} بكسر الميم أي لا يتبين لهم.
واختار أبو عبيدة القراءة الأولى؛ لإجماع الناس فيها؛ ولقوله أوّلًا: {هُدًى وَشِفَاءٌ} ولو كان هادٍ وشافٍ لكان الكسر في {عَمًى} أجود؛ ليكون نعتًا مثلهما؛ تقديره: {وَالَّذِينَ لاَ يُوْمِنُونَ} في ترك قبوله بمنزلة من في آذانهم {وَقْرٌ وَهُوَ} يعني القرآن {عَلَيْهِمْ} ذو عمى، لأنهم لا يفقهون فحذف المضاف.
وقيل المعنى والوقر عليهم عمى.
{أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} يقال ذلك لمن لا يفهم من التمثيل.
وحكى أهل اللغة أنه يقال للذي يفهم: أنت تسمع من قريب.
ويقال للذي لا يفهم: أنت تنادَى من بعيد.
أي كأنه ينادى من موضع بعيد منه فهو لا يسمع النداء ولا يفهمه.
وقال الضحاك: {يُنَادَوْنَ} يوم القيامة بأقبح أسمائهم {مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} فيكون ذلك أشد لتوبيخهم وفضيحتهم.
وقيل: أي من لم يتدبر القرآن صار كالأعمى الأصم، فهو ينادى من مكان بعيد فينقطع صوت المنادي عنه وهو لم يسمع.
وقال علي رضي الله عنه ومجاهد: أي بعيد من قلوبهم.
وفي التفسير: كأنما ينادون من السماء فلا يسمعون.
وحكى معناه النقاش.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب} يعني التوراة {فاختلف فِيهِ} أي آمن به قوم وكذب به قوم.
والكناية ترجع إلى الكتاب، وهو تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي لا يحزنك اختلاف قومك في كتابك، فقد اختلف من قبلهم في كتابهم.
وقيل: الكناية ترجع إلى موسى.
{وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} أي في إمهالهم.
{لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي بتعجيل العذاب.
{وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ} من القرآن {مُرِيبٍ} أي شديد الريبة.
وقد تقدّم.
وقال الكلبي في هذه الآية: لولا أن الله أخّر عذاب هذه الأمة إلى يوم القيامة لأتاهم العذاب كما فعل بغيرهم من الأمم.
وقيل: تأخير العذاب لما يخرج من أصلابهم من المؤمنين.
قوله تعالى: {مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} شرط وجوابه وكذا {وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}.
والله جل وعز مستغن عن طاعة العباد، فمن أطاع فالثواب له، ومن أساء فالعقاب عليه.
{وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} نَفَى الظلم عن نفسه جل وعز قليله وكثيره، وإذا انتفت المبالغة انتفى غيرها، دليله قوله الحق: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئًا} [يونس: 44] وروى العدول الثقات، والأئمة الأثبات، عن الزاهد العدل، عن أمين الأرض، عن أمين السماء، عن الرب جل جلاله: «يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّما فلا تظالموا» الحديث.
وأيضًا فهو الحكيم المالك، وما يفعله المالك في ملكه لا اعتراض عليه؛ إذ له التصرف في ملكه بما يريد. اهـ.

.قال الألوسي:

{مَّا يُقَالُ لَكَ} إلى آخره.
تسلية له صلى الله عليه وسلم عما يصيبه من أذية الكفار من طعنهم في كتابه وغير ذلك فالقائل الكفار أي ما يقول كفار قومك في شأنك وشأن ما أنزل إليك من القرآن {إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ} أي مثل ما قد قال الكفرة السابقون {لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ} من الكلام المؤذي المتضمن للطعن فيما أنزل إليهم، وهذا نظير قوله تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ ساحر أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات: 52].
وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} قيل: تعليل لما يستفاد من السياق من الأمر بالصبر كأنه قيل: ما يقال لك إلا نحو ما قيل لأمثالك من الرسل فاصبر كما صبروا إن ربك لذو مغفرة عظيمة لأوليائه وذو عقاب أليم لأعدائهم فينصر أولياءه وينتقم من أعدائهم، أو جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ثم ماذا؟ فقيل: إن ربك لذو مغفرة لأوليائه وذو عقاب أليم لأعدائهم وقد نصر لذلك من قبلك من الرسل عليهم السلام وانتقم من أعدائهم وسيفعل ذلك بك وبأعدائك أيضًا، وجوز أن يكون القائل هو الله تعالى والمعنى على ما سمعت عن أبي حيان وقد جعل هذه الجملة خبر {إن} أي ما يوحي الله تعالى إليك في شأن الكفار المؤذين لك إلا مثل ما أوحى للرسل من قبلك في شأن الكفار المؤذين لهم من أن عاقبتهم سيئة في الدنيا بالهلاك وفي الآخرة بالعذاب الأليم فاصبر إن ربك الخ، وقد يجعل {إِنَّ رَبَّكَ} إلخ باعتبار مضمونه تفسيرًا للمقول فحاصل المعنى ما أوحى إليك وإلى الرسل إلا وعد المؤمنين بالمغفرة والكافرين بالعقوبة دون العكس الذي يزعمه الكفرة بلسان حالهم فاصبر فسينجز الله تعالى وعده، وقيل: المقول هو الشرائع أي ما يوحي إليك إلا مثل ما أوحي إلى الرسل من الشرائع دون أمور الدنيا وقد جرت عادة الكفار بتكذيب ذلك فما عليك إذا كذب كفار قومك واصبر على ذلك، وجعل {إِنَّ رَبَّكَ} إلخ تعليلًا لما يستفاد من السياق أيضًا، وجعله بعضهم تفسيرًا لذلك المقول أعني الشرائع لأنها الأوامر والنواهي الإلهية وهي مجملة فيه، وفيه من البعد ما فيه، وإلى نحو ما ذكرناه أولًا ذهب قتادة أخرح ابن أبي حاتم عنه أنه قال في الآية: {مَّا يُقَالُ لَكَ} من التكذيب {إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ} فكما كذبوا كذبت وكما صبروا على أذى قومهم لهم فاصبر على أذى قومك لك، واختيار {أَلِيمٌ} على شديد مع أنه أنسب بالفواصل للإيماء إلى أن نظم القرآن ليس كالأسجاع والخطب وأن حسنه ذاتي والنظر فيه إلى المعاني دون الألفاظ، ويحسن وصف العقاب به هنا كون العقاب جزاء التكذيب المؤلم.
{وَلَوْ جعلناه قُرْءانًا أعْجَمِيًّا} جواب لقولهم: هلا أنزل القرآن بلغة العجم، والضمير للذكر {لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصّلَتْ ءاياته} أي بينت لنا وأوضحت بلسان نفقهه، وقوله تعالى: {ءاعْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ} بهمزتين الأولى للاستفهام والثانية همزة أعجمي والجمهور يقرؤون بهمزة استفهام بعدها مدة هي همزة أعجمي إنكار مقرر للتحضيض أي أكلام أعجمي ورسول أو مرسل إليه عربي، وحاصله أنه لو نزل كما يريدون لأنكروا أيضًا وقالوا مالك وللعجمة أو مالنا وللعجمة، والأعجمي أصله أعجم بلا ياء ومعناه من لا يفهم كلامه للكنته أو لغرابة لغته وزيدت الياء للمبالغة كما في أحمري ودواري وأطلق على كلامه مجازًا لكنه اشتهر حتى التحق بالحقيقة، وزعم صاحب اللوامح أن الياء فيه بمنزلة ياء كرسي وهو وهم، وقيل: {عَرَبِىٌّ} على احتمال أن يكون المراد ومرسل إليه عربي مع أن المرسل إليهم جمع فحقه أن يقال: عربية أو عربيون لأن المراد بيان التنافي والتنافر بين الكلام وبين المخاطب به لا بيان كون المخاطب به واحدًا أو جمعًا، ومن حق البليغ أن يجرد الكلام للدلالة على ما ساقه له ولا يأتي بزائد عليه إلا ما يشد من عضده فإذا رأى لباسًا طويلًا على امرأة قصيرة قال: اللباس طويل واللابس قصير دون واللابسة قصيرة لأن الكلام لم يقع في ذكورة اللابس وأنوثته فلو قال لخيل إن لذلك مدخلًا فيما سيق له الكلام، وهذا أصل من الأصول يجب أن يكون على ذكر، ويبنى عليه الحذف والإثبات والتقييد والإطلاق إلى غير ذلك في كلام الله تعالى وكل كلام بليغ.
وقرأ عمرو بن ميمون {أَعْجَمِىٌّ} بهمزة استفهام بفتح العين أي أكلام منسوب إلى العجم وهم من عدا العرب وقد يخص بأهل فارس ولغتهم العجمية أيضًا فبين الأعجمي والعجمي عموم وخصوص من وجه، والظاهر أن المراد بالعربي مقابل الأعجمي في القراءة المشهورة ومقابله العجمي في القراءة الأخرى.
وقرأ الحسن وأبو الأسود والجحدري وسلام والضحاك وابن عباس وابن عامر بخلاف عنهما {أَعْجَمِىٌّ} بلا استفهام وبسكون العين على أن الكلام إخبار بأن القرآن أعجمي والمتكلم به أو المخاطب عربي.
وجوز أن يكون المراد هلا فصلت آياته فجعل بعضها أعجميًا لإفهام العجم وبعضها عربيًا لإفهام العرب وروي هذا عن ابن جبير فالكلام بتقدير مبتدأ هو بعض أي بعضها أعجمي وبعضها عربي، والمقصود به من الجملة الشرطية إبطال مقترحهم وهو كونه بلغة العجم باستلزامه المحذور وهو فوات الغرض منه إذ لا معنى لإنزاله أعجميًا على من لا يفهمه أو الدلالة على أنهم لا ينفكون عن التعنت فإذا وجدت الأعجمية طلبوا أمرًا آخر وهكذا.
{قُلْ} ردًا عليهم {هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى} يهدي إلى الحق {وَشِفَاء} لما في الصدور من شك وشبهة {والذين لاَ يُؤْمِنُونَ} مبتدأ خبره {فِى ءاذَانِهِمْ} على أن {يَرْجِعُونَ أَوْ كَصَيّبٍ} و{وَقْرٌ} فاعل الظرف، أي مستقر في آذانهم وقر أي صمم منه فلا يسمعونه، وقيل: خبر الموصول {فِى ءاذَانِهِمْ} و{وَقْرٌ} فاعل الظرف، وقيل: {وَقْرٌ} خبر مبتدأ محذوف تقديره هو أي القرآن و{أَوْ كَصَيّبٍ} متعلق بمحذوف وقع حالًا من {وَقْرٌ}.
ورجح بأنه أوفق بقوله تعالى: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} ومن جوز العطف على معمولي عاملين عطف الموصول على الموصول الأول و{وَقْرٌ} على {هُدًى} على معنى هو للذين آمنوا هدى وللذين لا يؤمنون وقر، وقوله تعالى: {فِى ءاذَانِهِمْ} ذكر بيانًا لمحل الوقر أو حال من الضمير في الظرف الراجع إلى {وَقْرٌ} والأول أبلغ؛ ويرد عليه بعد الإغماض عما في جواز العطف المذكور من الخلاف أن فيه تنافرًا بجعل القرآن نفس الوقر لاسيما وقد ذكر محله وليس كجعله نفس العمى لأنه يقابل جعله نفس الهدى فروعي الطباق ولذا لم يبين محله، وأما الوقر إذا جعل نفس الكتاب فهو كالدخيل ولم يطابق ما ورد في سائر المواضع من التنزيل، وهذا يرد على الوجه الذي قبله أيضًا، وجوز ابن الحاجب في الأمالي أن يكون {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} مرتبطًا بقوله سبحانه: {هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء} والتقدير هو للذين آمنوا هدى وعلى الذين لا يؤمنون عمى، وقوله تعالى: {والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في ءاذَانِهِمْ وَقْرٌ} جملة معترضة على الدعاء، وتعقب بأن هذا وإن جاز من جهة الإعراب لكنه من جهة المعاني مردود لفك النظم، وزعم بعضهم أن ضمير {هُوَ} عائد على الوقر وهو من العمى كما ترى.
وأولى الأوجه ما تقدم وجىء بعلى في {عَلَيْهِمْ عَمًى} للدلالة على استيلاء العمى عليهم، ولم يذكر حال القلب لما علم من التعريض في قوله سبحانه: {لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء} بأنه لغيرهم مرض فظيع {أولئك} إشارة إلى الموصول الثاني باعتبار اتصافه بما في حيز صلته وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الشر مع ما فيه من كمال المناسبة للنداء من مكان بعيد أي أولئك البعداء الموصوفون بما ذكر من التصام عن الحق الذي يسمعونه والتعامي عن الآيات التي يشاهدونها {يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} تمثيل لهم في عدم فهمهم وانتفاعهم بما دعوا له بمن ينادي من مسافة نائية فهو يسمع الصوت ولا يفهم تفاصيله ولا معانيه أو لا يسمع ولا يفهم، فقد حكى أهل اللغة أنه يقال للذي لا يفهم: أنت تنادي من بعيد، وإرادة هذا المعنى مروية عن علي كرم الله تعالى وجهه ومجاهد، وعن الضحاك أن الكلام على حقيقته وأنهم يوم القيامة ينادون بكفرهم وقبيح أعمالهم بأقبح أسمائهم من بعد حتى يسمع ذلك أهل الموقف فتعظم السمعة عليهم وتحل المصائب بهم، وحاصل الرد أنه هاد للمؤمنين شاف لما في صدورهم كاف في دفع الشبه فلذا ورد بلسانهم معجزًا بينًا في نفسه مبينًا لغيره والذين لا يؤمنون بمعزل عن الانتفاع به على أي حال جاءهم.
وقرأ ابن عمر وابن عباس وابن الزبير ومعاوية وعمرو بن العاص وابن هرمز {عَمَّ} بكسر الميم وتنوينه، وقال يعقوب القاري وأبو حاتم: لا ندري نونوا أم فتحوا الياء على أنه فعل ماض، وبغير تنوين رواها عمرو بن دينار وسليمان بن قتيبة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب فاختلف فِيهِ} كلام مستأنف مسوق لبيان أن الاختلاف في شأن الكتب عادة قديمة للأمم غير مختص بقومك على منهاج قوله تعالى: {مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ} [فصلت: 43] على ما سمعت أولًا أي وبالله لقد آتينا موسى التوراة فاختلف فيها فمن مصدق لها ومكذب وهكذا حال قومك في شأن ما آتيناك من القرآن فمن مؤمن به وكافر {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ} في حق أمتك المكذبة وهي العدة بتأخير عذابهم وفصل ما بينهم وبين المؤمنين من الخصومة إلى يوم القيامة بنحو قوله تعالى: {بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ} [القمر: 46] وقوله سبحانه: {ولكن يُؤَخِرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى} [النحل: 61] {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} باستئصال المكذبين كما فعل بمكذبي الأمم السالفة {وَإِنَّهُمْ} أي كفار قومك {لَفِى شَكّ مّنْهُ} أي من القرآن {مُرِيبٍ} موجب للقلق والاضطراب، وقيل: الضمير الثاني للتوراة والأول لليهود بقرينة السياق لأنهم الذين اختلفوا في كتاب موسى عليه السلام وليس بشيء.
{مَّنْ عَمِلَ صالحا} بأن آمن بالكتب وعمل بموجبها {فَلِنَفْسِهِ} أي فلنفسه يعمله أو فلنفسه نفعه لا لغيره، و{مِنْ} يصح فيها الشرطية والموصولية وكذا في قوله تعالى: {وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا} ضره لا على الغير {وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ} اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله مبني على تنزيل ترك إثابة المحسن بعمله أو إثابة الغير بعمله وتنزيل التعذيب بغير إساءة أو بإساءة غيره منزلة الظلم الذي يستحيل صدوره عنه تعالى ولم يحتج بعضهم إلى التنزيل، وقد مر الكلام في ذلك وفي توجيه النفي والمبالغة فتذكر. اهـ.