فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكلاهما قد أفات بتأخير الإيمان خيرًا عظيمًا من خير الآخرة بما أضاعه من تزود ثواب في مدة كفره ومن خير الدّنيا بما فاته من شرف السبق بالإيمان والهجرة كما قال تعالى: {لا يستوي منكم من أنفقَ مِن قبللِ الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعدُ وقاتلوا وكلاَّ وعد الله الحسنى} [الحديد: 10].
وفي هذه الآية طرف من الإعجاز بالإخبار عن الغيب إذ أخبرتْ بالوعد بحصول النصر له ولدينه وذلك بما يسَّر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ولخلفائه مِن بعده في آفاق الدّنيا والمشرق والمغرب عامة وفي بَاحة العرب خاصة من الفتوح وثباتها وانطباع الأمم بها ما لم تتيسر أمْثالها لأحد من ملوك الأرض والقياصرة والأكاسرة على قلة المسلمين إن نسب عددهم إلى عدد الأمم التي فتحوا آفاقها بنشر دعوة الإسلام في أقطار الأرض، والتّاريخ شاهد بأن ما تهيأ للمسلمين من عجائب الانتشار والسلطان على الأمم أمر خارق للعادة، فيتبيّن أن دين الإسلام هو الحق وأن المسلمين كلما تمسّكوا بعُرى الإسلام لَقُوا من نصر الله أمرًا عجيبًا يشهد بذلك السابق واللاحق، وقد تحدّاهم الله بذلك في قوله: {أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقّب لحكمه وهو سريع الحساب} [الرعد: 41] ثم قال: {ويقول الذّين كفروا لست مرسلًا قل كفى بالله شهيدًا بيني وبينكم} [الرعد: 43].
ولم يقف ظهور الإسلام عند فتح الممالك والغلب على الملوك والجبابرة، بل تجاوز ذلك إلى التغلغل في نفوس الأمم المختلفة فتقلّدوه دينًا وانبثت آدابه وأخلاقه فيهم فأصلحت عوائدهم ونُظُمهم المدنِيّة المختلفة التي كانوا عليها فأصبحوا على حضارة متماثلة متناسقة وأوجدوا حضارة جديدة سالمة من الرعونة وتفشت لغة القرآن فتخاطبت بها الأمم المختلفة الألسن وتعارفت بواسطتها ونبغت فيهم فطاحل من علماء الدّين وعلماء العربية وأيّمة الأدب العربي وفحول الشعراء ومشاهير الملوك الذين نشروا الإسلام في الممالك بفتوحهم.
فالمراد بالآيات في قوله: {سنريهم آياتنا} ما يشمل الدلائل الخارجة عن القرآن وما يشمل آيات القرآن فإن من جملة معنى رؤيتها رؤية ما يصدِّق أخبارها ويبيّن نصحها إياهم بدعوتها إلى خير الدّنيا والآخرة.
والآفاق: جمع أُفُق بضمتين وتسكن فاؤه أيضًا هو: الناحية من الأرض المتميزة عن غيرها، والناحية من قبة السماء.
وعطف {وفي أنفسهم} يجوزُ أن يكون من عطف الخاص على العام، أي وفي أفق أنفسهم، أي مكّة وما حولها على حذف مضاف.
والأحسن أنْ يكون في الآفاق على عمومه الشامل لأفقهم، ويكون معنى {وفي أنفسهم} أنّهم يرون آيات صدقه في أحوال تصيب أنفسهم، أي ذواتهم مثل الجوع الذي دعا عليهم به النبي صلى الله عليه وسلم ونزل فيه قوله تعالى: {فارتَقِبْ يوم تأتي السماء بدخان مبين} [الدخان: 10]، ومثل ما شاهدوه من مَصارِع كبرائهم يوم بدر وقد توعدهم به القرآن بقوله: {يوم نبطش البطشة الكبرى إنّا منتقمون} [الدخان: 16].
وأيَّة عبرة أعظم من مقتل أبي جهل يوم بدر رماه غلامان من الأنصار وتولى عبد الله بن مسعود ذبحه وثلاثتهم من ضعفاء المسلمين وهو ذلك الجبار العنيد.
وقد قال عند مَوته: لو غيرُ أكَّار قتلني، ومن مقتل أُبيّ بن خلف يومئذٍ بيد النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان قال له بمكة: أنا أقتلُك وقد أيقن بذلك فقال لزوجه ليلة خروجه إلى بدر: والله لو بصق علي لقتلني.
{الحق أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَىْءٍ}.
عَطْفٌ على إعلام الرّسول بما سيظهر من دلائل صدق القرآن وصدق الرّسول صلى الله عليه وسلم زيادة لتَثبيتتِ الرّسول وشرح صدره بأن الله تكفل له بظهور دينه ووضوح صدقه في سائر أقطار الأرض وفي أرض قومه، على طريقة الاستفهام التقريري تحقيقًا لتيقن النبي صلى الله عليه وسلم بكفالة ربّه بحيث كانت ممّا يقرر عليها كنايةً عن اليقين بها، فالاستفهام تقريري.
والمعنى: تكفيك شهادة ربّك بصدقك فلا تلتفت لتكذيبهم، وهذا على حدّ قوله: {لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدًا} [النساء: 166] وقولِه: {وأرسلناك للنّاس رسولًا وكفى بالله شهيدًا} [النساء: 79] فهذا وجه في موقع هذه الآية.
وهنالك وجه آخر أن يكون مساقها مساق تلقين النبي صلى الله عليه وسلم أن يستشهد بالله على أن القرآن من عند الله، فيكون موقعها موقع القَسم بإشهاد الله، وهو قسم غليظ فيه معنى نسبة المقسَم عليه إلى أنه مما يشهَد الله به فيكون الاستفهام إنكاريًا إنكارًا لعدم الاكتفاء بالقَسَم بالله، وهو كناية عن القسم، وعن عدم تصديقهم بالقسَم، فيكون معنى الآية قريبًا من معنى قوله تعالى: {قل كفى بالله شهيدًا بيني وبينكم} [الرعد: 43] وقوله تعالى: {قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدًا} [العنكبوت: 52].
وليس معنى الآية إنكارًا على المشركين أنّهم لم يكتفوا بشهادة الله على صدق القرآن ولا على صدق الرّسول صلى الله عليه وسلم لأنّهم غير معترفين بأن الله شهد بذلك فلا يظهر توجه الإنكار إليهم.
ولقد دلّت كلمات المفسرين في تفسير هذه الآية على تردد في استخراج معناها من لفظها.
وقوله: {أنه على كل شيء شهيد} بدل اشتمال من {بربّك} والتقدير: أو لم يكفهم ربُّك عِلمُه بكل شيء، أي فهو يحقق ما وعدك من دمغهم بالحجة الدالة على صدقك، أو فمن استشهدَ به فقد صدق لأن الله لا يُقرّ من استشهد به كاذبًا فلا يلبثُ أن يأخذه.
وفي الآية على الوجه الثاني من وجهي قوله: {أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} إشارة إلى أن الله لا يصدق من كذب عليه فلا يتم له أمر وهو معنى قول أئمة أصول الدّين: إن دلالة المعجزة على الصدق أن تغيير الله العادة لأجل تحدّي الرّسول صلى الله عليه وسلم قائم مقام قوله: صَدَق عبدي فيما أخبر به عني.
{أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)} تذييلان للسورة وفذلكتان افتتحا بحرف التنبيه اهتمامًا بما تضمناه.
فأما التذييل الأول فهو جُماع ما تضمنته السورة من أحوال المشركين المعاندين إذ كانت أحوالهم المذكورة فيها ناشئة عن إنكارهم البعث فكانوا في مأمن من التفكير فيما بعد هذه الحياة، فانحصرت مساعيهم في تدبير الحياة الدّنيا وانكبُّوا على ما يعود عليهم بالنفع فيها.
وضمير {إنهم} عائد إليهم كما عاد ضمير الجمع في {سنريهم} [فصلت: 53].
وأما التذييل الثاني فهو جامع لكل ما تضمنته السورة من إبطالٍ لأقوالهم وتقويممٍ لاعوجاجهم، لأن ذلك كله من آثار علم الله تعالى بالغيب والشهادة.
وتأكيد الجملتين بحرف التأكيد مع أن المخاطب بهما لا يشكّ في ذلك لقصد الاهتمام بهما واستدعاء النّظر لاستخراج ما تحويانه من المعاني والجزئيات.
والمرية بكسر الميم وهو الأشهر فيها واتفقت عليه القراءات المتواترة، وبكسر الميم وهو لغة مثل: خِفْية وخُفية.
والمرية: الشك.
وحرف الظرفية مستعار لتمكن الشك بهم حتى كأنّهم مظروفون فيه و{مِنْ} ابتدائية وتعدى بها أفعال الشك إلى الأمر المشكوك فيه بتنزيل متعلق الفعل منزلة مثار الفعل بتشبيه المفعول بالمَنشإ كأن الشك جاء من مكان هو المشكوك فيه.
وفي تعليقه بذات الشيء مع أن الشك إنما يتعلق بالأحكام مبالغة على طريقة إسناد الأمور إلى الأعيان والمرادُ أوصافها، فتقدير {في مرية من لقاء ربهم}: في مرية من وقوع لقاء ربّهم وعدممِ وقوعه كقوله تعالى: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} [البقرة: 23] أي في ريب من كونه منزلًا.
وأطلق الشك على جزمهم بعدم وقوع البعث لأن جزمهم خلي عن الدّليل الذي يقتضيه، فكان إطلاق الشك عليه تعريضًا بهم بأن الأوْلى بهم أن يكونوا في شك على الأقل.
ووصف الله بالمحيط مجاز عقلي لأن المحيط بكل شيء هو علمه فأسندت الإحاطة إلى اسم الله لأن المحيط صفة من أوصافه وهو العلم.
وبهاتين الفذلكتين آذن بانتهاء الكلام فكان من براعة الختام. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} لما ذكر تعالى: {من عمل صالحًا} الآية، كان في ذلك دلالة على الجزاء يوم القيامة، وكأن سائلًا قال: ومتى ذلك؟ فقيل: لا يعلمها إلا الله، ومن سئل عنها فليس عنده علم بتعين وقتها، وإنما يرد ذلك إلى الله.
ثم ذكر سعة علمه وتعلقه بما لا يعلمه إلا هو تعالى.
وقرأ أبو جعفر، والأعرج، وشيبة، وقتادة، والحسن بخلاف عنه؛ ونافع، وابن عامر، في غير رواية: أي جلية؛ والمفضل، وحفص، وابن مقسم: {من ثمرات} على الجمع.
وقرأ باقي السبعة، والحسن في رواية طلحة والأعمش: بالإفراد.
ولما كان ما يخرج من أكمام الشجرة وما تحمل الإنات وتضعه هو إيجاد أشياء بعد العدم، ناسب أن يذكر مع علم الساعة، إذ في ذلك دليل على البعث، إذ هو إعادة بعد إعدام، وناسب ذكر أحوال المشركين في ذلك اليوم، وسؤالهم سؤال الوتبيخ فقال: {ويوم يناديهم أين شركائي}: أي الذين نسبتموهم إليّ وزعمتم أنهم شركاء لي، وفي ذلك تهكم بهم وتقريع.
والضمير في يناديهم عام في كل من عبد غير الله، فيندرج فيه عباد الأوثان.
{قالوا آذناك}: أي أعلمناك، قال الشاعر:
آذنتنا ببينها أسماء ** رب ثاو يملّ منه الثواء

وقال ابن عباس: أسمعناك، كأنه استبعد الإعلام لله، لأن أهل القيامة يعلمون أن الله يعلم الأشياء علمًا واجبًا، فالإعلام في حقه محال.
والظاهر أن الضمير في قالوا عائد على المنادين، لأنهم المحدث معهم.
{ما منا} أحد اليوم، وقد أبصرنا وسمعنا.
يشهد أن لك شريكًا، بل نحن موحدون لك، وما منا أحد يشاهدهم لأنهم ضلوا عنهم وضلت عنهم آلهتهم، لا يبصرونها في ساعة التوبيخ.
وقيل: الضمير في قالوا عائد على الشركاء، أي قالت الشركاء: {ما منا من شهيد} أضافوا إلينا من الشرك، وآذناك معلق لأنه بمعنى الإعلام.
والجملة من قوله: {ما منا من شهيد} في موضع المفعول.
وفي تعليق باب أعلم رأينا خلافه، والصحيح أنه مسموع من كلام العرب.
والظاهر أن قولهم: {آذناك} إنشاء، كقولك: أقسمت لأضربن زيدًا، وإن كان إخبارًا سابقًا، فتكون إعادة السؤال توبيخًا لهم.
{وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل}: أي نسوا ما كانوا يقولون في الدنيا ويدعون من الآلهة، أو {وضل عنهم}: أي تلفت أصنامهم وتلاشت، فلم يجدوا منها نصرًا ولا شفاعة، {وظنوا}: أي أيقنوا.
قال السدي: {ما لهم من محيص}: أي من حيدة ورواغ من العذاب.
والظاهر أن ظنوا معلقة، والجملة المنفية في موضع مفعولي ظنوا.
وقيل: تم الكلام عند قوله: {وظنوا}، أي وترجح عندهم أن قولهم: {ما منا من شهيد} منجاة لهم، أو أمر يموهون به.
والجملة بعد ذلك مستأنفة، أي يكون لهم منجمًا، أو موضع روغان.
{لا يسأم الإنسان من دعاء الخير}: هذه الآيات نزلت في كفار، قيل: في الوليد بن المغيرة؛ وقيل: في عتبة بن ربيعة، وكثير من المسلمين يتصفون بوصف أولها من دعاء الخير، أي من طلب السعة والنعمة ودعاء مصدر مضاف للمفعول.
وقرأ عبد الله: {من دعاء بالخير} بباء داخلة على الخير، وفاعل المصدر محذوف تقديره: من دعاء للخير، وهو وإن مسه الشر، أي الفقر والضيق، {فيئوس}: أي فهو يؤوس قنوط، وأتى بهما صيغتي مبالغة.
واليأس من صفة القلب، وهو أن يقطع رجاءه من الخير؛ والقنوط: أن يظهر عليه آثار اليأس فيتضاءل وينكسر.
وبدأ بصيغة القلب لأنها هي المؤثرة فيما يظهر على الصورة من الإنكسار.
{ولئن آذقناه رحمة منا}: سمي النعمة رحمة، إذ هي من آثار رحمة الله.
{من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي}: أي بسعيي واجتهادي، ولا يراها أنها من الله، أو هذا لي لا يزول عني.
{وما أظن الساعة قائمة}: أي ظننا أننا لا نبعث، وأن ما جاءت به الرسل من ذلك ليس بواقع، كما قال تعالى حكاية عنهم: {إن نظن إلا ظنًا وما نحن بمستيقنين} {ولئن رجعت إلى ربي}: ولئن كان كما أخبرت الرسل، {إن لي عنده}: أي عند الله، {للحسنى}: أي الحالة الحسنى من الكرامة والنعمة، كما أنعم عليّ في الدنيا، وأكدوا ذلك باليمين وبتقديم لي عنده على اسم إن، وتدخل لام التأكيد عليه أيضًا، وبصيغة الحسنى يؤنث الأحسن الذي هو أفعل التفضيل.
ولم يقولوا للحسنة، أي الحالة الحسنة.
وقال الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم: للكافر أمنيتان، أما في الدنيا فهذه {إن لي عنده للحسنى}، وأما في الآخرة {يا ليتني كنت ترابًا}.
{لفننبئن الذين كفروا بما عملوا} من الأفعال السيئة، وذلك كناية عن جزائهم بأعمالهم السيئة.
{ولنذيقنهم من عذاب غليظ} في مقابلة {إن لي عنده للحسنى}.
وكني بغليظ: العذاب عن شدته.
{وإذا أنعمنا}: تقدم الكلام على نظيره هذه الجملة في {سبحان} إلا أن في أواخر تلك كان يؤوسًا، وآخر هذه {فذو دعاء عريض}: أي فهو ذو دعاء بإزالة الشر عنه وكشف ضره.
والعرب تستعمل الطول والعرض في الكثرة.
يقال: أطال فلان في الظلم، وأعرض في الدعاء إذا كثر، أي فذو تضرع واستغاثة.
وذكر تعالى في هذه الآية نوعًا من طغيان الإنسان، إذا أصابه الله بنعمة أبطرته النعمة، وإذا مسه الشر ابتهل إلى الله وتضرع.
{قل أرأيتم إن كان}: أي القرآن، {من عند الله}: أبرزه في صورة الاحتمال، وهو من عند الله بلا شك، ولكنه تنزل معهم في الخطاب.
والضمير في {أرأيتم} لكفار قريش.