فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{أَنْ أَقِيمُواْ الدين} أي دينَ الإسلامِ الذي هو توحيدُ الله تعالى وطاعتُه والإيمانُ بكتبه وبرسله وبيوم الجزاء وسائرِ ما يكونُ الرجلُ بهِ مُؤمنًا. والمرادُ بإقامتِه تعديلُ أركانِه وحفظُه منْ أنْ يقعَ فيه زيغٌ أو المواظبةُ عليه والتشمّرُ له، ومحلُّ أنْ أقيمُوا إما النصبُ على أنَّه بدلٌ منْ مفعول شرع، والمعطوفين عليهِ أو الرفعُ على أنه جوابٌ عن سؤالٍ نشأَ منْ إبهامِ المشروعِ كأنَّه قيلَ: وما ذاكَ فقيلَ هو إقامةُ الدينِ، وقيلَ: بدلٌ من ضمير به وليسَ بذاكَ لما أنَّه معَ إفضائه إلى خروجه عن حيز الإيحاء إلى النبيِّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مستلزمٌ لكون الخطابِ في قوله تعالى: {وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} للأنبياء المذكورينَ عليهمْ الصَّلاةُ والسَّلامُ وتوجيه النَّهي إلى أممهم تمحّلٌ ظاهرٌ مع أنَّ الأظهرُ أنَّه متوجهٌ إلى أمته صلى الله عليه وسلم وأنَّهم المتفرقونَ كما ستحيطُ به خبرًا أي تتفرقُوا في الدين الذي هُو عبارةٌ عمَّا ذكر من الأصولِ دونَ الفروعِ المختلفةِ حسبَ اختلافِ الأممِ باختلافِ الأعصارِ كما ينطقُ بهِ قوله تعالى: {لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًَا} وقوله تعالى: {كَبُرَ عَلَى المشركين} شروعٌ في بيانِ أحوالِ بعضِ مَنْ شرعَ لهم ما شرع من الدينِ القويمِ أي عظُم وشقّ عليهم {مَا تَدْعُوهُمْ إليه} من التوحيدِ ورفضِ عبادةِ الأصنامِ واستبعدُوه حيثُ قالوا: {أَجَعَلَ الألهة إلها واحدا إِنَّ هذا لَشَىْء عُجَابٌ} وقوله تعالى: {الله يَجْتَبِى إليه مَن يَشَاء} استئنافٌ واردٌ لتحقيق الحقِّ وفيه إشعارٌ بأنَّ منهُم من يجيبُ إلى الدعوة أي الله يجتلبُ إلى ما تدعُوهم إليه مَنْ يشاء أنْ يجتبَيُه إليه وهُو من صَرفَ اختيارَهُ إلى ما دُعِيَ إليه كما ينبىء عنه قوله تعالى: {وَيَهْدِى إليه مَن يُنِيبُ} أي يُقبلُ إليه حيثُ يمدُّه بالتوفيق والألطافِ. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {حم عسق}.
قد تقدّم الكلام في أمثال هذه الفواتح، وسئل الحسن بن الفضل لم قطع: {حم عسق}، ولم يقطع: {كهيعص}، فقال: لأنها سور أوّلها {حم}، فجرت مجرى نظائرها، فكأن {حم} مبتدأ، و{عسق} خبره، ولأنهما عدا آيتين.
وأخواتهما مثل: {كهيعص}، و{المرا}، و{المص} آية واحدة.
وقيل: لأن أهل التأويل لم يختلفوا في: {كهيعص}، وأخواتها أنها حروف التهجي لا غير، واختلفوا في {حم}، فقيل معناها: حم، أي: قضى كما تقدّم.
وقيل: إن (ح) حلمه، و(م) مجده، و(ع) علمه، و(س) سناه، و(ق) قدرته، أقسم الله بها.
وقيل غير ذلك مما هو متكلف متعسف لم يدلّ عليه دليل، ولا جاءت به حجة، ولا شبهة حجة، وقد ذكرنا قبل هذا ما روي في ذلك مما لا أصل له، والحق ما قدّمناه لك في فاتحة سورة البقرة.
وقيل: هما اسمان للسورة.
وقيل: اسم واحد لها، فعلى الأوّل يكونان خبرين لمبتدأ محذوف، وعلى الثاني يكون خبرًا لذلك المبتدأ المحذوف.
وقرأ ابن مسعود، وابن عباس: (حم سقا).
{كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ الله العزيز الحكيم} هذا كلام مستأنف غير متعلق بما قبله أي: مثل ذلك الإيحاء الذي أوحي إلى سائر الأنبياء من كتب الله المنزلة عليهم المشتملة على الدعوة إلى التوحيد، والبعث يوحى إليك يا محمد في هذه السورة.
وقيل: إن حمعاساقا، أوحيت إلى من قبله من الأنبياء، فتكون الإشارة بقوله: {كذلك} إليها.
قرأ الجمهور: {يوحي} بكسر الحاء مبنيًا للفاعل، وهو: الله.
وقرأ مجاهد، وابن كثير، وابن محيصن بفتحها مبنيًا للمفعول، والقائم مقام الفاعل ضمير مستتر يعود على كذلك، والتقدير: مثل ذلك الإيحاء يوحى هو إليك، أو القائم مقام الفاعل إليك، أو الجملة المذكورة أي: يوحى إليك هذا اللفظ، أو القرآن، أو مصدر يوحي، وارتفاع الاسم الشريف على أنه فاعل لفعل محذوف كأنه قيل: من يوحي؟ فقيل: الله العزيز الحكيم.
وأما قراءة الجمهور فهي واضحة اللفظ، والمعنى، وقد تقدّم مثل هذا في قوله: {يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والأصال رِجَالٌ} [النور: 36، 37]، وقرأ أبو حيوة، والأعمش، وأبان: {نوحي} بالنون، فيكون قوله: {الله العزيز الحكيم} في محلّ نصب، والمعنى: نوحي إليك هذا اللفظ {لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العلى العظيم} ذكر سبحانه لنفسه هذا الوصف، وهو ملك جميع ما في السماوات، والأرض لدلالته على كمال قدرته، ونفوذ تصرّفه في جميع مخلوقاته.
{تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ} قرأ الجمهور: {تكاد} بالفوقية، وكذلك: (تتفطرن) قرؤوه بالفوقية مع تشديد الطاء.
وقرأ نافع، والكسائي، وابن وثاب {يكاد} {يتفطرن} بالتحتية فيهما، وقرأ أبو عمرو، والمفضل، وأبو بكر، وأبو عبيد: {يتفطرن} بالتحتية، والنون من الانفطار كقوله: {إِذَا السماء انفطرت} [الانفطار: 1].
والتفطر: التشقق.
قال الضحاك، والسدّي: يتفطرن يتشققن من عظمة الله، وجلاله من فوقهنّ.
وقيل: المعنى: تكاد كلّ واحدة منها تتفطر فوق التي تليها من قول المشركين اتخذ الله ولدًا.
وقيل: من فوقهنّ: من فوق الأرضين، والأوّل أولى.
و{من} في {من فوقهنّ} لابتداء الغاية، أي: يبتدئ التفطر من جهة الفوق.
وقال الأخفش الصغير: إن الضمير يعود إلى جماعات الكفار، أي: من فوق جماعات الكفار، وهو بعيد جدًّا، ووجه تخصيص جهة الفوق: أنها أقرب إلى الآيات العظيمة، والمصنوعات الباهرة، أو على طريق المبالغة كأن كلمة الكفار مع كونها جاءت من جهة التحت أثرت في جهة الفوق، فتأثيرها في جهة التحت بالأولى.
{والملائكة يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ} أي: ينزهونه عما لا يليق به، ولا يجوز عليه متلبسين بحمده.
وقيل: إن التسبيح موضوع موضع التعجب، أي: يتعجبون من جراءة المشركين على الله.
وقيل: معنى {بحمد ربهم}: بأمر ربهم قاله السدّي {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن في الأرض} من عباد الله المؤمنين كما في قوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ} [غافر: 7]، وقيل: الاستغفار منهم بمعنى: السعي فيما يستدعي المغفرة لهم، وتأخير عقوبتهم طمعًا في إيمان الكافر، وتوبة الفاسق، فتكون الآية عامة كما هو ظاهر اللفظ غير خاصة بالمؤمنين، وإن كانوا داخلين فيها دخولًا أوّليًا {أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم} أي: كثير المغفرة والرحمة لأهل طاعته، وأوليائه، أو لجميع عباده، فإن تأخير عقوبة الكفار، والعصاة نوع من أنواع مغفرته، ورحمته.
{والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} أي: أصنامًا يعبدونها {الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} أي: يحفظ أعمالهم؛ ليجازيهم بها {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} أي: لم يوكلك بهم حتى تؤاخذ بذنوبهم، ولا وكل إليك هدايتهم، وإنما عليك البلاغ.
قيل: وهذه الآية منسوخة بآية السيف {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قرءانًا عَرَبِيًّا} أي: مثل ذلك الإيحاء أوحينا إليك، وقرآنًا مفعول أوحينا؛ والمعنى: أنزلنا عليك قرآنًا عربيًّا بلسان قومك كما أرسلنا كلّ رسول بلسان قومه {لّتُنذِرَ أُمَّ القرى}، وهي: مكة، والمراد: أهلها {وَمَنْ حَوْلَهَا} من الناس، والمفعول الثاني محذوف، أي: لتنذرهم العذاب {وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع} أي: ولتنذر بيوم الجمع وهو: يوم القيامة، لأنه مجمع الخلائق.
وقيل: المراد جمع الأرواح بالأجساد.
وقيل: جمع الظالم، والمظلوم.
وقيل: جمع العامل، والعمل {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي: لا شك فيه.
والجملة معترضة مقررة لما قبلها، أو صفة ليوم الجمع، أو حال منه {فَرِيقٌ في الجنة وَفَرِيقٌ في السعير} قرأ الجمهور برفع: {فريق} في الموضعين، إما على أنه مبتدأ، وخبره الجار والمجرور، وشاع الابتداء بالنكرة، لأن المقام مقام تفصيل، أو على أن الخبر مقدّر قبله، أي: منهم فريق في الجنة، ومنهم فريق في السعير، أو أنه خبر مبتدأ محذوف، وهو ضمير عائد إلى المجموعين المدلول عليهم بذكر الجمع، أي: هم فريق في الجنة، وفريق في السعير.
وقرأ زيد بن علي: {فريقًا} بالنصب في الموضعين على الحال من جملة محذوفة، أي: افترقوا حال كونهم كذلك، وأجاز الفراء، والكسائي النصب على تقدير؛ لتنذر فريقًا.
{وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحدة} قال الضحاك: أهل دين واحد، إما على هدى، وإما على ضلالة، ولكنهم افترقوا على أديان مختلفة بالمشيئة الأزلية، وهو معنى قوله: {ولكن يُدْخِلُ مَن يَشَاء في رَحْمَتِهِ} في الدين الحق وهو: الإسلام {والظالمون مَا لَهُمْ مّن وَلِىّ وَلاَ نَصِيرٍ} أي: المشركون ما لهم من وليّ يدفع عنهم العذاب، ولا نصير ينصرهم في ذلك المقام، ومثل هذا قوله: {وَلَوْ شَاء الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى} [الأنعام: 35]، وقوله: {وَلَوْ شيءنَا لأَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]، وها هنا مخاصمات بين المتمذهبين المحامين على ما درج عليه أسلافهم، فدبوا عليه من بعدهم، وليس بنا إلى ذكر شيء من ذلك فائدة كما هو عادتنا في تفسيرنا هذا، فهو تفسير سلفي يمشي مع الحق، ويدور مع مدلولات النظم الشريف، وإنما يعرف ذلك من رسخ قدمه، وتبرأ من التعصب قلبه، ولحمه، ودمه.
وجملة: {أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} مستأنفة مقررّة لما قبلها من انتفاء كون للظالمين، وليًا، ونصيرًا، وأم هذه هي المنقطعة المقدّرة ببل المفيدة للانتقال، وبالهمزة المفيدة للإنكار، أي: بل أأتخذ الكافرون من دون الله أولياء من الأصنام يعبدونها؟ {فالله هُوَ الولى} أي: هو الحقيق بأن يتخذوه وليًا، فإنه الخالق الرازق الضار النافع، وقيل: الفاء جواب شرط محذوف، أي: إن أرادوا أن يتخذوا وليًا في الحقيقة فالله هو الوليّ {وَهُوَ} أي: ومن شأنه أنه {يُحْىِ الموتى وَهُوَ على كُلّ شيء قَدِيرٌ} أي: يقدر على كل مقدور، فهو: الحقيق بتخصيصه بالألوهية، وإفراده بالعبادة.
{وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شيء فَحُكْمُهُ إِلَى الله} هذا عامّ في كل ما اختلف فيه العباد من أمر الدين، فإن حكمه، ومرجعه إلى الله يحكم فيه يوم القيامة بحكمه، ويفصل خصومة المختصمين فيه، وعند ذلك يظهر المحقّ من المبطل، ويتميز فريق الجنة، وفريق النار.
قال الكلبي: وما اختلفتم فيه من شيء، أي: من أمر الدين، فحكمه إلى الله يقضي فيه.
وقال مقاتل: إن أهل مكة كفر بعضهم بالقرآن، وآمن به بعضهم، فنزلت، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ويمكن أن يقال: معنى حكمه إلى الله: أنه مردود إلى كتابه، فإنه قد اشتمل على الحكم بين عباده فيما يختلفون فيه، فتكون الآية عامة في كل اختلاف يتعلق بأمر الدين أنه يردّ إلى كتاب الله.
ومثله قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شيء فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول} [النساء: 59]، وقد حكم سبحانه بأن الدين هو: الإسلام، وأن القرآن حق، وأن المؤمنين في الجنة، والكافرين في النار، ولكن لما كان الكفار لا يذعنون لكون ذلك حقًا إلاّ في الدار الآخرة، وعدهم الله بذلك يوم القيامة {ذلكم} الحاكم بهذا الحكم {الله رَبّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} اعتمدت عليه في جميع أموري، لا على غيره، وفوّضته في كلّ شؤوني {وَإليه أُنِيبُ} أي: أرجع في كل شيء يعرض لي لا إلى غيره.
{فَاطِرَ السماوات والأرض} قرأ الجمهور بالرفع على أنه خبر آخر لذلكم، أو خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ وخبره ما بعده، أو نعت لربي؛ لأن الإضافة محضة، ويكون {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإليه أُنِيبُ} معترضًا بين الصفة، والموصوف.
وقرأ زيد بن عليّ: (فاطر) بالجرّ على أنه نعت للاسم الشريف في قوله: {إِلَى الله}، وما بينهما اعتراض، أو بدل من الهاء في عليه أو إليه، وأجاز الكسائي النصب على النداء، وأجازه غيره على المدح.
والفاطر: الخالق المبدع، وقد تقدّم تحقيقه {جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} أي: خلق لكم من جنسكم نساء، أو المراد: حوّاء لكونها خلقت من ضلع آدم.
وقال مجاهد: نسلًا بعد نسل {وَمِنَ الأنعام أزواجا} أي: وخلق للأنعام من جنسها إناثًا، أو وخلق لكم من الأنعام أصنافًا من الذكور، والإناث، وهي: الثمانية التي ذكرها في الأنعام {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} أي: يبثكم، من الذرء وهو: البثّ، أو يخلقكم، وينشيءكم، والضمير في يذرؤكم للمخاطبين، والأنعام إلاّ أنه غلب فيه العقلاء، وضمير فيه راجع إلى الجعل المدلول عليه بالفعل.
وقيل: راجع إلى ما ذكر من التدبير، وقال الفراء، والزجاج، وابن كيسان: معنى يذرؤكم فيه: يكثركم به، أي: يكثركم بجعلكم أزواجًا؛ لأن ذلك سبب النسل.
وقال ابن قتيبة: يذرؤكم فيه، أي: في الزوج.
وقيل: في البطن.
وقيل: في الرحم.
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيء} المراد بذكر المثل هنا: المبالغة في النفي بطريق الكناية، فإنه إذا نفى عمن يناسبه كان نفيه عنه أولى كقولهم: مثلك لا يبخل، وغيرك لا يجود.
وقيل: إن الكاف زائدة للتوكيد، أي: ليس مثله شيء.
وقيل: إن مثل زائدة قاله ثعلب، وغيره كما في قوله: {فَإِنْ ءامَنُواْ بِمِثْلِ مَا ءامَنتُمْ بِهِ} [البقرة: 137] أي: بما آمنتم به، ومنه قول أوس بن حجر:
وقتلى كمثل جذوع النخي ** ل يغشاهم مطر منهمر

أي: كجذوع، والأوّل أولى، فإن الكناية باب مسلوك للعرب، ومهيع مألوف لهم، ومنه قول الشاعر:
ليس كمثل الفتى زهير ** خلق يوازيه في الفضائل

وقال آخر:
على مثل ليلى يقتل المرء نفسه ** وإن بات من ليلى على اليأس طاويا

وقال آخر:
سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم ** فما كمثلهم في الناس من أحد

قال ابن قتيبة: العرب تقيم المثل مقام النفس، فتقول: مثلي لا يقال له هذا، أي: أنا لا يقال لي.
وقال أبو البقاء مرجحًا لزيادة الكاف: إنها لو لم تكن زائدة، لأفضى ذلك إلى المحال، إذ يكون المعنى: أن له مثلًا، وليس لمثله مثل، وفي ذلك تناقض، لأنه إذا كان له مثل، فلمثله مثل، وهو: هو مع أن إثبات المثل لله سبحانه محال، وهذا تقرير حسن، ولكنه يندفع ما أورده بما ذكرنا من كون الكلام خارجًا مخرج الكناية، ومن فهم هذه الآية الكريمة حقّ فهمها، وتدبرها حق تدبرها مشى بها عند اختلاف المختلفين في الصفات على طريقة بيضاء واضحة، ويزداد بصيرة إذا تأمل معنى قوله: {وَهُوَ السميع البصير}، فإن هذا الإثبات بعد ذلك النفي للماثل قد اشتمل على برد اليقين، وشفاء الصدور، وانثلاج القلوب، فاقدر يا طالب الحقّ قدر هذه الحجة النيرة، والبرهان القويّ، فإنك تحطم بها كثيرًا من البدع، وتهشم بها رءوسا من الضلالة، وترغم بها آناف طوائف من المتكلفين، ولا سيما إذا ضممت إليه قول الله سبحانه: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]، فإنك حينئذٍ قد أخذت بطرفي حبل ما يسمونه علم الكلام، وعلم أصول الدين: