فصل: تفسير الآيات (47- 50):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (47- 50):

قوله تعالى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تضمنت الآية السالفة الجزاء على كل جليل وحقير، وقليل وكثير، والبراءة من الظلم، كما قال تعالى: {وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون} {ووفيت كل نفس ما عملت} [آل عمران: 25] {وهو أعلم بما يفعلون} وأشير إلى التوعد بالجزاء في يوم الفصل لأنا نشاهد أكثر الخلق يموت من غير جزاء، وكان من عادتهم السؤال عن علم ذلك اليوم، وكان ترك الجزاء إنما يكون للعجز، والظلم إنما يكون للجهل، لأنه وضع الأشياء في غير محالها فعل الماشي في الظلام، دل على تعالىه عن كل منهما بتمام العلم المستلزم لشمول القدرة على وجه فيه جوابهم عن السؤال عن علم الوقت الذي تقوم فيه الساعة الذي كان سببًا لنزول هذه الآية- كما ذكره ابن الجوزي- بقوله على سبيل التعليل: {إليه} أي إلى المحسن إليك لا إلى غيره {يرد} من كل راد {علم الساعة} أي التي لا ساعة في الحقيقة غيرها، لما لها من الأمور التي لا نسبة لغيرها بها، فهي الحاضرة لذلك في جميع الأذهان، وإنما يكون الجزاء على الإساءة والإحسان فيها حتى يظهر لكل أحد ظهورًا بينا لكل أحد أنه لا ظلم أصلًا، فلا يمكن أن يسأل أحد سواه عنها ويخبر عنها بما يغنى في تعيين وقتها وكيفيتها وصنعتها، وكلما انتقل السائل من مسؤول ألى أعلم منه وجده كالذي قبله حتى يصل الأمر إلى الله تعالى، والعالم منهم هو الذي يقول: الله أعلم، فاستئثاره بعلمها دال على تناهي علمه، وحجبه له عن كل من دونه دال على تمام قدرته، واجتماع الأمرين مستلزم لبعده عن الظلم، وأنه لا يصح اتصافه به، فلابد من إقامته لها ليوفي كل ذي حق حقه، ويأخذ لكل مظلوم ظلامته غير متعتع.
ولما كانوا ينازعون في وقوعها فضلًا عن العلم بها، عدها أمرًا محققًا مفروغًا منه وذكر ما يدل على شمول علمه لكل حادث في وقته دليلًا على علمه بما يعين وقت الساعة، وذلك على وجه يدل على قدرته عليها وعلى كل مقدور بما لا نزاع لهم فيه من ثمرات النبات والحيوان التي هي خبء في ذوات ما هي خارجة منه، فهي كخروج الناس بعد موتهم من خبء الأرض، فقال مقدمًا للرزق على الخلق كما هو الأليق، عطفًا على ما تقديره: فما يعلمها ولا يعلمها إلا هو: {وما تخرج} أي في وقت من الأوقات الماضية والكائنة والآية، فإن {ما} النافية لا تدخل إلا على معناه الحلول، فالمراد مجرد تصوير إن كان زمانه قد مضى أو لم يأت، وأكد النفي بالجار فقال: {من ثمرات} أي صغيرة أو كبيرة صلحة أو فاسدة من الفواكه والحبوب وغيرها؛ والإفراد في قراءة الجماعة للجنس الصالح للقليل والكثير، نبهت قراءة نافع وابن عامر وحفص عن عاصم بالجمع على كثرة الأنواع {من أكمامها} جمع كم وكمامة بالكسر فيهما وهو وعاء الطلع وغطاء النور، وكل ما غطى على وجه الإحاطة شيئًا من شابه أن يخرج فهوكم، ومنه قيل للقلنسوة: كمة، ولكم القميص ونحوه: كم، أي إلا بعلمه {وما تحمل من أنثى} خداجًا أو تمامًا، ناقصًا أو تامًا، وكذا النفي باعادة النافي ليشمل كلا على حياله، وعبر ب {لا} لأن الوضع ليس كالحمل يقع في لحظة بل يطول زمان انتظاره فقال: {ولا تضع} حملًا حيًا أو ميتًا {إلا} حال كونه ملتبسًا {بعلمه} ولا علم لأحد غيره بذلك، ومن ادعى علمًا به فليخبر بأن ثمرة الحديقة الفلانية والبستان الفلاني والبلد الفلاني تخرج في الوقت الفلاني أو لا تخرج العام شيئًا أصلًا والمرأة الفلانية تحمل في الوقت الفلاني وتضع في وقت كذا أو لا تحمل العام شيئًا، ومن المعلوم أنه لا يحيط بهذا علمًا إلا الله سبحانه وتعالى.
ولما ثبت بهذا علمه صريحًا وقدرته لزومًا وعجز من سواه وجهله، وتقرر بذلك أمر الساعة من أنه قادر عليها بما أقام من الأدلة، وأنه لابد من كونها لما وعد به من تكوينها لينصف لمظلوم من ظالمه لأنه حكيم ولا يظلم أحدًا وإن كانوا في إيجادها ينازعون، ولم ينكرون قال تعالى مصورًا ما تضمنه ما سبق من جهلهم، ومقررًا بعض أحوال القيامة، عاطفًا على أرشد السياق إلى تقديره من نحو: فهو على كل شيء قدير لأنه على كل شيء شهيد وهم بخلاف ذلك، مقررًا قدرته تصريحًا وعجز ما ادعوا من الشركاء: {ويوم يناديهم} أي المشركين بعد بعثهم من القبور، للفصل بينهم في سائر الأمور فيقول المحسن إليك بأنواع الإحسان الذي منه إنصاف المظلوم من ظالمه على سبيل الأمور فيقول المحسن إليك بأنواع الإحسان الذي منه إنصاف المظلوم من ظالمه على سبيل التوبيخ والتقريع والتنديم: {أين شركائي} أي الذين زعمتم أنهم يشفعون لكم في هذا اليوم ويحمونكم من العقاب واللوم، والعامل في الظرف {قالوا} أي المشركون: {آذنّاك} أي اعلمناك سابقًا بألسنة أحوالنا والآن بألسنة مقالنا، وفي كلتا الحالتين أنت سامع لذلك لأنك سامع لكل ما يمكن أن يسمع وإن لم يسمعه غيرك، ولذا عبروا بما منه الإذن {ما منا} وأكدوا النفي بإدخال الحار في المبتدأ المؤخر فقالوا: {من شهيد} أي حي دائمًا حاضر دون غيبة، مطلع على ما يريد من غير خفاء بحيث لا يغيب عن علمه شيء فيخبر بما يخبر به على سبيل القطع والشهادة، فآل الأمر إلى أن المعنى: لا نعلم أي ما كنا نسميهم شركاء لأنه ما منا من هو محيط العلم.
ولما قرر جهلهم، أتبعه عجزهم فقال: {وضل} أي ذهب وشذ وغاب وخفي {عنهم} ولما كانت معبوداتهم إما ممن لا يعقل كالأصنام وإما في عداد ذلك لكونهم لا فعل لهم في الحقيقة، عبر عنهم بأداة ما لا يعقل فقال: {ما كانوا} أي دائمًا {يدعون} في كل حين على وجه العادة.
ولما كان دعاؤهم لهم غير مستغرق لزمان القبل، أدخل الجار فقال: {من قبل} فهم لا يرونه فضلًا عن أنهم يجدون نفعه ويلقونه، كأنهم كانوا لما هم عريقون فيه من الجهل وسوء الطبع يتوقعون أن يظفروا بهم فيشفعوا لهم، فلذلك عبر بالظن في قوله: {وظنوا} أي في ذلك الحال {ما لهم} وأبلغ في النفي بإدخال الجار على المبتدأ المؤخر فقال: {من محيص} أي مهرب وملجأ ومعدل.
ولما دل أتباعهم للظن حتى في ذلك اليوم الذي تنكشف فيه الأمور، وتظهر عظائم المقدور، وإلقاؤهم بأيديهم فيه على أنهم في غاية العراقة في الجهل والرسوخ في العجز، أتبع ذلك الدليل على أن ذلك طبع هذا النوع فلا يزال متبدل الأحوال متغير المناهج، إن أحسن بخير انتفخ عظمه وتطاول كبرًا، وإن مس ببلاء تضاءل ذلًا وأمتلأ ضعفًا وعجزًا، وذلك ضد مقصود السورة الذي هو العلم، بيانًا لأن حال هذا النوع بعيد من العلم، عريق الصفات في الجهل والشر إلا من عصمه الله فقال تعالى: {لا يسئم} أي يمل ويضجر {الإنسان} أي من الأنس بنفسه الناظر في أعطافه، الذي لم يتأهل للمعارف الإلهية والطرق الشرعية {من دعاء الخير} أي من طلبه طلبًا عظيمًا، وذلك دال مع شرهه على جهله، فإنه لو كان عالمًا بأن الخير يأتيه أو لا يأتيه لخفف عن نفسه من جهده في الدعاء {ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء} [الأعراف: 188] {وإن مسه الشر} أي هذا النوع قليله وكثيره بغتة من جهة لا يتوقعها {فيؤوس} أي عريق في اليأس، وهو انقطاع الرجاء والأمل والحزن العظيم والقطع بلزوم تلك الحالة بحيث صار قدوة في ذلك {قنوط} أي مقيم في دار انقطاع الأمل والخواطر الرديئة، فهو تأكيد للمعنى على أحسن وجه وأتمه، وهذا هو ما طبع عليه الجنس، فمن أراد الله به منهم خيرًا عصمه، ومن أراد به شرًا أجراه مع الطبع فكان كافرًا، لأنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون قال أبو حيان: واليأس من صفة القلب وهو أن ينقطع رجاؤء من الخير، والقنوط أن يظهر عليه آثار اليأس فيتضاءل وينكسر، وبدأ بصفة القلب لأنها هي المؤثرة فيما يظهر على الصورة من الانكسار.
ولما دل ذلك على عظيم جهله وغلبة أفكاره الرديئة على عقله، أتبعه تأكيدًا لذلك ما يدل على أن حاله بعد هذا اليأس الذي قطع فيه بلزوم الشر وامتناع حصول الخير أنه لو عاودته النعمة بغتة من وجه لا يرجوه، وليس له دليل على ما دوامها وانصرامها لعاد إلى البطر والكبر والأشر، ونسي ما كان فيه من الشدة، فقال مسندًا إلى نفسه الخير بعد أن ذكر الشر، ولم يسنده إليه تعليمًا للأدب معبرًا بمظهر العظمة تنبيهًا على أن ذلك من جليل التدبير {ولئن أذقناه} أي الإنسان الذي غلبت عليه حالة الأنس بنفسه حتى أسفلته عن أبناء جنسه إلى رتبة الحيوانات العجم بل دونها.
ولما أخبر آخر الآية السالفة عن حاله عند الشر، قدم هنا ضده على صلته اهتمامًا به بخلاف ما في سورة هود عليه السلام فقال: {رحمة منا} أي نعمة عظيمة دلت على إكرامه من جهة لا يرجوها، وهو من فائدة التعبير بأداة الشك، ودل بإثبات الجار على انفصالها عن الضر مع قرب زمانها منه ليكون قد جمع مباشرة الأحوال الثلاث: الانتقام والإكرام وما بينهما من الوسط الذي بين حالتي الرضا والسخط، ثم شرع بيان ذلك فقال: {من بعد ضراء} أي محنة وشدة عظيمة {مسته} فطال بروكها عليه؛ وأجاب القسم لتقدمه على الشرط بقوله: {ليقولن} بمجرد ذوق تلك الرحمة على أنها ربما كانت بلاء عظيمًا لكونها استدراجًا إلى الهلاك: {هذا} أي الأمر العظيم {لي} أي مختص بي لما لي من الفضل، لا مشاركة لأحد معي فيه مع أنه ثابت لا يتغير انتقالًا من حالة اليأس إلى حالة الأمن والبطر والكبر والأشر على قرب الزمن من ذوق المحن وينسى أنها من فضل الله ليقيدها بشكرها، ويطردها بكفرها {وما أظن الساعة} أي القيامة التي هي لعظمها المستحقة أن تختص باسم الساعة {قائمة} أي ثابتًا قيامها، فقطع الرجاء منها سواء عبر عن ذلك بلسان قاله أو بلسان حاله، لكونه يفعل أفعال الشاك فيها كما كان قطع الرجاء من الخير عند مباشرته للشر لكنه هنا قال على سبيل التقدير: والفرض، لدفع من يعظه محققًا لدوام نعمته: {ولئن رجعت} أي على سبيل الفرض بقسر قاسر ما {إلى ربي} أي الذي أحسن إليّ بهذا الخير الذي أنا فيه {إن لي عنده} وأكده على من يعظه بأنه يعذب إن لم يحسن قلبه وقالبه {للحسنى} أي الحالة والرتبة البالغة في الحسن حدًا لا يوصف لأني أهل لذلك، والدليل على تأهلي له ما أنا فيه الآن من الخير، ونسي ما يشاهده غالبًا من أن كثيرًا من النعم يكون للاستدارج، ومن أن كثيرًا من الناس يكون في غاية النعمة فيصبح وقد أحاطت به كل نقمه، فهو بين أمنيتين في الدنيا بقوله هذا، وفي الآخرة يقول: {يا ليتي كنت ترابًا} فلا يزال في المحال- نعوذ بالله من سوء الحال.
ولما كان هذا هو الكفر الصراح لنسيان نعمة المنعم وجعله الإنعام من الواجب اللازم وشكه فيما أخبر سبحانه على ألسنة جميع الرسل أنه محط حكمته، سبب عنه سبحانه قوله، مؤكدًا في نظير تأكيد هذا الناسي: {فلننبئن} أي تنبئة عظيمة بخير الوصف فيها مستقصاة على سبيل العدل، وجعل الضمير الوصف تصريحًا بالعموم وبيانًا للعلة الموجبة فقال: {الذين كفروا} أي ستروا ما دلت عليه العقول، وأوجبته صرائح النقول، من إقامة الساعة لأظهار جلاله وجماله، ومن أنه تعالى يحل بالإنسان السراء والضراء ليخافه ويرجوه ويشكره ويدعو {بما عملوا} لا ندع منه قليلًا ولا كثيرًا صغيرًا ولا كبيرًا، فليرون عيانًا ضد ما ظنوه في الدنيا من أن لهم الحسنى.
{وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورًا} [الفرقان: 23] {ولنذيقنهم} بعد إقامة الحجة عليهم بموازين القسط الوافية لمثاقيل الذر {من عذاب غليظ} لا يدع جهة من أجسامهم ولا قواهم إلا أحاط بها ولا تقوى على دفعه قواهم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} واعلم أنه تعالى لما هدد الكفار في الآية المتقدمة بقوله: {مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46] ومعناه أن جزاء كل أحد يصل إليه في يوم القيامة، وكأن سائلًا قال ومتى يكون ذلك اليوم؟ فقال تعالى إنه لا سبيل للخلق إلى معرفة ذلك اليوم ولا يعلمه إلا الله فقال: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ الساعة} وهذه الكلمة تفيد الحصر أي لا يعلم وقت الساعة بعينه إلا الله، وكما أن هذا العلم ليس إلا عند الله فكذلك العلم بحدوث الحوادث المستقبلة في أوقاتها المعينة ليس إلا عند الله سبحانه وتعالى، ثم ذكر من أمثلة هذا الباب مثالين أحدهما: قوله: {وَمَا تَخْرُجُ مِن ثمرات مّنْ أَكْمَامِهَا} والثاني: قوله: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} قال أبو عبيدة أكمامها أوعيتها وهي ما كانت فيه الثمرة واحدها كم وكمة، قرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم {من ثمرات} بالألف على الجمع والباقون {من ثمرة} بغير ألف على الواحد.
واعلم أن نظير هذه الآية قوله: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة وَيُنَزّلُ الغيث} [القمان: 34] إلى آخر لآية، فإن قيل أليس أن المنجمين قد يتعرفون من طالع سنة العالم أحوالًا كثيرة من أحوال العالم، وكذلك قد يتعرفون من طوالع الناس أشياء من أحوالهم، وههنا شيء آخر يسمى علم الرمل وهو كثير الإصابة وأيضًا علم التعبير بالاتفاق قد يدل على أحوال المغيبات، فكيف الجمع بين هذه العلوم المشاهدة وبين هذه الآية؟ قلنا إن أصحاب هذه العلوم لا يمكنهم القطع والجزم في شيء من المطالب ألبتة وإنما الغاية القصوى ادعاء ظن ضعيف والمذكور في هذه الآية أن علمها ليس إلا عند الله والعلم هو الجزم واليقين وبهذ لطريق زالت المنافاة والمعاندة والله أعلم، ثم إنه تعالى لما ذكر القيامة أردفه بشيء من أحوال يوم القيامة، وهذا الذي ذكره هاهنا شديد التعلق أيضًا بما وقع الابتداء به في أول السورة، وذلك لأن أول السورة يدل على أن شدة نفورهم عن استماع القرآن إنما حصلت من أجل أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان يدعوهم إلى التوحيد وإلى البراءة عن الأصنام والأوثان بدليل أنه قال في أول السورة {قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ} [فصلت: 6] فذكر في خاتمة السورة وعيد القائلين بالشركاء ولأنداد فقال: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِى} أي بحسب زعمكم واعتقادكم {قَالُواْ آذناك} قال ابن عباس أسمعناك كقوله تعالى: {وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق: 2] بمعنى سمعت، وقال الكلبي أعلمناك وهذا بعيد، لأن أهل القيامة يعلمون الله ويعلمون أنه يعلم الأشياء علمًا واجبًا، فالإعلام في حقه محال.
ثم قال: {مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} وفيه وجوه الأول: ليس أحد منا يشهد بأن لك شريكًا، فالمقصود أنهم في ذلك اليوم يتبرءون من إثبات الشريك لله تعالى الثاني: ما منا من أحد يشاهدهم لأنهم ضلوا عنهم وضلت عنهم آلهتهم لا يبصرونها في ساعة التوبيخ الثالث: أن قوله: {مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} كلام الأصنام فإن الله يحييها، ثم إنها تقول ما منا من أحد يشهد بصحة ما أضافوا إلينا من الشركة، وعلى هذا التقدير فمعنى أنها لا تنفعهم فكأنهم ضلوا عنهم.
ثم قال: {وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ} وهذا ابتداء كلام من الله تعالى يقول إن الكفار ظنوا أولًا ثم أيقنوا أنه لا محيص لهم عن النار والعذاب، ومنهم من قال إنهم ظنوا أولًا أنه لا محيص لهم عن النار ثم أيقنوا ذلك بعده، وهذا بعيد لأن أهل النار يعلمون أن عقابهم دائم، ولما بيّن الله تعالى من حال هؤلاء الكفار أنهم بعد أن كانوا مصرين على القول بإثبات الشركاء والأضداد لله في الدنيا تبرءوا عن تلك الشركاء في الآخرة بين أن الإنسان في جميع الأوقات متبدل الأحوال متغير المنهج، فإن أحس بخير وقدرة انتفخ وتعظم وإن أحسّ ببلاء ومحنة ذبل، كما قيل في المثل: إن هذا كالقرلى، إن رأى خيرًا تدلى، وإن رأى شرًا تولى، فقال: {لاَّ يَسْأمُ الإنسان مِن دُعَاء الخير وَإِن مَّسَّهُ الشر فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} يعني أنه في حال الإقبال ومجيء المرادات لا ينتهي قط إلى درجة إلا ويطلب الزيادة عليها ويطمع بالفوز بها، وفي حال الإدبار والحرمان يصير آيسًا قانطًا، فالانتقال من ذلك الرجاء الذي لا آخر له إلى هذا اليأس الكلي يدل على كونه مبتدل الصفة متغير الحال وفي قوله: {يئوس قنوط} مبالغة من وجهين أحدهما: من طريق بناء فعول والثاني: من طريق التكرير واليأس من صفة القلب، والقنوط أن يظهر آثار ليأس في الوجه والأحوال الظاهرة.
ثم بيّن تعالى أن هذا الذي صار آيسًا قانطًا لو عاودته النعمة والدولة، وهو المراد من قوله: {وَلَئِنْ أذقناه رَحْمَةً مّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ} فإن هذا الرجل يأتي بثلاثة أنواع من الأقاويل الفاسدة والمذاهب الباطلة الموجبة للكفر والبعد عن الله تعالى فأولها أنه لابد وأن يقول هذا لي وفيه وجهان الأول: معناه أن هذا حقي وصل إلي، لأني استوجبته بما حصل عندي من أنواع الفضائل وأعمال البر والقربة من الله ولا يعلم المسكين أن أحدًا لا يستحق على الله شيئًا، وذلك لأنه إن كان ذلك الشخص عاريًا عن الفضائل، فهذا الكلام ظاهر الفساد وإن كان موصوفًا بشيء من الفضائل والصفات الحميدة، فهي بأسرها إنما حصلت له بفضل الله وإحسانه، وإذ تفضل الله بشيء على بعض عبيده، امتنع أن يصير تفضله عليه بتلك العطية سببًا لأن يستحق على الله شيئًا آخر، فثبت بهذا فساد قوله إنما حصلت هذه الخيرات بسبب استحقاقي والوجه الثاني: أن هذا لي أي لا يزول عني ويبقى علي وعلى أولادي وذريتي.
والنوع الثاني: من كلماتهم الفاسدة أن يقول {وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً} يعني أنه يكون شديد الرغبة في الدنيا عظيم النفرة عن الآخرة، فإذا آل الأمر إلى أحوال الدنيا يقول إنها لي وإذا آل الأمر إلى الآخرة يقول {وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً}.
والنوع الثالث: من كلماتهم الفاسدة أن يقول {وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى رَبّي إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى} يعني أن الغالب على الظن أن القول بالبعث والقيامة باطل، وبتقدير أن يكون حقًا فإن لي عنده للحسنى، وهذه الكلمة تدل على جزمهم بوصولهم إلى الثواب من وجوه الأول: أن كلمة إن تفيد التأكيد الثاني: أن تقديم كلمة لي تدل على هذا التأكيد الثالث: قوله: {عِندَهُ} يدل على أن تلك الخيرات حاضرة مهيئة عنده كما تقول لي عند فلان كذا من الدنانير، فإن هذا يفيد كونها حاضرة عنده، فلو قلت إن لي عند فلان كذا من الدنانير لا يفيد ذلك والرابع: اللام في قوله: {للحسنى} تفيد التأكيد الخامس: للحسنى يفيد الكمال في الحسنى.
ولما حكى الله تعالى عنهم هذه الأقوال الثلاثة الفاسدة قال: {فَلَنُنَبّئَنَّ الذين كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ} أي نظهر لهم أن الأمر على ضد ما اعتقدوه وعلى عكس ما تصوروه كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} [الفرقان: 23] {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} في مقابلة قولهم {إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى}. اهـ.