فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وجملة: {وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} إلخ معطوفة على جملة: {هُوَ للذِينَ ءامَنُوا هُدًى} فهي مستأنفة استئنافًا ابتدائيًا، أي وأما الذين لا يؤمنون فلا تتخلل آياته نفوسَهم لأنهم كمن في آذانهم وقر دون سماعه، وهو ما تقدم في حكاية قولهم: {وفي آذاننا وقر} [فصلت: 5]، ولهذا الاعتبار كان معنى الجملة متعلقًا بأحوال القرآن مع الفريق غير المؤمن من غير تكلف لتقدير جعل الجملة خبرًا عن القرآن.
ويجوز أن تكون الجملة خبرًا ثانيًا عن ضمير الذكر، أي القرآن، فتكونَ من مقول القول وكذلك جملة {وَهُوَ عَليهِمْ عَمًى}.
والإِخبار عنهُ ب {وَقْرٌ} و{عَمًى} تشبيه بليغ ووجه الشبه هو عدم الانتفاع به مع سماع ألفاظه، والوقر: داء فمقابلته بالشفاء من محسِّن الطِّباق.
وضمير {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} يتبادر أنه عائد إلى الذِّكر أو الكتاب كما عاد ضمير {هو} {لِلَّذِينَ ءَامَنُوا هُدًى}.
والعَمى: عدم البصر، وهو مستعار هنا لضد الاهتداء فمقابلته بالهدى فيها محسِّن الطِّباق.
والإِسناد إلى القرآن على هذا الوجه في معاد الضمير بأنه عليهم عمًى من الإِسناد المجازي لأن عنادهم في قبوله كان سببًا لضلالهم فكان القرآن سَبَبَ سبببٍ، كقوله تعالى: {وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسًا إلى رجسهم} [التوبة: 125].
ويجوز أن يكون ضمير {وَهُوَ} ضميرَ شأن تنبيهًا على فظاعة ضلالهم.
وجملة {عَلَيهم عَمًى} خبر ضميرَ الشأن، أي وأعظم من الوقر أن عليهم عمى، أي على أبصارهم عمى كقوله: {وعلى أبصارهم غشاوة} [البقرة: 7].
وإنما علق العمى بالكون على ذواتهم لأنه لما كان عمى مجازيًا تعين أن مصيبَته على أنفسهم كلها لا على أبصارهم خاصة فإن عمى البصائر أشدّ ضرًا من عمى الأبصار كقوله تعالى: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمَى القلوب التي في الصدور} [الحج: 46].
وجملة {أولئك يُنَادونَ مِن مَكانٍ بَعِيدٍ} خبر ثالث عن {الذين لا يؤمنون}.
والكلام تمثيل لحال إعراضهم عن الدعوة عند سماعها بحال من يُنادَى من مكان بعيد لا يبلغ إليه في مثله صوت المنادي على نحو قوله تعالى: {ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع} كما تقدم في سورة البقرة (171).
وتقول العرب لمن لا يفهم: أنت تُنادَى من مكان بعيد.
والإِشارة ب {أولئك} إلى {الذين لا يؤمنون} لقصد التنبيه على أن المشار إليهم بعد تلك الأوصاف أحْرياء بما سيذكر بعدها من الحكم من أجلها نظير {أولئك على هدى من ربهم} [البقرة: 5].
ويتعلق {مِن مكانٍ بعيدٍ} ب {يُنَادونَ}.
وإذا كان النداء من مكان بعيد كان المنادَى بالفتح في مكان بعيد لا محالة كما تقدم في تعلق {من الأرض}، بقوله: {ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض} [الروم: 25] أي دعاكم من مكانكم في الأرض، ويذلك يجوز أن يكون {مِن مَكَانٍ بعيدٍ} ظرفًا مستقرًا في موضع الحال من ضمير {يُنَادونَ} وذلك غير متأتَ في قوله: {إذا دعاكم دعوة من الأرض}.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)} اعتراض بتسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم على تكذيب المشركين وكفرهم بالقرآن بأنه ليس بأَوحدَ في ذلك فقد أوتي موسى التوراة فاختلف الذين دعاهم في ذلك، فمنهم من آمن به ومنهم من كفر.
والمقصود الاعتبار بالاختلاف في التوراة فإنه أشد من الاختلاف في القرآن فالاختلاف في التوراة كان على نوعين: اختلاف فيها بين مؤمن بها وكافر، فقد كفر بدعوة موسى فرعون وقومه وبعض بني إسرائيل مثلُ قارون ومثل الذين عبدوا العجل في مغيب موسى للمناجاة، واختلاف بين المؤمنين بها اختلافًا عطلوا به بعض أحكامها كما قال تعالى: {ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر} [البقرة: 253]، وكلا الاختلافين موضع عبرة وأسوة لاختلاف المشركين في القرآن.
وهذا ما عصم الله القرآن من مثله إذ قال: {وإنا له لحافظون} [يوسف: 12] فالتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم بهذا أوقع، وهذا ناظر إلى قوله آنفًا: {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} [فصلت: 43] على الوجه الثاني من معنييه بذكر فرد من أفراد ذلك العموم وهو الأعظم الأهم.
{فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ} هذا متعلق بالذين كذبوا بالقرآن من العرب لأن قوله: {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} يقتضي أن الله أخر القضاء بينهم وبين المؤمنين إلى أجل اقتضته حكمتُه، فأَما قوم موسى فقد قضَى بينهم باستئصال قوم فرعون، وبتمثيل الأشوريين باليهود بعد موسى، وبخراب بيت المقدس، وزوال ملك إسرائيل آخرًا.
وهذا الكلام داخل في إتمام التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في استبطاء النصر.
والكلمة هي كلمة الإمهال إلى يوم القيامة بالنسبة لبعض المكذبين، والإِمهاللِ إلى يوم بدر بالنسبة لمن صرعوا ببدر.
والتعبير عن الجلالة بلفظ {رَبِّكَ} لما في معنى الرب من الرأفة به والانتصار له، ولما في الإضافة إلى ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم من التشريف.
وكلا الأمرين تعزيز للتسلية.
ولك أن تجعل كلمة بين دالة على أخرى مقدرة على سبيل إيجاز الحذف.
والتقدير: بينهم وبينَ المؤمنين، أي بما يظهر به انتصار المؤمنين، فإنه يكثر أن يقال: بين كذا وبين كذا، قال تعالى: {وحيل بينهم وبين ما يشتهون} [سبأ: 54].
ومعنى {سَبَقَتْ} أي تقدمت في علمه على مقتضى حكمته وإرادته.
والأجلُ المسمى: جنس يصدق بكل ما أجل به عقابهم في علم الله.
وأما ضمير {وإنَّهُمْ لَفِي شَكَ مِنْهُ مُرِيبٍ} فهو خاص بالمشركين الشاكين في البعث والشاكين في أن الله ينصر رسوله والمؤمنين.
والريب: الشك، فوصف {شَكّ} ب {مُرِيبٍ} من قبيل الإسناد المجازي لقصد المبالغة بأن اشتق له من اسمه وصف كقولهم: لَيلٌ أَلْيل وشِعْرٌ شَاعر.
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} هذا من مكملات التسلية ومن مناسبات ذكر الأجل المسمى.
وفيه معنى التذييل لأن {مَن} في الموضعين مفيدة للعموم سواء اعتبرت شرطية أو موصولة.
ووجود الفاء في الموضعين: إمّا لأنهما جوابان للشرط، وإما لمعاملة الموصول معاملةَ الشرط وهو استعمال كثير.
والمعنى: أن الإِمهال إعذار لهم ليتداركوا أمرهم.
وتقديم قريب من هذه الآية في سورة الزمر، كما تقدم نظير {وما رَبُّكَ بِظَلاممٍ لِلْعَبِيد} لفظًا ومعنى في سورة غافر (31).
وحرف على مؤذن بمؤاخذة وتحمُّل أعباء كما أن اللام في قوله: {فَلِنَفْسِهِ} مؤذن بالعطاء.
والخطاب في {رَبُّكَ} للرسول صلى الله عليه وسلم وفيه ما تقدم من تعزيز تسليته عند قوله آنفًا: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَبِّكَ} [فصلت: 45] من العدول إلى لفظ الرب المضاف إلى ضمير المخاطب.
والمراد بنفي الظلم عن الله تعالى لعبيده: أنه لا يعاقب من ليس منهم بمجرم، لأن الله لما وضع للناس شرائع وبيّن الحسنات والسيئات، ووعد وأوعد فقد جعل ذلك قانونًا، فصار العدول عنه إلى عقاب من ليس بمجرم ظلمًا إذ الظلم هو الاعتداء على حق الغير في القوانين المتلقاة من الشرائع الإِلهية أو القوانين الوضعية المستخرجة من العقول الحكيمة.
وأما صيغة ظلام المقتضية المبالغة في الظلم فهي معتبرة قبل دخول النفي على الجملة التي وقعت هي فيها كأنه قيل: ليعذب الله المسيء لكان ظلاّمًا له وما هو بظلاّم، وهذا معنى قول علماء المعاني: إن النفي إذا توجه إلى كلام مقيَّد قد يكون النفي نفيًا للقيد وقد يكون القَيد قيدًا في النفي ومثلوه بهذه الآية.
وهذا استعمال دقيق في الكلام البليغ في نفي الوصف المصوغ بصيغة المبالغة من تمام عدل الله تعالى أن جعل كل درجات الظلم في رتبة الظلم الشديد. اهـ.

.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرض خَاشِعَةً} ثم ذكر تعالى آية منصوبة ليعتبر بها في أمر البعث من القبور، ويستدل بما شوهد من هذه على ما لم يشاهد بعد من تلك، وهي آية يراها عيانًا كل مفطور على عقل. وخشوع الأرض هو ما يظهر عليها من استكانة وشعث بالجدب وصليم السموم فهي عابسة كما الخاشع عابس يكاد يبكي، والماء المنزل: هو المطر، واهتزاز الأرض: هو تخلخل أجزائها بالماء وتشققها للنبات. وربوها: هو انتفاخها بالماء وعلو سطحها به.
وقرأ الجمهور: {وربت}. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: {وربأت}: بألف مهموزة، ورواها الرؤاسي عن أبي عمرو، وهو أيضًا بمعنى: علت وارتفعت، ومنه الربيئة، وهو الذي يرتفع حتى يرصد للقوم ثم ذكر تعالى بالأمر الذي ينبغي أن يقاس على هذه الآية والعبرة، وذلك إحياء الموتى.
وقوله تعالى: {إنه على كل شيء قدير} عموم، والشيء في اللغة: الموجود.
{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} هذه آية وعيد. والإلحاد: الميل، وهو هاهنا عن الحق، ومن الإلحاد: لحد الميت، لأنه في جانب، يقال لحد الرجل وألحد بمعنى.
وقرأ الجمهور: {يُلحدون} بضم الياء من ألحد. وقرأ ابن وثاب وطلحة والأعمش: {يَلحَدون} بفتح الياء والحاء من لحد.
واختلف المفسرون في الإلحاد الذي أشير إليه ما هو؟ فقال قتادة وغيره: الإلحاد بالتكذيب. وقال مجاهد وغيره: الإلحاد بالمكاء والصفير واللغو الذي ذهبوا إليه. وقال ابن عباس: إلحادهم هو أن يوضع الكلام غير موضعه، ولفظة الإلحاد تعم هذا كله.
وقوله: {لا يخفون علينا} أي فنحن بالمرصاد لهم وسنعذبهم، ثم قرر على هذين القسمين أنهما خير، وهذا التقرير هم المراد به، أي فقل لهم يا محمد {أفمن}. قال مقاتل: نزلت هذه الآية في أبي جهل وعثمان بن عفان، وقيل في عمار بن ياسر، وحسن التفضيل هنا بين الإلقاء في النار والأمن يوم القيامة وإن كانا لا يشتركان في صفة الخير من حيث كان الكلام تقريرًا لا مجرد خبر، لأن المقرر قد يقرر خصمه على قسمين: أحدهما بين الفساد حتى يرى جوابه، فعساه يقع في الفاسد المعنى فيبين جهله، وقد تقدم نظير هذه الآية واستيعاب القول في هذا المعنى، ولا يتجه هنا أن يقال خاطب على معتقدهم كما يتجه ذلك في قوله: {خير مستقرًا} [الفرقان: 24] فتأمله.
وقوله تعالى: {اعملوا ما شئتم} وعيد في صيغة الأمر بإجماع من أهل العلم، ودليل الوعيد ومبينه قوله: {إنه بما تعملون بصير}.
ثم قال تعالى: {إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم}. يريد قريشًا. و{الذكر}: القرآن بإجماع. واختلف الناس في الخبر عنهم أين هو؟ فقالت فرقة: هو في قوله: {أولئك ينادون من مكان بعيد} [فصلت: 44] ذكر النقاش أن بلال بن أبي بردة سأل عن هذا في مجلسه وقال: لم أجد لها نفاذًا، فقال له أبو عمرو بن العلاء: إنه منك لقريب {أولئك ينادون} [فصلت: 44]. ويرد هذا النظر كثرة الحائل، وإن هنالك قومًا قد ذكروا بحسن رد قوله: {أولئك ينادون} [فصلت: 44] عليهم. وقالت فرقة: الخبر مضمر تقديره: {إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم} هلكوا أو ضلوا. وقال بعض نحويي الكوفة الجواب في قوله: {وإنه لكتاب عزيز} حكى ذلك الطبري، وهو ضعيف لا يتجه، وسأل عيسى بن عمر عمرو بن عبيد عن هذا، فقال عمرو معناه في التفسير: {إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم} كفروا به {وإنه لكتاب}، فقال عيسى بن عمر: أجدت يا أبا عثمان.
قال القاضي أبو محمد: والذي يحسن في هذا هو إضمار الخبر، ولكنه عند قوم في غير هذا الموضع الذي قدره هؤلاء فيه، وإنما هو بعد {حكيم حميد} وهو أشد إظهارًا لمذمة الكفار به، وذلك أن قوله: {وإنه لكتاب} داخل في صفة الذكر المكذب به، فلم يتم ذكر المخبر عنه إلا بعد استيفاء وصفه، وهذا كما تقول: تخالف زيدًا وهو العالم الودود الذي من شأنه ومن أمره، فهذه كلها أوصاف.
ووصف تعالى الكتاب بالعزة، لأنه بصحة معانيه ممتنع الطعن فيه والإزراء عليه، وهو محفوظ من الله تعالى، قال ابن عباس: معناه كريم على الله تعالى، قال مقاتل: منيع من الشيطان. قال السدي: غير مخلوق.
وقوله: {لا يأتيه الباطل} قال قتادة والسدي: يريد الشيطان، وظاهر اللفظ يعم الشيطان وأن يجيء أمر يبطل منه شيئًا.
وقوله: {من بين يديه} معناه ليس فيما تقدمه من الكتب ما يبطل شيئًا منه.
وقوله: {ولا من خلفه} أي ليس يأتي بعده من نظر ناظر وفكرة عاقل ما يبطل أشياء منه، والمراد باللفظ على الجملة: لا يأتيه الباطل من جهة من الجهات.
وقوله: {تنزيل} خبر ابتداء، أي هو تنزيل.
وقوله: {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} يحتمل معنيين: أحدهما أن يكون تسلية للنبي عليه السلام عن مقالات قومه، أي ما تلقى يا محمد من المكروه منهم، ولا يقولون لك من الأقوال المؤلمة إلا ما قد قيل ولقي به من تقدمك من الرسل، فلتتأسَّ بهم ولتمض لأمر الله ولا يهمنك شأنهم. والمعنى الثاني: أن تكون الآية تخليصًا لمعاني الشرع، أي ما يقال لك من الوحي وتخاطب به من جهة الله تعالى إلا ما قد قيل للرسل من قبلك، ثم فسر ذلك الذي قيل لجميعهم وهو {إن ربك لذو مغفرة} للطائعين {وذو عقاب} للكافرين. وفي هذه الكلمات جماع النهي والزجر الموعظة، وإليها يرجع كل نظر.
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} الأعجمي: هو الذي لا يفصح عربيًا كان أو غير عربي، والعجمي: الذي ليس من العرب فصيحًا كان أو غير فصيح، وهذه الآية نزلت بسبب تخليط كان من قريش في أقوالهم من أجل الحروف التي وقعت في القرآن، وهي مما عرِّب من كلام العجم: كالسجين والاستبرق ونحوه، فقال عز وجل: ولو جعلنا هذا القرآن أعجميًا لا يبين لقالوا واعترضوا لولا بينت آياته.
واختلف القراء في قوله: {اعجمي وعربي} فقراءة الجمهور على الاستفهام وهمزة ممدودة قبل الألف. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم والأعمش: {أأعجمي} بهمزتين، وكأنهم كانوا ينكرون ذلك فيقولون: لولا بين أأعجمي وعربي مختلط هذا لا يحسن، وتأول ابن جبير أن معنى قولهم: أتجيئنا عجمة ونحن عرب؟ ما لنا وللعجمة؟ وقرأ الحسن البصري وأبو الأسود والجحدري وسلام والضحاك وابن عباس وابن عامر بخلاف عنهما: {أعْجمي وعربي} دون استفهام وبسكون العين، كأنهم قالوا عجمة وإعراب، إن هذا لشاذ، أو كأنهم قالوا لولا فصل فصلين، فكان بعضه أعجميًا يفهمه العجم، وبعضه عربيًا يفهمه العرب، وهذا تأويل لابن جبير أيضًا. وقرأ عمرو بن ميمون: {أعَجمي} بهمزة واحدة دون مد وبفتح العين، فأخبر الله تعالى عنهم أنه لو كان على أي وجه تخيل لكان لهم قول واعتراض فاسد، هذا مقصد الكلام.
وأمر الله تعالى نبيه عليه السلام أن يقول لهم: إن القرآن {هدى وشفاء} للمؤمنين المبصرين للحقائق، وأنه على الذين لا يؤمنون ولا يصرفون نظرهم وحواسهم في المصنوعات عمي، لأنهم {في آذانهم وقر} وعلى قلوبهم أقفال وعلى أعينهم غشاوة.
واختلف الناس في قوله: {وهو عليهم} فقالت فرقة: يريد ب {هو} القرآن. وقالت فرقة: {وهو} يريد به الوقر. والوقر: الثقل في الآذن المانع من السمع، وهذه كلها استعارات، أي هم لما لم يفهموا ولا حصلوا كالأعمى وصاحب الوقر.
وقرأ ابن عباس ومعاوية وعمرو بن العاصي: {وهو عليهم عمٍ} بكسر الميم وتنوينه. وقال يعقوب: لا أدري أنونوا أم فتحوا الياء على الفعل الماضي؟ وبغير ياء رواها عمرو بن دينار وسليمان بن قتة عن ابن عباس.
وهذه القراءة أيضًا فيها استعارة، وكذلك قوله تعالى: {أولئك ينادون} يحتمل معنيين، وكلاهما مفعول للمفسرين: أحدهما أنها استعارة لقلة فهمهم، شبههم بالرجل ينادى على بعد يسمع منه الصوت ولا يفهم تفاصيله ولا معانيه، وهذا تأويل مجاهد، والآخر أن الكلام على الحقيقة وأن معناه أنهم يوم القيامة ينادون بكفرهم وقبيح أعمالهم من بعد حتى يسمع ذلك أهل الموقف، فتعظم السمعة عليهم ويحل المصاب، وهذا تأويل الضحاك بن مزاحم. ثم ضرب تعالى أمر موسى مثلًا للنبي عليه السلام ولقريش، أي فعل أولئك كأفعال هؤلاء حين جاءهم مثل ما جاء هؤلاء، والكلمة السابقة هي: حتم الله تعالى بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة، والضمير في قولهم: {لفي شك منه} يحتمل أن يعود على موسى أو على كتابه.
وقوله تعالى: {من عمل صالحًا} الآية نصيحة بينة للعالم وتحذير وترجية وصدع بين الله تعالى لا يجعل شيئًا من عقوبات عبيده في غير موضعها، بل هو العادل المتفضل الذي يجازي كل عبد بتكسبه. اهـ.