فصل: قال أبو السعود في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{ليس كمثله شيء}، تقول العرب: مثلك لا يفعل كذا، يريدون به المخاطب، كأنهم إذا نفوا الوصف عن مثل الشخص كان نفيًا عن الشخص، وهو من باب المبالغة، ومثل الآية قول أوس بن حجر:
ليس كمثل الفتى زهير ** خلق يوازيه في الفضائل

وقال آخر:
وقتلى كمثل جذوع النخـ ** ـيل تغشاهم مسبل منهمر

وقال آخر:
سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم ** ما إن كمثلهم في الناس من أحد

فجرت الآية في ذلك على نهج كلام العرب من إطلاق المثل على نفس الشيء.
وما ذهب إليه الطبري وغيره من أن مثلًا زائدة للتوكيد كالكاف في قوله:
فأصبحت مثل كعصف مأكول

وقوله:
وصاليات ككما يؤثفين

ليس بجيد، لأن مثلًا اسم، والأسماء لا تزاد، بخلاف الكاف، فإنها حرف، فتصلح للزيادة.
ونظير نسبة المثل إلى من لا مثل له قولك: فلان يده مبسوطة، يريد أنه جواد، ولا نظير له في الحقيقة إلى اليد حتى تقول ذلك لمن لا يد له، كقوله: {بل يداه مبسوطتان} فكما جعلت ذلك كناية عن الجواد فيمن لا يد له، فكذلك جعلت المثل كناية عن الذوات في من لا مثل له.
ويحتمل أيضًا أن يراد بالمثل الصفة، وذلك سائغ، يطلق المثل بمعنى المثل وهو الصفة، فيكون المعنى: ليس مثل صفته تعالى شيء من الصفات التي لغيره، وهذا محمل سهل، والوجه الأول أغوص.
قال ابن قتيبة: العرب تقيم المثال مقام النفس، فيقول: مثلي لا يقال له هذا، أي أنا لا يقال لي هذا. انتهى.
فقد صار ذلك كناية عن الذات، فلا فرق بين قولك: ليس كالله شيء، أو ليس كمثل الله شيء.
وقد أجمع المفسرون على أن الكاف والمثل يراد بهما موضوعهما الحقيقي من أن كلًا منهما يراد به التشبيه، وذلك محال، لأن فيه إثبات مثل لله تعالى، وهو محال.
{وهو السميع} لأقوال الخلق، {البصير} لأعمالهم.
وتقدم تفسير: {له مقاليد السماوات والأرض} في سورة الزمر؛ وقرئ: {ويقدر}: أي يضيق.
{إنه بكل شيء عليم}: أي يوسع لمن يشاء، ويضيق على من يشاء.
وقال الزمخشري: فإذا علم أن الغنى خير للعبد أغناه لا أفقره.
انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{حم عسق} اسمانِ للسورةِ، ولذلكَ فصِلَ بينهما. وعُدَّا آيتينِ، وقيلَ: اسمٌ واحدٌ والفصلُ ليناسبَ سائرَ الحواميمِ. وقرئ {حم سق}. فعلى الأولِ هُما خبرانِ لمبتدأٍ محذوفٍ، وقيلَ: {حم} مبتدأٌ و{عسق} خبرُهُ وعَلى الثَّانِي الكلُّ خبرٌ واحدٌ.
وقوله تعالى: {كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ الله العزيز الحكيم} كلامٌ مستأنفٌ واردٌ لتحقيق أنَّ مضمونَ السورةِ موافقٌ لما في تضاعيفِ سائرِ الكتبِ المنزَّلةِ على الرسلِ المتقدمةِ في الدعوةِ إلى التوحيدِ والإرشادِ إلى الحقِّ أو أنَّ إيحاءهَا مثلُ إيحائِها بعدَ تنويهِها بذكرِ اسمِها والتنبيه على فخامةِ شأنها. والكافُ في حيزِ النصبِ على أنَّه مفعولٌ ليُوحِي عَلى الأولِ وعلى أنه نعتٌ لمصدرٍ مؤكدٍ لهُ على الثَّانِي وذلك على الأول إشارةٌ إلى ما فيها وعلى الثَّانِي إلى إيحائِها، وما فيه مِنْ مَعْنى البُعدِ للإيذانِ بعلوِّ رتبة المشارِ إليه وبُعدِ منزلتِه في الفضل أي مثل ما في هذه السورةِ من المعانِي أُوحيَ إليكَ في سائر السورِ وإلى من قبلك من الرسلِ في كتبِهم، على أنَّ مناطَ المماثلةِ ما أُشيرَ إليه من الدعوة إلى التوحيد والإرشاد إلى الحق وما فيه صلاحُ العبادِ في المعاش والمعادِ، أو مثلَ إيحائِها أُوحيَ إليكَ عند إيحاء سائرِ السورِ وإلى سائرِ الرسلِ عند إيحاء كتبِهم إليهم لا إيحاء مغايرًا له كما في قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ} الآيةَ. على أنَّ مدارَ المْثليةِ كونُه بواسطةِ الملكِ. وصيغةُ المضارعِ على حكايةِ الحالِ الماضيةِ للإيذان باستمرارِ الوحي وأنَّ إيحاء مثلِه عادتُه. وفي جعلِ مضمونِ السورةِ أو إيحائها مشبهًا به من تفخيمِها ما لا يخفى وكذا في وصفِه تعالى بوصفي العزةَ والحكمةِ. وتأخيرُ الفاعلِ لمراعاةِ الفواصلِ مع ما فيهِ من التشويقِ. وقرئ {يُوحَى}، على البناء للمفعولِ على أنَّ {كذلكَ} مبتدأٌ و{يُوحَى} خبره المسندُ إلى ضميرِه أو مصدرٍ، و{يُوحَى} مسندٌ إلى {إليكَ} و{الله} مرتفعٌ بما دلَّ عليهِ {يُوحَى} كأنَّه قيلَ: مَنْ يُوحِي، فقيلَ الله. و{العزيزُ الحكيمُ} صفتان لهُ، أو مبتدأٌ كما في قراءة {نُوحِي}، و{العزيزُ} وما بعدَهُ خبرانِ له أو {العزيرُ الحكيمُ} صفتانِ له.
وقوله تعالى: {لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العلى العظيم} خبرانِ له وعلى الوجوهِ السابقةِ استئنافٌ مقر لعزتِه وحكمتِه.
{تَكَادُ السماوات} وقرئ بالياء {يَتَفَطَّرْنَ} يتشقّقنَ من عظمةِ الله تعالى وقيلَ: من دعاء الولدِ له كما في سُورةِ مريمَ وقرئ {يَنْفَطرنَ}، والأولُ أبلغُ لأنَّه مطاوعُ فطَّر، وهذا مطاوعُ فَطَر. وقرئ {تَنْفطِرْنَ} بالتاء لتأكيدِ التأنيثِ وهو نَادرٌ {مِن فَوْقِهِنَّ} أي يبتدأُ التفطرُ من جهتهنَّ الفوقانيةِ وتخصيصُها على الأولِ لما أنَّ أعظمَ الآياتِ وأدلَّها على العظمةِ والجلالِ من تلكَ الجهةِ، وعلى الثَّانِي للدلالةِ على التفطرِ من تحتهنَّ بالطريقِ الأَولى، لأنَّ تلكَ الكلمةَ الشنعاء الواقعةَ في الأرضِ حيثُ أثرتْ في جهةِ الفوقِ فلأنْ تؤثرَ في جهةِ التحتِ أَوْلى وقيلَ: الضميرُ للأرضِ فإنَّها في مَعنْى الأرضينَ {والملائكة يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ} ينزهونَهُ تعالى عمَّا لا يليقُ به ملتبسينَ بحمدِه {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن في الأرض} بالسَّعي فيما يستدعِي مغفرتَهُم من الشفاعةِ والإلهامِ وترتيبِ الأسبابِ المقربةِ إلى الطاعةِ واستدعاء تأخيرِ العقوبةِ طمعًا في إيمانِ الكافرِ وتوبةِ الفاسقِ. وهذا يعمُّ المؤمنَ والكافرَ، بلْ لو فُسِّر الاستغفارُ بالسَّعي فيما يدفعُ الخللَ المتوقعَ عمَّ الحيوانَ بلِ الجمادَ وحيثُ حُصَّ بالمؤمنينَ كَما في قوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ} فالمرادُ به الشفاعةُ {أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم} إذْ ما منْ مخلوقٍ إلا ولَهُ حظٌ عظيمٌ من رحمتِه تعالى، والآيةُ عَلى الأولِ زيادةُ تقرير لعظمتِه تعالى، وعلى الثَّاني بيانٌ لكمالِ تقدُّسهِ عمَّا نُسبَ إليه، وأنَّ تركَ معاجلتِهم بالعقابِ على تلك الكلمةِ الشنعاء بسببِ استغفارِ الملائكةِ وفرطِ غفرانِه ورحمتِه، ففيها رمزٌ إلى أنَّه يقبلُ استغفارَهُم ويزيدُهُم على ما طلبُوه من المغفرةِ رحمةً.
{والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} شركاء وأندادًا {الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} رقيبٌ على أحوالِهم وأعمالِهم فيجازيَهمُ بها {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} بموكّلٍ بهم أو بموكولٍ إليك أمرُهم وإنما وظيفتُكَ الإنذارُ.
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قرءانًا عَرَبِيًّا} ذلكَ إشارةٌ إلى مصدر {أَوْحَينا} ومحلُّ الكافِ النصبُ على المصدريةِ، و{قرأنا عربيًّا} مفعول لأوحينَا أي ومثلَ ذلكَ الإيحاء البديعِ البيِّنِ المفُهم {أَوْحينا إليكَ قرآنًا عربيًّا} لا لَبْسَ فيه عليكَ ولا على قومكَ، وقيلَ: إشارةٌ إلى مَعْنى الآيةِ المتقدمةِ من أنَّه تعالى هُو الحفيظُ عليهم وإنما أنتَ نذيرٌ فحسب، فالكافُ مفعولٌ به لأَوحينا، و{قرآنًا عربيًّا} حالٌ من المفعولِ بِه أيْ أوحيناهُ إليكَ وهو قرأن عربيٌّ بيِّنٌ.
{لّتُنذِرَ أُمَّ القرى} أيْ أهلَها وهيَ مكةُ {وَمَنْ حَوْلَهَا} من العربِ {وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع} أي يومَ القيامةِ لأنه يُجمعُ فيه الخلائقُ قال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع} وقيلَ: تُجمعُ فيه الأرواحُ والأشباحُ، وقيلَ: الأعمالُ والعُمالُ. والإنذارُ يتعدَّى إلى مفعولينِ، وقد يستعملُ ثانيهما بالباء، وقد حُذفَ هنها ثانِي مفعولَيْ الأولِ وأولُ مفعولَيْ الثَّانِي للتهويلِ وإيهامِ التعميمِ. وقرئ لينذرَ بالياء على أنَّ فاعلَهُ ضميرُ القرآن.
{لاَ رَيْبَ فِيهِ} اعتراضٌ مقررٌ لما قبلَهُ {فَرِيقٌ في الجنة وَفَرِيقٌ في السعير} أي بعدَ جمعِهم في الموقفِ فإنَّهم يُجمعونَ فيه أولًا ثمَّ يفرقونَ بعد الحسابِ، والتقديرُ منهمُ فريقٌ والضميرُ للمجموعينَ لدلالةِ الجمعِ عليهِ وقرئا منصوبينِ على الحاليةِ منهُم أيْ وتنذرَ يومَ جمعِهم متفرقين أي مشارفينَ للتفرقَ أو متفرقينَ في دارَيْ الثوابِ والعقابِ.
{وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَهُمْ} أي في الدُّنيا {أُمَّةً وَاحِدَةً} وقيل: مهتدينَ أو ضَالِّينَ وهو تفصيلٌ لما أجملَهُ ابن عباسٍ رضي الله عنهما في قوله على دينٍ واحدٍ فمعنى قوله تعالى: {ولكن يُدْخِلُ مَن يَشَاء في رَحْمَتِهِ} أنه تعالى يُدخلُ في رحمتِه من يشاء أنْ يدخلَهُ فيها ويدخلُ في عذابِه من يشاء أن يدخلَهُ فيهِ ولا ريبَ في أنَّ مشيئَته تعالى لكلَ من الإدخالينِ تابعةً لاستحقاقِ كلَ من الفريقينِ لدخولِ مُدخلِه. ومن ضرورةِ اختلافِ الرحمةِ والعذابِ اختلافْ حالِ الداخلينَ فيهما قطعًا فلم يشأْ جعلَ الكلِّ أمةً واحدةً بلْ جعلَهُم فريقينِ، وإنَّما قيلَ: {والظالمون مَا لَهُمْ مّن وَلِىّ وَلاَ نَصِيرٍ} للإيذانِ بأنَّ الإدخالَ في العذابِ من جهِه الداخلينَ بموجبِ سُوء اختبارِهم لا من جهتِه تعالى كما في الإدخال في الرحمة لا لِما قيلَ من المبالغةِ في الوعيدِ وقيلَ مؤمنين كلَّهم وهو ما قاله مقاتلٌ على دينِ الإسلامِ كما في قوله تعالى: {وَلَوْ شَاء الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى} وقوله تعالى: {وَلَوْ شيءنَا لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} والمَعنْى ولو شاء الله مشيئةَ قُدرةٍ لقسرَهُم على الإيمانِ ولكنَّه شاء مشيئةَ حكمةٍ، وكلَّفَهم وبنى أمرَهُم على مَا يختارُون ليدخلَ المؤمنينَ في رحمتِه وهم المُرادونَ بقوله تعالى: {يُدْخِلُ مَن يَشَاء} وتركَ الظالمينَ بغيرِ وَليَ ولا نصيرٍ، وأنت خبيرٌ بأنَّ فرضَ جعلِ الكلِّ مؤمنينَ يأباهُ تصديرُ الاستدراكِ بإدخالِ بعضِهم في رحمته إذِ الكلُّ حينئذٍ داخلونَ فيَها فكانَ المناسبُ حينئذٍ تصديَرُه بإخراجِ بعضِهم مِنْ بينِهم وإدخالِهم في عذابِه فالذي يقتضيهِ سياقُ النظمِ الكريمِ وسباقُه أنْ يرادَ الاتحادُ في الكُفرِ، كما في قوله تعالى: {كَانَ الناس أُمَّةً واحدة فَبَعَثَ الله النبيين} الآيةَ على أحدِ الوجهينِ بأنْ يُرادَ بهم الذين في فترة إدريسَ أو في فترةِ نوحٍ عليهما السلامُ فالمَعْنى ولو شاء الله لجعلَهُم أمةً واحدةً متّفقةً على الكُفرِ، بأنْ لا يرسلَ إليهم رسولًا لينذرَهُم ما ذُكِرَ من يومِ الجمعِ وما فيهِ من ألوانِ الأهوالِ فيبقُوا على ما هُم عليهِ من الكُفرِ ولكنْ يدخلُ منْ يشاء في رحمتِه أي شأنُه ذلكَ فيرسلُ إلى الكلِّ مَن ينذرُهم ما ذُكِرِ فيتأثرُ بعضُهم بالإنذارِ فيصرفونَ اختيارَهُم إلى الحقِّ فيوفقُهم الله للإيمانِ والطاعةِ ويُدخلِهُم في رحمتِه ولا يتأثرُ به الآخرونَ ويتمادَوْنَ في غيِّهم، وهم الظالمونَ فيبقَونَ في الدُّنيا على ما هُم عليهِ من الكُفرِ ويصيرونَ في الآخرة إلى السعير من غير وَليَ يَلي أمرَهُم ولا نصيرٍ يخلصُهم من العذابِ.
{أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} جملةٌ مستأنفةٌ مقربةٌ لما قبلَها من انتفاء أنْ يكونَ للظالمينَ ولي أو نصيرٌ وأمْ منقطعةٌ وما فيَها من بلْ للاننقال من بيانِ ما قبلَها إلى بيانِ ما بعدَها والهمزةُ لإنكارِ الوقوعِ ونفيِه على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه لا لإنكارِ الواقعِ واستقباحِه، قيلَ: إذِ المرادُ بيانُ أنَّ ما فعلُوا ليسَ من اتخاذِ الأولياء في شيء لأنَّ فرعُ كونِ الأصنامِ أولياء، وهو أظهرُ الممتنِعاتِ أيْ بلْ أتخذُوا متجاوزينَ الله أولياء من الأصنامِ وغيرِها هيهاتَ.
وقوله تعالى: {فالله هُوَ الولى} جوابُ شرطٍ محذوفٍ، كإنَّه قيلَ بعدَ إبطالِ ولايةِ ما اتخذُوه أولياء إنْ أرادُوا وليًا في الحقيقةِ فالله هُو الوليُّ لا وليَّ سواهُ {وَهُوَ يُحْىِ الموتى} أيْ ومن شأنِه ذلكَ {وَهُوَ على كُلّ شيء قَدِيرٌ} فهُو الحقيقُ بأنْ يتخذَ وليًا فليخصُّوه بالاتخاذِ دونَ من لا يقدرُ على شيء.
{وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شيء} حكايةٌ لقول رسولِ الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنينَ أيْ وما خالفَكُم الكفارُ فيهِ منْ أمورِ الدِّينِ فاختلفتُم أنتمُ وهُم {فَحُكْمُهُ} راجعٌ {إِلَى الله} وهو إثابةُ المحقِّينَ وعقابُ المُبطلينَ {ذلكم} الحاكمُ العظيمُ الشأنِ {الله رَبّى} مالِكِي {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في مجامعِ أُمُورِي خاصَّة لاَ على غيرِه {وَإليه أُنِيبُ} أرجعُ في كلِّ ما يَعنُّ لي منْ مُعضلاتِ الأمورِ لا إلى أحدٍ سواهُ وحيثُ كانَ التوكُّل أمرًا واحدًا مستمرًا والإنابةُ متعددة متجددة حسب تجّدُدِ موادّهِا أُوثرَ في الأولِ صيغةُ الماضِي، وفي الثَّانِي صيغةُ المضارعِ، وقيلَ: وما اختلقتُم فيه وتنازعتُم في شيء من الخصوماتِ فتحاكمُوا فيهِ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ولا تُؤثروا على حكومتِه حكومةَ غيرِه، وقيلَ: وما اختلفتُم فيه من تأويل واشتبَه عليكُم فارجِعوا في بيانه إلى المحكمِ من كتابِ الله والظَّاهرِ من سُنَّةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وقيلَ: وما وقعَ بينكُم الخلافُ فيهِ من العلومِ التي تتعلقُ بتكليفِكم ولا طربقَ لكُم إلى علمِه فقولوا الله أعلمُ كمعرفةِ الرُّوحِ ولا مساغَ لحملِ هذا على الاجتهادِ لعدمِ جوازِه بحضرةِ الرَّسولِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ {فَاطِرَ السماوات والأرض} خبرٌ آخرُ لذلكُم أو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أو مبتدأ خبرُهُ {جَعَلَ لَكُمُ} وقرئ بالجرِّ على أنَّه بدلٌ منَ الضميرِ أو وصفٌ للاسمِ الجليلِ في قوله تعالى: {إلى الله} وما بينُهَما اعتراضٌ بينَ الصفةِ والموصوفِ {مّنْ أَنفُسِكُمْ} من جنسِكم {أزواجا} نساء وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على المفعولِ الصريحِ قد مرَّ سرُّه غيرَ مرةٍ {وَمِنَ الأنعام} أي وجعلَ للأنعامِ من جنْسِها {أزواجا} أو خلقَ لكُم من الأنعامِ أصنافًا أو ذكورًا وإناثًا {يَذْرَؤُكُمْ} يكثّركم من الذرْء وهو البثُّ وفي معناهُ الذَّرو والذَّرُّ {فِيهِ} أي فيما ذُكِرَ من التدبيرِ فإنَّ جعلَ الناسِ والأنعامِ أزواجًا يكونُ بينَهم توالدٌ كالمنبعِ للبثِّ والتكثيرِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيء} أي ليسَ مثلَه شيء في شأنِ من الشؤونِ التي من جُمْلتِها هَذا التدبيرُ البديعُ والمراد من مثله ذاتُه كَما في قولهم مثلُكَ لا يفعلُ كَذا على قصدِ المبالغةِ في نفيهِ عنهُ فإنَّه إذا نُفيَ عمَّن يناسبُه كانَ نفيُه عْنهُ أَوُلى ثمَّ سُكلتْ هذهِ الطريقةُ في شأنِ مَنْ لا مثلَ لهُ وقيلَ: مثلُه صفتُه أيْ ليسَ كصفتِه صفةٌ {وَهُوَ السميع البصير} المبالغُ في العلمِ بكلِّ ما يسمعُ ويُبصَرُ.
{لَّهُ مَقاليدُ السماوات والأرض} أيْ خَزَائنُهُما {يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ} يوسعُ ويضيقُ حسبما تقتضيهِ مشيئتُه المؤسسةُ على الحِكَمِ البالغةِ {إِنَّهُ بِكُلّ شيء عَلِيمٌ} مبالغٌ في الأحاطةِ به فيفعلُ كلَّ ما يَفعلُ على ما ينبغِي أنُ يُفعلَ عليه، والجملةُ تعليلٌ لما قبلَها وتمهيدٌ لما بعدَها من قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحًا والذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى} وإيذانٌ بأنَّ ما شرعَ لهم صادرٌ عن كمالِ العلمِ والحكمةِ كما أن بيانَ نسبتهِ إلى المذكورينَ عليهم الصلاةُ والسلامُ تنبيهٌ على كونِه دينًا قديمًا أجمعَ عليه الرسلُ. والخطابُ لأمَّتهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أيْ {شرعَ لكُم من الدينِ ما وصَّى به نوحًا} ومَنْ بعدَه من أربابِ الشرائعِ وأولي العزائمِ من مشاهيرِ الأنبياء عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وأمرَهُم به أمرًا مؤكدًا، على أنَّ تخصيصَهُم بالذكرِ لما ذُكِرَ من علوِّ شأنِهم ولاستمالِة قلوبِ الكفرةِ إليه لاتفاقِ الكلَّ على نبوةِ بعضِهم، وتفردِ اليهود في شأنِ مُوسى عليه السَّلامُ وتفردِ النَّصارى في حقِّ عيسى عليه السلام وإلا فَما منْ نبيَ إلا وهُو مأمورٌ بما أُمِروا به، وهو عبارةٌ عنِ التوحيدِ ودينِ الإسلامِ وما لا يختلفُ باختلافِ الأممِ وتبدلِ الأعصارِ من أصولِ الشرائعِ والأحكامِ كما ينبىء عنه التوصيةُ فإنها معربةٌ عن تأكيد الأمرِ والاعتناء بشأن المأموريةِ والمرادُ بإيحائِه إليه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إمَّا مَا ذُكِرَ في صدرِ السُّورةِ الكريمةِ وفي قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا} الآيةَ أو ما يعمُّهما وغيرَهُما مما وقعَ في سائر المواقعِ التي من جُمْلتِها قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا} وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ} وغيرُ ذلكَ. والتعبيرُ عن ذلكَ عند نسبتِه إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالذي لزيادة تفخيمِ شأنِه من تلك الحيثيةِ، وإيثارُ الإيحاء على ما قبلَهُ وما بعَدُه من التوصيةِ لمراعاة ما وقعَ في الآيات المذكورةِ ولِما في الإيحاء من التصريحِ برسالتهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ القامعِ لإنكار الكفرةِ، والالتفاتُ إلى نون العظمةِ لإظهار كمالِ الاعتناء بإيحائِه وهو السرُّ في تقديمِه على ما بَعدُه مع تقدِّمهِ عليهِ زمانًا، وتقديمُ توصيةِ نوحٍ عليهِ السَّلامُ للمسارعة إلي بيان كونِ المشروعِ لهم دينًا قديمًا، وتوجيه الخطابِ إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلام بطريق التلوين للتشريف والتنبيهِ على أنَّه تعالى شرعَهُ لهم على لسانِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ.