فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} استئناف بياني جواب لسؤال يثيره قوله: {إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا} [فصلت: 40]، وقوله: {إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم} [فصلت: 41] وما تخلل ذلك من الأوصاف فيقول سائل: فما بال هؤلاء طعنوا فيه؟ فأجيب بأن هذه سنة الأنبياء مع أممهم لا يعدمون معاندين جاحدين يكفرون بما جاءوا به.
وإذا بنيت على ما جوزته سابقًا أن يكون جملة: {مَّا يُقَالُ} خبر {إنّ} [فصلت: 41] كانت خبرًا وليست استئنافًا.
وهذا تسلية للنبيء بطريق الكناية وأمر له بالصبر على ذلك كما صبر من قبله من الرسل بطريق التعريض.
ولهذا الكلام تفسيران:
أحدهما: أن ما يقوله المشركون في القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم هو دأب أمثالهم المعاندين من قَبلهم فما صدقُ {مَا قَدْ قِيلَ للِرُّسُلِ} هو مقالات الذين كذبوهم، أي تشابهت قلوب المكذبين فكانت مقالاتهم متماثلة قال تعالى: {أتواصوا به} [الذاريات: 53].
التفسير الثاني: ما قُلنا لك إلا ما قلناه للرسل من قبلك، فأنت لم تكن بدعًا من الرسل فيكون لقومك بعض العذر في التكذيب ولكنهم كذبوا كما كذب الذين من قبلهم، فمَا صدقُ: {مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسل} هو الدين والوحي فيكون من طريقة قوله تعالى: {إن هذا لفي الصحف الأولى} [الأعلى: 18].
وكلا المعنيين وارد في القرآن فيحمل الكلام على كليهما.
وفي التعبير ب {ما} الموصولة وفي حذف فاعل القولين في قوله: {مَّا يُقَالُ} وقوله: {مَا قَدْ قِيلَ} نظم متين حمَّل الكلام هذين المعنيين العظيمين، وفي قوله: {إلاَّ ما قَدْ قِيل للرسل} تشبيه بليغ.
والمعنى: إلا مثل ما قد قيل للرسل.
واجتلاب المضارع في {مَا يُقَال} لإِفادة تجدد هذا القول منهم وعدم ارعوائهم عنه مع ظهور ما شأنه أن يصدهم عن ذلك.
واقتران الفعل ب {قد} لتحقيق أنه قد قيل للرسل مثل ما قال المشركون للرسول صلى الله عليه وسلم فهو تأكيد للازم الخبر وهو لزوم الصبر على قولهم.
وهو منظور فيه إلى حال المردود عليهم إذ حسبوا أنهم جابهوا الرسول بما لم يخطر ببال غيرهم، وهذا على حد قوله تعالى: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون} [الذاريات: 52، 53].
{قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ وَذُو عِقَابٍ} تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ووعد بأن الله يغفر له.
ووقوع هذا الخبر عقب قوله: {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} يومىء إلى أن هذا الوعد جزاء على ما لقيه من الأذى في ذات الله وأن الوعيد للذين آذوه، فالخبر مستعمل في لازمه.
ومعنى المغفرة له: التجاوز عما يلحقه من الحزن بما يسمع من المشركين من أذى كثير.
وحرف {إنَّ} فيه لإِفادة التعليل والتسبب لا للتأكيد.
وكلمة {ذو} مؤذنة بأن المغفرة والعقاب كليهما من شأنه تعالى وهو يضعهما بحكمته في المواضع المستحقة لكل منهما.
ووصف العقاب ب {أَلِيمٍ} دون وصف آخر للاشارة إلى أنه مناسب لما عوقبوا لأجله فإنهم آلموا نفس النبي صلى الله عليه وسلم بما عصوا وآذوا.
وفي جملة: {إنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرة وَذُو عِقَاببٍ ألِيم} مُحسِّن الجمع ثم التقسيم، فقوله: {ما يقال لك} يجمع قائلًا ومقولًا له فكان الإِيماء بوصف ذو مغفرة إلى المقول له، ووصف {ذو عقاب أليم} إلى القائلين، وهو جار على طريقة اللف والنشر المعكوس وقرينة المقام ترد كُلًا إلى مناسبه.
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} اتصال نظم الكلام من أول السورة إلى هنا وتناسب تنقلاته بالتفريع والبيان والاعتراض والاستطراد يقتضي أن قوله: {ولو جعلناه قرآنًا أعجميًا لقالوا} إلى آخره تنقُّلٌ في دَرجَ إثبات أن قصدهم العناد فيما يتعللون به ليواجهوا إعراضهم عن القرآن والانتفاع بهديه بما يختلقونه عليه من الطعن فيه والتكذيببِ به، وتكلّفُ الأعذار الباطلة ليتستروا بذلك من الظهور في مظهر المنهزم المحجوج، فأخَذ يَنقض دعاويهم عُروة عُروة، إذْ ابتدئت السورة بتحدِّيهم بمعجزة القرآن بقوله: {حم تَنزِيلٌ مِنَ الرحمن الرَّحِيممِ كتاب فُصِّلَتْ ءاياته قُرءَانًا عَرَبِيًا} إلى قوله: {فهم لا يسمعون} [فصلت: 1 4] فهذا تحدَ لهم ووصف للقرآن بصفة الإِعجاز.
ثم أخذَ في إبطال معاذيرهم ومطاعنهم بقوله: {وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه} [فصلت: 5]، فإن قولهم ذلك قصدوا به أن حجة القرآن غير مقنعة لهم إغاظة منهم للنبيء صلى الله عليه وسلم ثم تَمالُئهم على الأعراض بقوله: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} [فصلت: 26] وهو عجز مكشوف بقوله: {إن الذين يلحدون في ءاياتنا لا يَخْفَون علينا} [فصلت: 40] وبقوله: {إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم} [فصلت: 41] الآيات.
فأعقبها بأوصاف كمال القرآن التي لا يجدون مطعنًا فيها بقوله: {وإنه لكتاب عزيز} [فصلت: 41] الآية.
وإذ قد كانت هذه المجادلات في أول السورة إلى هنا إبطالًا لتعللاتهم، وكان عماده على أن القرآن عربي مفصَّل الدلالةِ المعروفةِ في لغتهم حسبما ابتدىء الكلام بقوله: {كتاب فُصِّلَتْ ءاياته قُرءانًا عربيًا لِقَوْممٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 3] وانْتُهي هنا بقوله: {وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} [فصلت: 41، 42]، فقد نهضت الحجة عليهم بدلالته على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الجهة فانتقل إلى حجة أخرى عمادها الفرضُ والتقديرُ أن يكون قد جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقرآن من لغة أخرى غير لغة العرب.
ولذلك فجملة: {ولو جعلناه قرءانًا أعجميًا} معطوفة على جملة: {وإنه لكتاب عزيز} [فصلت: 41] على الاعتبارين المتقدمين آنفًا في موقع تلك الجملة.
ومعنى الآية متفرع على ما يتضمنه قوله: {كتاب فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْءانًا عربيًا لِقَوم يعلمون} [فصلت: 3] وقوله: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحَى إلي} [الكهف: 110] من التحدِّي بصفة الأمية كما علمت آنفًا، أي لو جئناهم بلون آخر من معجزة الأمية فأنزلنا على الرسول قُرآنًا أعجميًا، وليس للرسول صلى الله عليه وسلم علم بتلك اللغة من قبل، لقلبوا معاذيرهم فقالوا: لولا بُينت آياتُه بلغة نفهمها وكيف يخاطِبنا بكلام أعجمي.
فالكلام جار على طريقة الفرض كما هو مقتضى حرف {لو} الامتناعية.
وهذا إبانة على أن هؤلاء القوم لا تجدي معهم الحجة ولا ينقطعون عن المعاذير لأن جدالهم لا يريدون به تطلب الحق وما هو إلا تعنت لترويج هواهم.
ومن هذا النوع في الاحتجاج قوله تعالى: {ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين} [الشعراء: 198، 199]، أي لو نزلناه بلغة العرب على بعض الأعجمين فقرأه عليهم بالعربية، لاشتراك الحجتين في صفة الأمية في اللغة المفروضضِ إنزالُ الكتاب بها، إلا أن تلك الآية بينت على فرض أن ينزل هذا القرآن على رسولٍ لا يعرف العربية، وهذه الآية بنيت على فرض أن ينزل القرآن على الرسول العربي صلى الله عليه وسلم بلغة غير العربية.
وفي هذه الآية إشارة إلى عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم للعرب والعجم فلم يكن عجبًا أن يكون الكتاب المنزل عليه بلغة غير العرب لولا أن في إنزاله بالعربية حكمةً علمها الله، فإن الله لما اصطفى الرسول صلى الله عليه وسلم عربيًا وبعثه بين أمة عربية كان أحقُّ اللغات بأن ينزل بها كتابه إليه العربية، إذ لو نزل كتابه بغير العربية لاستوت لغات الأمم كلها في استحقاق نزول الكتاب بها فأوقع ذلك تحاسدًا بينها لأن بينهم من سوابق الحوادث في التاريخ ما يثير الغيرة والتحاسد بينهم بخلاف العرب إذ كانوا في عزلة عن بقية الأمم، فلا جرم رُجحت العربية لأنها لغة الرسول صلى الله عليه وسلم ولغة القوم المرسل بينهم فلا يستقيم أن يبقى القوم الذين يدعوهم لا يفقهون الكتاب المنزل إليهم.
ولو تعددت الكتب بعدد اللغات لفاتت معجزة البلاغة الخاصة بالعربية لأن العربية أشرف اللغات وأعلاها خصائص وفصاحة وحسنَ أداء للمعاني الكثيرة بالألفاظ الوجيزة.
ثم العرب هم الذين يتولون نشر هذا الدين بين الأمم وتبيين معاني القرآن لهم.
ووقع في تفسير الطبري عن سعيد بن جبير أنه قال: قالت قريش: لولا أنزل هذا القرآن أعجميًا وعربيًا؟ فأنزل الله: {لَوْلاَ فُصِّلَتْ ءاياته أعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} بهمزة واحدة على غير مذهب الاستفهام. اهـ.
ولا أحسب هذا إلا تأويلًا لسعيد بن جبير لأنه لم يسنده إلى راو، ولم يرو عن غيره فرأى أن الآية تنبىء عن جواب كلام صدر عن المشركين المعبر عنهم بضمير {لَّقَالُوا}.
وسياق الآية ولفظها ينبو عن هذا المعنى، وكيف و{لو} الامتناعية تمتنع من تحمل هذا التأويل وتدفعه.
وأما ما ذكره في الكشاف: أنهم كانوا لتعنتهم يقولون: هلا نزل القرآن بلغة العجم؟ فقيل: لو كان كما يقترحون لم يتركوا الاعتراض والتعنت، وقالوا: لولا فصّلت آياته الخ.
فلم نقف على من ذكر مثله من المفسرين وأصحاب أسباب النزول وما هو إلا من صنف ما روي عن سعيد.
ولو كان كذلك لكان نظم الآية: وقالوا لولا فصلت آياته، ولم يكن على طريقة {لو} وجوابها.
ولا يظن بقريش أن يقولوا ذلك إلا إذا كان على سبيل التهكم والاستهزاء.
وضمير {جعلناه} عائد إلى {الذكر} في قوله: {إنَّ الذِينَ كَفَرُوا بالذِّكْرِ} [فصلت: 41].
وقوله: {أعجمِيٌّ وعَرَبِيٌّ} بقية ما يقولونه على فرض أن يُجعل القرآن أعجميًا، أي أنهم لا يخلون من الطعن في القرآن على كل تقدير.
و{لولا} حرف تحضيض.
ومعنى: {فُصِّلَتْ} هنا: بيِّنت ووضِّحت، أي لولا جعلت آياته عربية نفهمها.
والواو في قوله: {وَعَرَبِيٌّ} للعطف بمعنى المعية.
والمعنى: وكيف يلتقي أعجمي وعربي، أي كيف يكون اللفظ أعجميًا والمخاطب به عربيًا كأنهم يقولون: أيلقى لفظ أعجمي إلى مخاطب عربي.
ومعنى: {قوآنًا} كتابًا مقروءًا.
وورد في الحديث تسمية كتاب داود عليه السلام قرآنًا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «إن داود يُسّر له القرآن فكان يقرأ القرآن كله في حين يسرج له فرسه» أو كما قال.
والأعجمي: المنسوب إلى أعجم، والأعجم مشتق من العجمة وهي الإِفصاح، فالأعجم: الذي لا يفصح باللغة العربية، وزيادة الياء فيه للوصف نحو: أحمري ودَوّاري.
فالأعجمي من صفات الكلام.
وأفرد {وَعَرَبِيٌّ} على تأويله بجنس السامع، والمعنى: أكتاب عربي لسامعين عرب فكان حق {عربي} أن يجمع ولكنه أفرد لأن مبنى الإِنكار على تنافر حالتي الكتاب والمرسل إليهم، فاعتبر فيه الجنس دون أن ينظر إلى إفراد، أو جمع.
وحاصل معنى الآية: أنها تؤذن بكلام مقدر داخل في صفات الذِّكْر، وهو أنه بلسان عربي بلغتكم إتمامًا لهديكم فلم تؤمنوا به وكفرتم وتعللتم بالتعلّلات الباطلة فلو جعلناه أعجميًا لقلتم: هلا بينت لنا حتى نفهمه.
هذا جواب تضمنه قوله: {ما يُقَالُ لَكَ إلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُللِ مِن قَبْلِكَ وَعَرَبِىٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى وَشِفَاءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ} [فصلت: 43]، أي ما يقال من الطعن في القرآن، فجوابه: أن ذلك الذكر أو الكتاب للذين آمنوا هدى وشفاء، أي أن تلك الخصال العظيمة للقرآن حَرَمَهم كُفْرُهم الانتفاع بها وانتفع بها المؤمنون فكان لهم هديًا وشفاء.
وهذا ناظر إلى ما حكاه عنهم من قولهم: {قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر} [فصلت: 5]، فهو إلزام لهم بحكم على أنفسهم.
وحقيقة الشفاء: زوال المرض وهو مستعار هنا للبصارة بالحقائق وانكشاف الالتباس من النفس كما يزول المرض عند حصول الشفاء، يقال: شُفيتْ نفسه، إذا زال حَرجه، قال قيس بن زهير:
شَفَيْتُ النفسَ من حَمَللِ بننِ بدر ** وسيفي من حُذيفة قد شفاني

ونظيره قولهم: شُفي غليله، وبرد غليله، فإن الكفر كالداء في النفس لأنه يوقع في العذاب ويبعث على السيئات.