فصل: قال الشنقيطي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأنى يأتيه الباطل وهو عزيز. محفوظ بأمر الله الذي تكفل بحفظه فقال: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} والمتدبر لهذا القرآن يجد فيه ذلك الحق الذي نزل به، والذي نزل ليقره. يجده في روحه ويجده في نصه. يجده في بساطة ويسر. حقًا مطمئنًا فطريًا، يخاطب أعماق الفطرة، ويطبعها ويؤثر فيها التأثير العجيب.
وهو {تنزيل من حكيم حميد}. والحكمة ظاهرة في بنائه، وفي توجيهه، وفي طريقة نزوله، وفي علاجه للقلب البشري من أقصر طريق. والله الذي نزله خليق بالحمد. وفي القرآن ما يستجيش القلب لحمده الكثير.
ثم يربط السياق بين القرآن وسائر الوحي قبله؛ وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الرسل قبله. ويجمع أسرة النبوة كلها في ندوة واحدة تتلقى من ربها حديثًا واحدًا، ترتبط به أرواحها وقلوبها، وتتصل به طريقها ودعوتها؛ ويحس المسلم الأخير أنه فرع من شجر وارفة عميقة الجذور، وعضو من أسرة عريقة قديمة التاريخ: {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم}.
إنه وحي واحد، ورسالة واحدة، وعقيدة واحدة. وإنه كذلك استقبال واحد من البشرية، وتكذيب واحد، واعتراضات واحدة.. ثم هي بعد ذلك وشيجة واحدة، وشجرة واحدة، وأسرة واحدة، وآلام واحدة، وتجارب واحدة، وهدف في نهاية الأمر واحد، وطريق واصل ممدود.
أي شعور بالأنس، والقوة، والصبر، والتصميم. توحيه هذه الحقيقة لأصحاب الدعوة، السالكين في طريق سار فيها من قبل نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم جميعًا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؟
وأي شعور بالكرامه والاعتزاز والاستعلاء على مصاعب الطريق وعثرتها وأشواكها وعقباتها، وصاحب الدعوة يمضي وهو يشعر أن أسلافه في هذا الطريق هم تلك العصبة المختارة من بني البشر أجمعين؟
إنها حقيقة: {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك}.
ولكن أي آثار هائلة عميقة ينشئها استقرار هذه الحقيقة في نفوس المؤمنين؟
وهذا ما يصنعه هذا القرآن، وهو يقرر مثل هذه الحقيقة الضخمة ويزرعها في القلوب.
ومما قيل للرسل وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل: {إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم}.
ذلك كي تستقيم نفس المؤمن وتتوازن. فيطمع في رحمة الله ومغفرته فلا ييأس منها أبدًا. ويحذر عقاب الله ويخشاه فلا يغفل عنه أبدًا.
إنه التوازن طابع الإسلام الأصيل.
ثم يذكرهم بنعمة الله عليهم أن جعل هذا القرآن عربيًا بلسانهم؛ كما يشير إلى طريقتهم في العنت والإلحاد والجدل والتحريف: {ولو جعلناه قرآنًا أعجميًا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي}.
فهم لا يصغون إليه عربيًا، وهم يخافون منه لأنه عربي يخاطب فطرة العرب بلسانهم. فيقولون: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون. ولو جعله الله قرآنًا أعجميًا لاعترضوا عليه أيضًا، وقالوا لولا جاء عربيًا فصيحًا مفصلًا دقيقًا! ولو جعل بعضه أعجميًا وبعضه عربيًا لاعترضوا كذلك وقالوا أأعجمي وعربي؟! فهو المراء والجدل والإلحاد.
والحقيقة التي تخلص من وراء هذا الجدل حول الشكل، هي أن هذا الكتاب هدى للمؤمنين وشفاء، فقلوب المؤمنين هي التي تدرك طبيعته وحقيقته، فتهتدي به وتشتفي. فأما الذين لا يؤمنون فقلوبهم مطموسة لا تخالطها بشاشة هذا الكتاب، فهو وقر في آذانهم، وعمىً في قلوبهم. وهم لا يتبينون شيئًا. لأنهم بعيدون جدًا عن طبيعة هذا الكتاب وهواتفه: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمىً أولئك ينادون من مكان بعيد}.
ويجد الإنسان مصداق هذا القول في كل زمان وفي كل بيئة. فناس يفعل هذا القرآن في نفوسهم فينشئها إنشاء، ويحييها إحياء؛ ويصنع بها ومنها العظائم في ذاتها وفيما حولها. وناس يثقل هذا القرآن على آذانهم وعلى قلوبهم، ولا يزيدهم إلا صممًا وعمى. وما تغير القرآن. ولكن تغيرت القلوب. وصدق الله العظيم.
ويشير إلى موسى وكتابه واختلاف قومه في هذا الكتاب. يشير إليه نموذجًا للرسل الذين ورد ذكرهم من قبل إجمالًا. وقد أجل الله حكمه في اختلافهم، وسبقت كلمته أن يكون الفصل في هذا كله في يوم الفصل العظيم: {ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب}.
وكذلك سبقت كلمة ربك أن يدع الفصل في قضية الرسالة الأخيرة إلى ذلك اليوم الموعود. وأن يدع الناس يعملون، ثم يجازون على ما يعملون: {من عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد}.
لقد جاءت هذه الرسالة تعلن رشد البشرية، وتضع على كاهلها عبء الاختيار؛ وتعلن مبدأ التبعة الفردية. ولمن شاء أن يختار {وما ربك بظلام للعبيد}.
وبمناسبة الإشارة إلى الأجل المسمى، وتقرير عدل الله فيه، يقرر أن أمر الساعة وعلمها إلى الله وحده، ويصور علم الله في بعض مجالاته صورة موحية تمس أعماق القلوب. وذلك في الطريق إلى عرض مشهد من مشاهد القيامة يسأل فيه المشركون ويجيبون: {إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منا من شهيد وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا ما لهم من محيص}.
والساعة غيب غائر في ضمير المجهول. والثمرات في أكمامها سر غير منظور، والحمل في الأرحام غيب كذلك مستور. وكلها في علم الله، وعلم الله بها محيط. ويذهب القلب يتتبع الثمرات في أكمامها، والأجنة في أرحامها. يذهب في جنبات الأرض كلها يرقب الأكمام التي لا تحصى؛ ويتصور الأجنة التي لا يحصرها خيال! وترتسم في الضمير صورة لعلم الله بقدر ما يطيق الضمير البشري أن يتصور من الحقيقة التي ليس لها حدود.
ويتصور القطيع الضال من البشر، واقفًا أمام هذا العلم الذي لا يند عنه خاف ولا مستور: {ويوم يناديهم أين شركائي}.
هنا في هذا اليوم الذي لا يجدي فيه جدال، ولا تحريف للكلم ولا محال. فماذا هم قائلون؟
{قالوا أذناك ما منا من شهيد}.
أعلمناك، أن ليس منا اليوم من يشهد أنك لك شريك!
{وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا ما لهم من محيص}.
فما عادوا يعرفون شيئًا عن دعواهم السابقة. ووقع في نفوسهم أن ليس لهم مخرج مما هم فيه وتلك أمارة الكرب المذهل، الذي ينسي الإنسان ماضيه كله؛ فلا يذكر إلا ما هو فيه.
ذلك هو اليوم الذي لا يحتاطون له، ولا يحترسون منه، مع شدة حرص الإنسان على الخير، وجزعه من الضر.. وهنا يصور لهم نفوسهم عارية من كل رداء، مكشوفة من كل ستار، عاطلة من كل تمويه: {لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيؤوس قنوط ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض}.
إنه رسم دقيق صادق للنفس البشرية، التي لا تهتدي بهدى الله، فتستقيم على طريق.. رسم يصور تقلبها، وضعفها، ومراءها، وحبها للخير، وجحودها للنعمة، واغترارها بالسراء، وجزعها من الضراء.
رسم دقيق عجيب..
هذا الإنسان لا يسأم من دعاء الخير. فهو ملح فيه، مكرر له، يطلب الخير لنفسه ولا يمل طلبه. وإن مسه الشر. مجرد مس. فقد الأمل والرجاء؛ وظن أن لا مخرج له ولا فرج، وتقطعت به الأسباب؛ وضاق صدره وكبر همه؛ ويئس من رحمة الله وقنط من رعايته. ذلك أن ثقته بربه قليلة، ورباطه به ضعيف!
وهذا الإنسان إذا أذاقه الله منه رحمة بعد ذلك الضر، استخفته النعمة فنسي الشكر، واستطاره الرخاء فغفل عن مصدره. وقال: هذا لي. نلته باستحقاقي وهو دائم علي! ونسي الآخرة واستبعد أن تكون؛ {وما أظن الساعة قائمة}. وانتفخ في عين نفسه فراح يتألى على الله، ويحسب لنفسه مقامًا عنده ليس له، وهو ينكر الآخرة فيكفر بالله. ومع هذا يظن أنه لو رجع إليه كانت له وجاهته عنده! {ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى}! وهو غرور.. عندئذ يجيء التهديد في موضعه لهذا الغرور: {فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ}.
وهذا الإنسان إذا أنعم الله عليه: استعظم وطغى. وأعرض ونأى بجانبه. فأما إذا مسه الشر فيتخاذل ويتهاوى، ويصغر ويتضاءل، ويتضرع ولا يمل الضراعة. فهو ذو دعاء عريض!
أية دقة، وأي تسجيل للصغيرة في نفس الإنسان والكبيرة! إنه خالقه الذي يصفه. خالقه الذي يعرف دروب نفسه. ويعرف أنها تظل تدور في هذه الدروب المنحنية، إلا أن تهتدي إلى الطريق المستقيم.. فتستقيم..
وأمام هذه النفس العارية من كل رداء، المكشوفة من كل ستار، يسألهم: فماذا أنتم إذن صانعون إن كان هذا الذي تكذبون به، من عند الله، وكان هذا الوعيد حقًا؛ وكنتم تعرضون أنفسكم لعاقبة التكذيب والشقاق: {قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد}.
إنه احتمال يستحق الاحتياط. فماذا أخذوا لأنفسهم من وسائل الاحتياط؟!
ويدعهم بعدئذ يفكرون ويحسبون. ويتجه إلى الكون العريض. يكشف عن بعض ما قدر فيه وفي ذوات أنفسهم من مقادير: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط}.
إنه الإيقاع الأخير. وإنه لإيقاع كبير..
إنه وعد الله لعباده بني الإنسان أن يطلعهم على شيء من خفايا هذا الكون، ومن خفايا أنفسهم على السواء. وعدهم أن يريهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم، حتى يتبين لهم أنه الحق. هذا الدين. وهذا الكتاب. وهذا المنهج. وهذا القول الذي يقوله لهم. ومن أصدق من الله حديثًا؟
ولقد صدقهم الله وعده؛ فكشف لهم عن آياته في الآفاق في خلال القرون الأربعة عشر التي تلت هذا الوعد؛ وكشف لهم عن آياته في أنفسهم.
وما يزال يكشف لهم في كل يوم عن جديد.
وينظر الإنسان فيرى البشر قد كشفوا كثيرا جدا منذ ذلك الحين. فقد تفتحت لهم الآفاق. وتفتحت لهم مغاليق النفوس بالقدر الذي شاءه الله.
لقد عرفوا أشياء كثيرة. لو أدركوا كيف عرفوها وشكروا لكان لهم فيها خير كثير.
عرفوا منذ ذلك الحين أن أرضهم التي كانوا يظنونها مركز الكون.. إن هي إلا ذرة صغيرة تابعة للشمس. وعرفوا أن الشمس كرة صغيرة منها في الكون مئات الملايين. وعرفوا طبيعة أرضهم وطبيعة شمسهم- وربما طبيعة كونهم، إن صح ما عرفوه!
وعرفوا الكثير عن مادة هذا الكون الذي يعيشون فيه. إن صح أن هناك مادة. عرفوا أن أساس بناء هذا الكون هو الذرة. وعرفوا أن الذرة تتحول إلى إشعاع. وعرفوا إذن أن الكون كله من إشعاع.. في صور شتى: هي التي تجعل منه هذه الأشكال والأحجام!
وعرفوا الكثير عن كوكبهم الأرضي الصغير. عرفوا أنه كرة أو كالكرة. وعرفوا أنه يدور حول نفسه وحول الشمس. وعرفوا قاراته ومحيطاته وأنهاره. وكشفوا عن شيء من باطنه. وعرفوا الكثير من المخبوء في جوف.
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ (54)} هذا الكوكب من الأقوات. والمنثور في جوه من هذه الأقوات أيضًا!
وعرفوا وحدة النواميس التي تربط كوكبهم بالكون الكبير، وتصرف هذا الكون الكبير. ومنهم من اهتدى فارتقى من معرفة النواميس إلى معرفة خالق النواميس. ومنهم من انحرف فوقف عن ظاهر العلم لا يتعداه. ولكن البشرية بعد الضلال والشرود من جراء العلم، قد أخذت عن طريق العلم تثوب، وتعرف أنه الحق عن هذا الطريق.
ولم تكن فتوح العلم والمعرفة في أغوار النفس بأقل منها في جسم الكون. فقد عرفوا عن الجسم البشري وتركيبه وخصائصه وأسراره الشيء الكثير. عرفوا عن تكوينه وتركيبه ووظائفه وأمراضه، وغذائه وتمثيله، وعرفوا عن أسرار عمله وحركته، ما يكشف عن خوارق لا يصنعها إلا الله.
وعرفوا عن النفس البشرية شيئًا.. إنه لا يبلغ ما عرفوه عن الجسم. لأن العناية كانت متجهة بشدة إلى مادة هذا الإنسان وآلية جسمه أكثر مما كانت متجهة إلى عقله وروحه. ولكن أشياء قد عرفت تشير إلى فتوح ستجيء..
وما يزال الإنسان في الطريق!
ووعد الله ما يزال قائمًا: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق}.
والشطر الأخير من الوعد قد بانت طلائعه منذ مطلع هذا القرن بشكل ملحوظ. فموكب الإيمان يتجمع من فجاج شتى. وعن طريق العلم المادي وحده يفد كثيرون! وهناك أفواج وأفواج تتجمع من بعيد. ذلك على الرغم من موجة الإلحاد الطاغية التي كادت تغمر هذا الكوكب في الماضي. ولكن هذه الموجة تنحسر الآن. تنحسر- على الرغم من جميع الظواهر المخالفة- وقد لا يتم تمام هذا القرن العشرين الذي نحن فيه، حتى يتم انحسارها أو يكاد إن شاء الله. وحتى يحق وعد الله الذي لابد أن يكون:
أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد؟..
وهو الذي أعطى وعده عن علم وعن شهود.
{ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم}.
ومن ثم يقع ما يقع منهم، بسبب هذا الشك في اللقاء. وهو أكيد.
{ألا إنه بكل شيء محيط}.
فأين يذهبون عن لقائه وهو بكل شيء محيط؟. اهـ.

.قال الشنقيطي في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَاءٌ}.