فصل: قال ابن القيم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن القيم:

فصل ومن منازل {إياك نعبد وإياك نستعين} منزلة الاستقامة:
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصعلت: 30] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف: 13- 14] وقال لرسوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112] فبين أن الاستقامة ضد الطغيان وهو مجاوزة الحدود في كل شيء وقال تعالى: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه} [فصلت: 6] وقال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن: 16] سئل صديق الأمة وأعظمها استقامة أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن الاستقامة فقال: أن لا تشرك بالله شيئا يريد الاستقامة على محض التوحيد.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الاستقامة: أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعالب وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: استقاموا: أخلصوا العمل لله وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس رضي الله عنهما: استقاموا أدوا الفرائض وقال الحسن: استقاموا على أمر الله فعملوا بطاعته واجتنبوا معصيته وقال مجاهد: استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: استقاموا على محبته وعبوديته فلم يلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة وفي صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك قال: قل آمنت بالله ثم استقم.
وفيه عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن.
والمطلوب من العبد الاستقامة وهي السداد فإن لم يقدر عليها فالمقاربة فإن نزل عنها: فالتفريط والإضاعة كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» فجمع في هذا الحديث مقامات الدين كلها فأمر بالاستقامة وهي السداد والإصابة في النيات والأقوال والأعمال وأخبر في حديث ثوبان: أنهم لا يطيقونها فنقلهم إلى المقاربة وهي أن يقربوا من الاستقامة بحسب طاقتهم كالذي يرمي إلى الغرض فإن لم يصبه يقاربه ومع هذا فأخبرهم: أن الاستقامة والمقاربة لا تنجي يوم القيامة فلا يركن أحد إلى عمله ولا يعجب به ولا يرى أن نجاته به بل إنما نجاته برحمة الله وعفوه وفضله.
فالاستقامة كلمة جامعة آخذة بمجامع الدين وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق والوفاء بالعهد والاستقامة تتعلق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيات فالاستقامة فيها: وقوعها لله وبالله وعلى أمر الله قال بعض العارفين: كن صاحب الاستقامة لا طالب الكرامة فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة وربك يطالبك بالاستقامة.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله تعالى روحه يقول: أعظم الكرامة لزوم الاستقامة.
فصل:
قال صاحب المنازل قدس الله روحه في قوله: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصعلت: 6] إنه إشارة إلى عين التفريد يريد: أنه أرشدهم إلى شهود تفريده وهو أن لا يروا غير فردانيته.
وتفريده نوعان: تفريد في العلم والمعرفة والشهود وتفريد في الطلب والإرادة وهما نوعا التوحيد وفي قوله: عين التفريد إشارة إلى حال الجمع وأحديته التي هي عنده فوق علمه ومعرفته لأن التفرقة قد تجامع علم الجمع وأما حاله: فلا تجامعه التفرقة والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل:
قال: الاستقامة: روح تحيا به الأحوال كما تربو للعامة عليها.
الأعمال وهي برزخ بين وهاد التفرق وروابي الجمع شبه الاستقامة للحال بمنزلة الروح للبدن فكما أن البدن إذا خلا عن الروح فهو ميت فكذلك الحال إذا خلا عن الاستقامة فهو فاسد وكما أن حياة الأحوال بها فزيادة أعمال الزاهدين أيضا وربوها وزكاؤها بها فلا زكاء للعمل ولا صحة للحال بدونها.
وأما كونها برزخا بين وهاد التفرق وروابي الجمع ف البرزخ هو الحاجز بين شيئين متغايرين والوهاد الأمكنة المنخفضة من الأرض واستعارها للتفرق لأنها تحجب من يكون فيها عن مطالعة ما يراه من هو على الروابى كما أن صاحب التفرق محجوب عن مطالعة ما يراه صاحب الجمع ويشاهده وأيضا فإن حاله أنزل من حاله فهو كصاحب الوهاد وحال صاحب الجمع أعلى فهو كصاحب الروابي وشبه حال صاحب الجمع بحال من على الروابي لعلوه ولأن الروابي تكشف لمن عليها القريب والبعيد وصاحب الجمع تكشف له الحقائق المحجوبة عن صاحب التفرقة إذا عرف هذا فمعنى كونها برزخا أن السالك يكون في أول سلوكه في أودية التفرقة سائرا إلى روابي الجمع فيستقيم في طريق سيره غاية الاستقامة ليصل باستقامته إلى روابي الجمع فاستقامته برزخ بين تلك التفرقة التي كان فيها وبين الجمع الذي يؤمه ويقصده وهذا بمنزلة تفرقة المقيم في البلد في أنواع التصرفات فإذا عزم على السفر وخرج وفارق البلد واستمر على السير: كان طريق سفره برزخا بين البلد الذي كان فيه والبلد الذي يقصده ويؤمه.
فصل:
قال: وهي على ثلاث درجات الدرجة:
الأولى: الاستقامة على الاجتهاد في الاقتصاد لا عاديا رسم العلم ولا متجاوزا حد الإخلاص ولا مخالفا نهج السنة هذه درجة تتضمن ستة أمور: عملا واجتهادا فيه وهو بذل المجهود واقتصادا وهو السلوك بين طرفي الإفراط وهو الجور على النفوس والتفريط بالإضاعة ووقوفا مع ما يرسمه العلم لا وقوفا مع داعي الحال وإفراد المعبود بالإرادة وهو الإخلاص ووقوع الأعمال على الأمر وهو متابعة السنة فبهذه الأمور الستة تتم لأهل هذه الدرجة استقامتهم وبالخروج عن واحد منها يخرجون عن الاستقامة: إما خروجا كليا وإما خروجا جزئيا والسلف يذكرون هذين الأصلين كثيرا وهما الاقتصاد في الأعمال والاعتصام بالسنة فإن الشيطان يشم قلب العبد ويختبره فإن رأى فيه داعية للبدعة وإعراضا عن كمال الانقياد للسنة: أخرجه عن الاعتصام بها وإن رأى فيه حرصا على السنة وشدة طلب لها: لم يظفر به من باب اقتطاعه عنها فأمره بالاجتهاد والجور على النفس ومجاوزة حد الاقتصاد فيها قائلا له: إن هذا خير وطاعة والزيادة والاجتهاد فيها أكمل فلا تفتر مع أهل الفتور ولا تنم مع أهل النوم فلا يزال يحثه ويحرضه حتى يخرجه عن الاقتصاد فيها فيخرج عن حدها كما أن الأول خارج عن هذا الحد فكذا هذا الآخر خارج عن الحد الآخر وهذا حال الخوارج الذين يحقر أهل الاستقامة صلاتهم مع صلاتهم وصيامهم مع صيامهم وقراءتهم مع قراءتهم وكلا الأمرين خروج عن السنة إلى البدعة لكن هذا إلى بدعة التفريط والإضاعة والآخر إلى بدعة المجاوزة والإسراف.
وقال بعض السلف: ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان إما إلى تفريط وإما إلى مجاوزة وهي الإفراط ولا يبالي بأيهما ظفر: زيادة أو نقصان وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: «يا عبد الله بن عمرو إن لكل عمل شرة ولكل شرة فترة فمن كانت فترته إلى سنة أفلح ومن كانت فترته إلى بدعة خاب وخسر» قال له ذلك حين أمره بالاقتصاد في العمل فكل الخير في اجتهاد باقتصاد وإخلاص مقرون بالاتباع كما قال بعض الصحابة: اقتصاد في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة فاحرصوا أن تكون أعمالكم على منهاج الأنبياء عليهم السلام وسنتهم وكذلك الرياء في الأعمال يخرجه عن الاستقامة والفتور والتواني يخرجه عنها أيضا.
فصل:
قال: الدرجة الثانية: استقامة الأحوال وهي شهود الحقيقة لا كسبا ورفض الدعوى لا علما والبقاء مع نور اليقظة لا تحفظا يعني أن استقامة الحال بهذه الثلاثة أما شهود الحقيقة فالحقيقة حقيقتان: حقيقة كونية وحقيقة دينية يجمعهما حقيقة ثالثة وهي مصدرهما ومنشؤهما وغايتهما وأكثر أرباب السلوك من المتأخرين: إنما يريدون بالحقيقة الحقيقة الكونية وشهودها هو شهود تفرد الرب بالفعل وأن ما سواه محل جريان أحكامه وأفعاله فهو كالحفير الذي هو محل لجريان الماء حسب.
وعندهم أن شهود هذه الحقيقة والفناء: فيها غاية السالكين.
ومنهم: من يشهد حقيقة الأزلية والدوام وفناء الحادثات وطيها في ضمن بساط الأزلية والأبدية وتلاشيها في ذلك فيشهدها معدومة ويشهد تفرد موجدها بالوجود الحق بالحق وأن وجود ما سواه رسوم وظلال.
فالأول: شهد تفرده بالأفعال وهذا شهد تفرده بالوجود وصاحب الحقيقة الدينية في طور آخر فإنه في مشهد الأمر والنهي والثواب والعقاب والموالاة والمعاداة والفرق بين ما يحبه الله ويرضاه وبين ما يبغضه ويسخطه فهو في مقام الفرق الثاني الذي لا يحصل للعبد درجة الإسلام فضلا عن مقام الإحسان إلا به.
فالمعرض عنه صفحا لا نصيب له في الإسلام ألبتة وهو كالذي كان الجنيد يوصى به أصحابه فيقول: عليكم بالفرق الثاني وإنما سمى ثانيا لأن الفرق الأول: فرق بالطبع والنفس وهذا فرق بالأمر والجمع أيضا جمعان: جمع في فرق وهو جمع أهل الاستقامة والتوحيد وجمع بلا فرق وهو جمع أهل الزندقة والإلحاد.
فالناس ثلاثة: صاحب فرق بلا جمع فهو مذموم ناقص مخذول وصاحب جمع بلا فرق وهو جمع أهل الزندقة والإلحاد فصاحبه ملحد زنديق.
وصاحب فرق وجمع يشهد الفرق في الجمع والكثرة في الوحدة فهو المستقيم الموحد الفارق وهذا صاحب الحقيقة الثالثة الجامعة للحقيقتين الدينية والكونية فشهود هذه الحقيقة الجامعة: هو عين الاستقامة.
وأما شهود الحقيقة الكونية أو الأزلية والفناء فيها: فأمر مشترك بين المؤمنين والكفار فإن الكافر مقر بقدر الله وقضائه وأزليته وأبديته فإذا استغرق في هذا الشهود وفني به عن سواه: فقد شهد الحقيقة وأما قوله لا كسبا أي يتحقق عند مشاهدة الحقيقة: أن شهودها لم يكن بالكسب لأن الكسب من أعمال النفس فالحقيقة لا تبدو مع بقاء النفس إذ الحقيقة فردانية أحدية نورانية فلابد من زوال ظلمة النفس ورؤية كسبها وإلا لم يشهد الحقيقة وأما رفض الدعوى لا علما ف الدعوى نسبة الحال وغيره إلى نفسك وإنيتك فالاستقامة لا تصح إلا بتركها سواء كانت حقا أو باطلا فإن الدعوى الصادقة تطفىء نور المعرفة فكيف بالكاذبة.
وأما قوله: لا علما أي لا يكون الحامل له على ترك الدعوى مجرد علمه بفساد الدعوى ومنافاتها للاستقامة فإذا تركها يكون تركها لكون العلم قد نهى عنها فيكون تاركا لها ظاهرا لا حقيقة أو تاركا لها لفظا قائما بها حالا لأنه يرى أنه قد قام بحق العلم في تركها فيتركها تواضعا بل يتركها حالا وحقيقة كما يترك من أحب شيئا تضره محبته حبه حالا وحقيقة وإذا تحقق أنه ليس له من الأمر شيء كما قال الله عز وجل لخير خلقه على الاطلاق: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] ترك الدعوى شهودا وحقيقة وحالا.
وأما البقاء مع نور اليقظة فهو الدوام في اليقظة وأن لا يطفىء نورها بظلمة الغفلة بل يستديم يقظته ويرى أنه في ذلك كالمجذوب المأخوذ عن نفسه حفظا من الله له لا أن ذلك حصل بتحفظه واحترازه.
فهذه ثلاثة أمور: يقظة واستدامة لها وشهود أن ذلك بالحق سبحانه لا بك فليس سبب بقائه في نور اليقظة بحفظه بل بحفظ الله له وكأن الشيخ يشير إلى أن الاستقامة في هذه الدرجة لا تحصل بكسب وإنما هو مجرد موهبة من الله فإنه قال في الأولى: الاستقامة على الاجتهاد وفي الثانية استقامة الأحوال لا كسبا ولا تحفظا.
ومنازعته في ذلك متوجهة وأن ذلك مما يمكن تحصيله كسبا بتعاطي الأسباب التي تهجم بصاحبها على هذا المقام.
نعم الذي ينفي في هذا المقام: شهود الكسب وأن هذا حصل له بكسبه فنفي الكسب شيء ونفي شهوده شيء آخر.
ولعل أن نشبع الكلام في هذا فيما يأتي إن شاء الله تعالى.
فصل:
قال: الدرجة الثالثة: استقامة بترك رؤية الاستقامة وبالغيبة عن تطلب الاستقامة بشهود إقامة وتقويمه الحق هذه الاستقامة معناها: الذهول بمشهوده عن شهوده فيغيب بالمشهود المقصود سبحانه عن رؤية استقامته في طلبه فإن رؤية الاستقامة تحجبه عن حقيقة الشهود.
وأما الغيبة عن تطلب الاستقامة فهو غيبته عن طلبها بشهود إقامة الحق للعبد وتقويمه إياه فإنه إذا شهد أن الله هو المقيم له والمقوم وأن استقامته وقيامه بالله لا بنفسه ولا بطلبه: غاب بهذا الشهود عن استشعار طلبه لها.
وهذا القدر من موجبات شهود معنى اسمه القيوم وهو الذي قام بنفسه فلم يحتج إلى أحد وقام كل شيء به فكل ما سواه محتاج إليه بالذات وليست حاجته إليه معللة بحدوث كما يقول المتكلمون ولا بإمكان كما يقول الفلاسفة المشاءون بل حاجته إليه ذاتية وما بالذات لا يعلل.
نعم الحدوث والإمكان دليلان على الحاجة فالتعليل بهما من باب التعريف لا من باب العلل المؤثرة والله أعلم. اهـ.