فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وجهةِ ما به الدعوة فإنهم حسبوا أن الله لا يخاطب الرّسل إلا بكتاب ينزله إليه دفعة من السماء فقد قالوا {لن نُؤمن لِرُقيِّك حتى تُنزّل علينا كتابًا نقرؤه} [الإسراء: 93] {وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربّنا} [الفرقان: 21] {وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله} [البقرة: 118] والقائلون هم المشركون.
ومن جهة ما تضمنته الدعوة مما لم تساعد أهواؤهم عليه قالوا: {أجعل الآلهة إلها واحدًا} [ص: 5] {هل ندُلُّكم على رجل ينبِّئكم إذا مُزِّقتم كلَّ مُمَزَّققٍ إنكم لفي خلققٍ جديدٍ} [سبأ: 7].
وجيء بالفعل المضارع في {تدعوهم} للدلالة على تجدد الدعوة واستمرارها.
{إليه الله يجتبى إليه مَن يَشَاء ويهدى إليه مَن}.
استئناف بياني جواب عن سؤال من يسأل: كيف كبرت على المشركين دعوة الإسلام، بأن الله يجتبي من يشاء، فالمشركون الذين لم يقتربوا من هدى الله غيرُ مجتبَيْنَ إلى الله إذ لم يشأ اجتباءهم، أي لم يقدر لهم الاهتداء.
ويجوز أن يكون ردًّا على إحدى شبههم الباعثة على إنكارهم رسالته بأن الله يجتبي من يشاء ولا يلزمه مراعاة عوائدكم في الزعامة والاصطفاء.
والاجتباء: التقريب والاختيار قال تعالى: {قالوا لولا اجتَبَيْتَها} [الأعراف: 203].
ومن يشاء الله اجتباءه مَن هداه إلى دينه ممن ينيب وهو أعلم بسرائر خلقه.
وتقديم المسند إليه وهو اسم الجلالة على الخبر الفِعلي لإفادة القصر ردًّا على المشركين الذين أحالوا رسالة بشر من عند الله.
وحين أكبروا أن يكون الضعفة من المؤمنين خيرًا منهم. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{حم (1) عسق (2)}.
هذه السورة مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر.
وقال ابن عباس: مكية إلا أربع آيات من قوله: {قل لا أسلكم عليه أجرًا إلا المودة في القربى} إلى آخر الأربع آيات، فإنها نزلت بالمدينة.
وقال مقاتل: فيها مدني قوله: {ذلك الذين يبشر الله عباده} الى {الصدور}.
ومناسبة أول السورة لآخر ما قبلها أنه قال: {قل أرأيتم إن كان من عند الله} الآية، وكان في ذلك الحكم عليهم بالضلال.
لما كفروا به قال هنا: {كذلك}، أي مثل الإيحاء السابق في القرآن الذي كفر به هؤلاء، {يوحى إليك}: أي إن وحيه تعالى إليك متصل غير منقطع، يتعهدك وقتًا بعد وقت.
وذكر المفسرون في {حم عسق} أقوالًا مضطربة لا يصح منها شيء كعادتهم في هذه الفواتح، ضربنا عن ذكرها صفحًا.
وقرأ الجمهور: يوحي مبنيًا للفاعل؛ وأبو حيوة، والأعشى عن أبي بكر، وأبان: نوحي بنون العظمة؛ ومجاهد، وابن وكثير، وعباس، ومحبوب، كلاهما عن أبي عمرو: يوحي مبنيًا للمفعول؛ والله مرفوع بمضمر تقديره أوحي، أو بالابتداء، التقدير: الله العزيز الحكيم الموحي؛ وعلى قراءة نوحي بالنون، يكون {الله العزيز الحكيم} مبتدأ وخبرًا.
ويوحي، إما في معنى أوجب حتى ينتظم قوله: {وإلذين من قبلك}، أو يقرأ على موضوعه، ويضمر عامل يتعلق به إلى الذين تقديره: وأوحي إلى الذين من قبلك.
وتقدم الكلام على {تكاد السماوات يتفطرن} في سورة مريم قراءة وتفسيرًا.
وقال الزمخشري: وروى يونس عن أبي عمر وقراءة عربية: تتفطرن بتاءين مع النون، ونظيرها حرف نادر روي في نوادر ابن الأعرابي: الإبل تتشممن. انتهى.
والظاهر أن هذا وهم من الزمخشري في النقل، لأن ابن خالويه ذكر في شواذ القرأءات له ما نصب: تفطرن بالتاء والنون، يونس عن أبي عمرو.
وقال ابن خالويه: هذا حرف نادر، لأن العرب لا تجمع بين علامتي التأنيث.
لا يقال: النساء تقمن، ولكن يقمن، والوالدات يرضعن.
قد كان أبو عمر الزاهد روى في نوادر ابن الأعرابي: الإبل تتشممن، فأنكرناه، فقد قواه، لأن هذا كلام ابن خالويه.
فإن كانت نسخ الزمخشري متفقة على قوله بتاءين مع النون فهو وهم، وإن كان في بعضها بتاء مع النون، كان موافقًا لقول ابن خالويه، وكان بتاءين تحريفًا من النساخ.
وكذلك كتبهم تتفطرن وتتشممن بتاءين.
والظاهر عود الضمير في {فوقهن} على {السماوات}.
قال ابن عطية: من أعلاهن.
وقال الزمخشري: ينفطرن من علو شأن الله تعالى وعظمته، ويدل عليه مجيئه بعد {العلي العظيم}.
وقيل: من دعائهم له ولدًا، كقوله: {تكاد الصمات يتفطرن منه} فإن قلت: لم قال: {من فوقهن}؟ قلت: لأن أعظم الآيات وأدلها على الجلال والعظمة فوق السماوات، وهي العرض والكرسي وصفوف الملائكة المرتجة بالتسبيح والتقديس حول العرش، وما لا يعلم كنهه إلا الله من آثار ملكوته العظمى، فلذلك قال: {يتفطرن من فوقهن}: أي يبتدىء الانفطار من جهتهن الفوقانية.
وقال جماعة، منهم الحوفي، قال: {من فوقهن}، والهاء والنون كناية عن الأرضين. انتهى.
{من فوقهن} متعلق يتفطرن، ويدل على هذا القول ذكر الأرض قبل.
وقال علي بن سليمان الأخفش: الضمير للكفار، والمعنى: من فوق الفرق والجماعات الملحدة، أي من أجل أقوالها. انتهى.
فهذه الآية كالذي في سورة مريم، واستبعد مكي هذا القول، قال: لا يجوز في الذكور من بني آدم، يعني ضمير المؤنث والاستشعار ما ذكره مكي.
قال علي بن سليمان: من فوق الفرق والجماعات، وظاهر الملائكة العموم.
وقال مقاتل: حملة العرش والتسبيح، قيل: قولهم سبحان الله، وقيل: يهللون؛ والظاهر يستغفرون طلب الغفران، ولأهل الأرض عام مخصوص بقوله: {ويستغفرون للذين آمنوا} قاله السدي.
وقيل: عام.
ومعنى الاستغفار: طلب الهداية المؤدية إلى المغفرة، كأنهم يقولون: اللهم اهد أهل الأرض، فاغفر لهم. ويدل عليه وصفه بالغفران والحرمة والاستفتاح.
وقال الزمخشري: ويحتمل أن يقصدوا بالاستغفار لهم: طلب الحلم والغفران في قوله: {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا}، إلى أن قال: {إنه كان حليمًا غفورًا} وقوله: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم} والمراد: الحلم عنهم، وأن لا يعاجلهم بالانتقام فيكون عامًا. انتهى.
وتكلم أبو عبد الله الرازي في قوله: {تكاد السماوات} كلامًا خارجًا عن مناحي مفهومات العرب، منتزعًا من كلام الفلاسفة ومن جرى مجراهم، يوقف على ذلك في كتابه.
{والذين اتخذوا من دونه أولياء}: أي أصنامًا وأوثانًا، {الله حفيظ عليهم}: أي على أعمالهم ومجازيهم عليها، {وما أنت عليهم بوكيل}: أي بمفوض إليك أمرهم ولا قائم.
وما في هذا من الموادعة منسوخ بآية السيف.
{وكذلك}: أي ومثل هذا الإيحاء والقضاء، إنك لست بوكيل عليهم، {أوحينا إليك قرآنًا عربيًّا}.
والظاهر أن {قرآنًا} مفعول {أوحينا}.
وقال الزمخشري: الكاف مفعول به، أي أوحيناه إليك، وهو قرأن عربي لا لبس فيه عليك، إذ نزل بلسانك. انتهى.
فاستعمل الكاف اسمًا في الكلام، وهو مذهب الأخفش.
{لتنذر أم القرى}: مكة، أي أهل أم القرى، وكذلك المفعول الأول محذوف، والثاني هو: {يوم الجمع}: أي اجتماع الخلائق، والمنذر به هو ما يقع في يوم الجمع من الجزاء وانقسام الجمع إلى الفريقين، أو اجتماع الأرواح بالأجساد، أو أهل الأرض بأهل السماء، أو الناس بأعمالهم، أقوال أربعة.
{لينذر} بياء الغيبة، أي لينذر القرآن.
{لا ريب فيه}: أي لا شك في وقوعه.
وقال الزمخشري: {لا ريب فيه}: اعتراض لا محالة. انتهى.
ولا يظهر أنه اعتراض، أعني صناعيًا، لأنه لم يقع بين طالب ومطلوب.
وقرأ الجمهور: {فريق} بالرفع فيهما، أي هم فريق أو منهم فريق.
وقرأ زيد بن عليّ بنصبهما، أي افترقوا، فريقًا في كذا، وفريقًا في كذا؛ ويدل على الافتراق: الاجتماع المفهوم من يوم الجمع.
{ولو شاء الله لجعلهم أمّة واحدة}: يعني من إيمان أو كفر، قال معناه الضحاك، وهو قول أهل السنة، وذلك تسلية للرسول.
كما كان يقاسيه من كفر قومه، وتوقيف على أن ذلك راجع إلى مشيئته، ولكن من سبقت له السعادة أدخله في رحمته.
وقال الزمخشري: {لجعلهم أمة واحدة}: أي مؤمنين كلهم على القسر والإكراه، كقوله: {ولو شيءنا لآتينا كل نفس هداها} وقوله: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا} والدليل على أن المعنى هو الإيحاء إلى الإيمان قوله: {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}، وذكر ما ظنه استدلالًا على ذلك، وهو على طريق الاعتزال.
وقال أنس بن مالك: {في رحمته}: في دين الإسلام.
{أم اتخذوا من دونه أولياء}، أم بمعنى بل، للانتقال من كلام إلى كلام، والهمزة للإنكار عليهم اتخاذ أولياء من دون الله.
وقيل: أم بمعنى الهمزة فقط، وتقدّم الكلام على مثل هذا، حيث جاءت أم المنقطعة، والمعنى: اتخذوا أولياء دون الله، وليسوا بأولياء حقيقة، فالله هو الولي، والذي يجب أن يتولى وحده، لا ما لا يضر ولا ينفع من أوليائهم.
ولما أخبر أنه هو الولي، عطف عليه هذا الفعل الغريب الذي لا يقدر عليه غيره، وهو إحياء الموتى.
ولما ذكر هذا الوصف، ذكر قدرته على كل شيء تتعلق إرادته به.
وقال الزمخشري: في قوله: {فالله هو الولي}، والفاء في قوله: {فالله هو الولي} جواب شرط مقدر، كأنه قيل: بعد إنكار كل ولي سواه، وإن أراد وليًا بحق، فالله هو الولي بالحق، لا ولي سواه. انتهى.
ولا حاجة إلى تقدير شرط محذوف، والكلام يتم بدونه.
{وما اختلفتم فيه من شيء}: هذا حكاية لقول الرسول، أي ما اختلفتم فيه أيها الناس من تكذيب أو تصديق وإيمان وكفر وغير ذلك، فالحكم فيه والمجازاة عليه ليس ذلك إلا إلى الله، لا إليّ، ولفظة من شيء تدل على العموم.
وقيل: من شيء من الخصومات، فتحاكموا فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تؤثروا على حكومته حكومة غيره، كقوله: {وإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول} وقيل: {من شيء}: من تأويل آية واشتبه عليكم، فارجعوا في بيانه إلى آي المحكم من كتاب الله، والظاهر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل: ما وقع منكم الخلاف فيه من العلوم التي لا تتصل بتكليفكم، ولا طريق لكم إلى علمه، فقولوا: الله أعلم، كمعرفة الروح.
وقال الزمخشري: أي ما خالفكم فيه الكفار من أهل الكتاب والمشركين فاختلفتم أنتم وهم فيه من أمور الدين، فحكم ذلك المختلف فيه مفوض إلى الله، وهو إثابة المحقين فيه من المؤمنين ومعاتبة المبطلين.
{ذلكم}: الحكم بينكم هو {ربي عليه توكلت} في رد كيد أعداء الدين، وإليه أرجع في كفاية شرهم. انتهى.
وقرأ الجمهور: {فاطر} بالرفع، أي هو فاطر، أو خبر بعد خبر كقوله: {ذلكم}.
وقرأ زيد بن عليّ: فاطر بالجر، صفة لقوله: {إلى الله}، والجملة بعدها اعتراض بين الصفة والموصوف.
{جعل لكم من أنفسكم}: أي من جنس أنفسكم، أي آدميات، {أزواجًا}: إناثًا، أو جعل الخلق لأبينا آدم من ضلعه حواء زوجًا له خلقًا لنا، {ومن الأنعام أزواجًا}: أي أنواعًا كثيرة، ذكورًا وإناثًا، أو أزواجًا إناثًا.
{يذرؤكم فيه}، قال ابن عباس: أي يجعل لكم فيه معيشية تعيشون بها.
وقال ابن زيد: يرزقكم فيه، وهو قريب من القول قبله.
وقال مجاهد: يخلقكم في بطون الإناث.
وقال ابن زيد أيضًا: يذرأكم فيما خلق من السماوات والأرض.
وقال الزجاج: يكثركم به، أي فيه، أي يكثركم في خلقكم أزواجًا.
وقال عليّ بن سليمان: ينقلكم من حال إلى حال.
وقال ابن عطية: الضمير في فيه للجعل، أي يخلقكم ويكثركم في الجعل، كما تقول: كلمت زيدًا كلامًا أكرمته فيه، قال: ولفظة ذرأ تزيد على لفظة خلق معنى آخر ليس في خلق، وهو توالي الطبقات على مر الزمان.
وقال الزمخشري: {يذرؤكم}: يكثركم، يقال ذرأ الله الخلق: بثهم وكثرهم، والذرء والذروء والذرواء أخوات في هذا التدبير، وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجًا حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل.
والضمير في يذرؤكم يرجع إلى المخاطبين والأنعام، مغلبًا فيه المخاطبون العقلاء على الغيه مما لا يعقل، وهي من الأحكام ذات العلتين. انتهى.
وقوله: وهي من الأحكام ذات العلتين، اصطلاح غريب، ويعني أن الخطاب يغلب على الغيبة إذا اجتمعا فتقول: أنت وزيد تقومان؛ والعاقل يغلب على غير العاقل إذا اجتمعا، فتقول: الحيوان وغيرهم يسبحون خالقهم.
قال الزمخشري؛ فإن قلت: ما معنى يذرؤكم في هذا التدبير؟ وهلا قيل: يذرؤكم به؟ قلت: جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير.
ألا تراك تقول للحيوان في خلق الأزواج تكثير؟ كما قال تعالى: {ولكم في القصاص حياة} انتهى.