فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما كان حرث الأرض أصلًا من أصول المكاسب استعير لكل متكسب، ومنه قول ابن عمر: احرث لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا.
وقوله تعالى: {نزد في حرثه} وعد منتجز.
وقوله في: {حرث الدنيا نؤته منها} معناه: ما شيءنا ولمن شيءنا، فرب ممتحن مضيق عليه حريص على حرث الدنيا مريد له لا يحس بغيره، نعوذ بالله من ذلك، وهذا الذي لا يعقل غير الدنيا هو الذي نفى أن يكون له نصيب في الآخرة.
وقرأ سلام: {نؤتهُ} برفع الهاء وهي لغة لأهل الحجاز، ومثله قراءتهم: {فخسفنا به وبداره الأرض} [القصص: 81] برفع الهاء فيهما. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}.
لما عدد تعالى نعمه عليهم الخاصة، أتبعه بذكر نعمه العامة، وهو ما شرع لهم من العقائد المتفق عليها، من توحيد الله وطاعته، والإيمان برسله وبكتبه وباليوم الآخر، والجزاء فيه.
ولما كان أول الرسل نوح عليه السلام، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، قال: {ما وصى به نوحًا والذين أوحينا إليك}، ثم أتبع ذلك ما وصى به إبراهيم، إذ كان أبا العرب، ففي ذلك هزلهم وبعث على ابتاع طريقته، وموسى وعيسى صلوات الله عليهم، لأنهما هما اللذان كان أتباعهما موجودين زمان بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والشرائع متفقة فيما ذكرنا من العقائد، وفي كثير من الأحكام، كتحريم الزنا والقتل بغير حق.
والشرائع مشتملة على عقائد وأحكام؛ ويقال: إن نوحًا أول من أتى بتحريم البنات والأمهات وذوات المحارم.
وقال ابن عباس: اختار، ويحتمل أن تكون أن مفسرة، لأن قبلها ما هو بمعنى القول، فلا موضع لها من الإعراب.
وأن تكون أن المصدرية، فتكون في موضع نصب على البدل من ما؛ وما عطف عليها، أو في موضع رفع، أي ذلك، أو هو إقامة الدين، وهو توحيد الله وما يتبعه مما لا بد من اعتقاده.
ثم نهى عن التفرقة فيه، لأن التفرق سبب للهلاك، والاجتماع والألفة سبب للنجاة.
{كبر على المشركين}: أي عظم وشق، {ما تدعوهم إليه} من توحيد الله وترك عباده الأصنام وإقامة الدين.
{الله يجتبي}: يجتلب ويجمع، {إليه من يشاء} هدايته، وهذا تسلية للرسول.
وقيل: يجتبي، فيجعله رسولًا إلى عباده، {ويهدي إليه من ينيب}: يرجع إلى طاعته عن كفره.
وقال الزمخشري: {من يشاء}: من ينفع فيهم توفيقه ويجري عليهم لطفة.
انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال.
وقال الحافظ أبو بكر بن العربي: لم يكن مع آدم عليه السلام إلا بنوه، ولم تفرض، له الفرائض، ولا شرعت له المحارم، وإنما كان منبهًا على بعض الأمور، مقتصرًا على ضرورات المعاش.
واستمر الهدى إلى نوح، فبعثه الله بتحريم الأمهات والبنات، ووظف عليه الواجبات، وأوضح له الأدب في الديانات.
ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل ويتناصر بالأنبياء واحدًا بعد واحد وشريعة إثر شريعة، حتى ختمه الله بخير الملل على لسان أكرم الرسل، فكان المعنى: أوصيناك يا محمد ونوحًا دينًا واحدًا في الأصول التي لا تختلف فيها الشرائع، وهي التوحيد والصلاة والزكاة والحج والتقريب بصالح الأعمال، والصدق والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة وصلة الرحم وتحريم الكبر والزنا والإذاية للخلق كيفما تصرفت، والاعتداء على الحيوان، واقتحام الدناءات وما يعود بخرم المروات؛ فهذا كله مشروع دينًا واحدًا، أو ملة متحدة، لم يختلف على ألسنة الأنبياء، وإن اختلفت أعدادهم، وذلك قوله: {أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه}: أي اجعلوه قائمًا، يريد دائمًا مستمرًا محفوظًا مستقرًّا من غير خلاف فيه ولا اضطراب.
انتهى.
وقال مجاهد: لم يبعث نبي إلا أمر بإقامة الصلاة وايتاء الزكاة والإقرار بالله وطاعته، فهو إقامة الدين.
وقال أبو العالية: إقامة الدين: الإخلاص لله وعبادته، {ولا تتفرقوا فيه}، قال أبو العالية: لا تتعادوا فيه.
وقال مقاتل: معناه لا تختلفوا، فإن كل نبي مصدق.
وقيل: لا تتفرقوا فيه، فتؤمنوا ببعض الرسل وتكفروا ببعض.
{وما تفرقوا}، قال ابن عباس: يعني قرشيًّا، والعلم: محمد عليه الصلاة والسلام، وكانوا يتمنون أن يبعث إليهم نبي، كما قال: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير} يريدون نبيًّا.
وقيل: الضمير يعود على أمم الأنبياء، جاءهم العلم، فطال عليهم الأمد، فآمن قوم وكفر قوم.
وقال ابن عباس أيضًا: عائد على أهل الكتاب، والمشركين دليله: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} قال المشركون: لم خص بالنبوة، واليهود والنصارى حسدوه.
{ولولا كلمة}: أي عدة التأخر إلى يوم القيامة، فحينئذ يقع الجزاء، {لقضي بينهم}: لجوزوا بأعمالهم في الدنيا؛ لكنه قضى أن ذلك لا يكون إلا في الآخرة.
وقال الزجاج: الكلمة قوله: {بل الساعة موعدهم} {وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم}: هم بقية أهل الكتاب الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، {من بعدهم}: أي من بعد أسلافهم، أو هم المشركون، أورثوا الكتاب من بعدما أورث أهل الكتاب التوراة والإنجيل.
وقرأ زيد بن علي: ورثوا مبنيًا للمفعول مشدد الراء، {لفي شك منه}: أي من كتابهم، أو من القرآن، أو مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، أو من الدين الذي وصى به نوحًا.
ولما تقدم شيئآن: الأمر بإقامة الدين، وتفرق الذين جاءهم العلم واختلافهم وكونهم في شك، احتمل قوله.
{فلذلك}، أن يكون إشارة إلى إقامة الدين، أي فادع لدين الله وإقامته، لا تحتاج إلى تقدير اللام بمعنى لأجل، لأن دعا يتعدى باللام، قال الشاعر:
دعوت لما نابني مسورًا ** فلبى فلبى يدي مسورا

واحتمل أن تكون اللام للعلة، أي فلأجل ذلك التفرق.
ولما حدث بسببه من تشعب الكفر شعبًا، {فادع} إلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفية، {واستقم}: أي دم على الاستقامة، وتقدم الكلام على {فاستقم كما أمرت} وكيفية هذا التشبيه في أواخر هود.
{ولا تتبع أهواءهم} المختلفة الباطلة، وأمره بأن يصرح أنه آمن بكل كتاب أنزله الله، لأن الذين تفرقوا آمنوا ببعض.
{وأمرت لأعدل بينهم}، قيل: إن المعنى: وأمرت بما أمرت به لأعدل بينكم في ايصال ما أمرت به إليكم، لا أخص شخصًا بشيء دون شخص، فالشريعة واحدة، والأحكام مشترك فيها.
وقيل: لاعدل بينكم في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم.
{لا حجة بيننا وبينكم}: أي قد وضحت الحجج وقامت البراهين وأنتم محجوجون، فلا حاجة إلى إظهار حجة بعد ذلك.
{الله يجمع بيننا} وبينكم، أي يوم القيامة، فيفصل بيننا.
وما يظهر في هذه الآية من الموادعة منسوخ بآية السيف.
{والذين يحاجون في الله}: أي يخاصمون في دينه، قال ابن عباس ومجاهد: نزلت في طائفة من بني إسرائيل همت برد الناس عن الإسلام وإضلالهم ومحاجتهم، بل قالوا: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم؛ فديننا أفضل، فنزلت الآية في ذلك.
وقيل: نزلت في قريش، كانوا يجادلون في هذا المعنى، ويطمعون في رد المؤمنين إلى الجاهلية.
واستجيب مبني للمفعول، فقيل: المعنى من بعدما استجاب الناس لله، أي لدينه ودخلوا فيه.
وقيل: من بعدما استجاب الله له، أي لرسوله ودينه، بان نصره يوم بدر وظهر دينه.
{حجتهم داحضة} أي باطلة لا ثبوت لها.
ولما ذكر من يحاج في دين الإسلام، صرح بأنه تعالى هو الذي أنزل الكتاب، والكتاب جنس يراد به الكتب الآلهية.
{والميزان}، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم: هو المعدل؛ وعن ابن مجاهد: هو هنا الميزان الذي بإيدي الناس، وهذا مندرج في العدل.
{وما يدريك} أيها المخاطب، {لعل الساعة قريب}، ذكر على معنى البعث أو على حذف مضاف: أي لعل مجيء الساعة؛ ولعل الساعة في موضع معمول، وما يدريك، وتقدم الكلام على مثل هذا في قوله في آخر الأنبياء: {وإن أدري لعله فتنة لكم} وتوافقت هذه الجملة مع قوله: {الله الذين أنزل الكتاب بالحق والميزان}.
الساعة: يوم الحساب، ووضع الموازين: القسط، فكأنه قيل: أمركم الله بالعدل والتسوية قبل أن يفاجئكم اليوم الذي يحاسبكم فيه ويزن أعمالكم.
{يستعجل لها الذين لا يؤمنون} بها بطلب وقوعها عاجلة، لأنهم ليسوا موقنين بوقوعها، ليبين عجز من يؤمن بها عندهم، أي هي مما لا يقع عندهم.
{إلا إن الذين يمارون} ويلحون في أمر الساعة، {لفي ظلال بعيد} عن الحق، لأن البعث غير مستبعد من قدرة الله، ودل عليه الكتاب المعجز، فوجب الإيمان به.
{الله لطيف بعباده}: أي بر بعباده المؤمنين، ومن سبق له الخلود في الدنيا، وما يرى من النعم على الكافر فليس بلطف، إنما هو إملاء، ولا لطف إلا ما آل إلى الرحمة والوفاة على الإسلام.
وقال مقاتل: لطيف بالبر والفاجر حيث لم يقتلهم جوعًا.
وقال الزمخشري: يوصل بره إلى جميعهم، {يرزق من يشاء}: أي من يشاء يرزقه شيئًا خاصًا، ويحرم من يشاء من ذلك الشيء الخاص، وكل منهم مرزوق، وإن اختلف الرزق، {وهو القوي}: أي البالغ القوة، وهي القدرة {العزيز}: الغالب الذي لا يغلب.
ولما ذكر تعالى الرزق، ذكر حديث الكسب.
ولما كان الحرث في الأرض أصلًا من أصول المكاسب، استعير لكل مكسب أريد به النماء والفائدة، أي من كان يريد عمل الآخرة، وسعى لها سعيها، {نزد له في حرثه}: أي جزاء حرثه أي من جزاء حرثه من تضعيف الحسنات، {ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها}: أي العمل لها لا لآخرته، {نؤته منها}: أي نعطه شيئًا منها، {وما له في الآخرة من نصيب}، لأنه لم يعمل شيئًا للآخرة.
والجملة الأولى وعد منجز، والثانية مقيدة بمشيئته تعالى، فلا يناله إلا رزقه الذي فرغ منه، وكل ما يريده هو.
واقتصر في عامل الآخرة على ذكر حظه في الآخرة، كأنه غير معتبر، فلا يناسب ذكر مع ما أعد الله له في الآخرة لمن يشاء ما يشاء.
وجعل فعل الشرط ماضيًا، والجواب مجزوم لقوله تعالى: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها} ولا نعلم خلافًا في جواز الجزم، فإنه فصيح مختار، إلا ما ذكره صاحب كتاب الإعراب، وهو أبو الحكم بن عذرة، عن بعض النحويين، أنه لا يجيء في الكلام الفصيح، وإنما يجيء مع كأن لأنها أصل الأفعال، ولا يجيء مع غيرها من الأفعال.
ونص كلام سيبويه والجماعة أنه لا يختص ذلك بكان، بل سائر الأفعال في ذلك مثلها، وأنشد سيبويه للفرزدق:
دست رسولًا بأن القوم إن قدروا ** عليك يشفوا صدورًا ذات توغير

وقال آخر:
تعال فإن عاهدتني لا تخونني ** نكن مثل من يا ذئب يصطحبان

وقرأ الجمهور: نزد ونؤته بالنون فيهما: وابن مقسم، والزعفراني، ومحبوب، والمنقري، كلاهما عن أبي عمرو: بالياء فيهما.
وقرأ سلام: نؤته منها برفع الهاء، وهي لغة الحجاز. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

وقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُواْ}.
شروعٌ في بيان أحوالِ أهلِ الكتابِ عقيبَ الإشارةِ الإجماليةِ إلى أحوالِ أهلِ الشركِ قال ابنُ عبَّاسٍ رضيَ الله عنُهمَا هُم اليهود والنَّصارى، لقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة} أي وما تفرقُوا في الدينِ الذي دُعوا إليه ولم يُؤمنوا كما آمنَ بعضُهم {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم} بحقِّيتِه بما شاهُدوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن من دلائلِ الحقِّيةِ حسبما وجدُوه في كتابِهم، أو العلمُ بمبعثِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وهو استثناء مفرغٌ من أعمِّ الأحوالِ أو من أعمِّ الأوقاتِ أي وما تفرقُوا في حالٍ من الأحوالِ أو في وقتٍ من الأوقاتِ إلا حالَ مجيء العلمِ {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} وحميةً وطلبًا للرياسة لا لأنَّ لهم في ذلكَ شبهةً {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ} وهي العِدَةُ بتأخير العقوبةِ {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} هو يومُ القيامةِ {لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ} لأوقعَ القضاء بينَهم باستئصالِهم لاستيجاب جناياتِهم لذلك قطعًا.
وقوله تعالى: {وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ} الخ بيانٌ لكيفية كفر المشركينَ بالقرآن إثرَ بيانِ كيفيةِ كفرِ أهلِ الكتابِ. وقرئ وَرِثُوا ووُرِّثُوا أيْ وإنَّ المشركينَ الذينَ أُورثوا القرآن من بعدِ ما أُورثَ أهلُ الكتابِ كتابَهم {لَفِى شَكّ مّنْهُ} من القرآن {مُرِيبٍ} موقعٌ في القلق أو في الريبةِ ولذلكَ لا يُؤمنونَ به لا لمحض البغِي والمكابرةِ بعد ما علمُوا بحقِّيتِه كدأب أهلِ الكتابينِ.
هذا وأمَّا ما قيلَ: منْ أنَّ ضميرَ تفرقُوا لأمم الأنبياء عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وأنَّ المرادَ تفرقُ كلِّ أمةٍ بعدَ نبيِّها مع علمِهم بأنَّ الفرقةَ ضلالٌ وفسادٌ وأمرٌ متوعدٌ عليهِ على ألسنة الأنبياء عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ فيردّه قوله تعالى: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِىَ بِيْنَهُمْ}، وكذا ما قيلَ من أنَّ الناسَ أمةً واحدةً مؤمنينَ بعد ما أهلكَ الله تعالى الأرضَ بالطوفان فلما ماتَ الآباء اختلفَ الأبناء فيما بينُهم وذلك حين بعث الله تعالى النبيين مبشرين ومنذرين وجاءهُم العلمُ وإنما اختلفُوا للبغِي بينَهم فإنَّ مشاهيرَ الأممِ المذكورةِ قد أصابُهم عذابُ الاستئصالِ من غير إنظارٍ وإمهالٍ، على أنَّ مساقَ النظمِ الكريمِ لبيان أحوالِ هذه الأمةِ، وإنما ذُكِرَ من ذُكِرَ من الأنبياء عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ لتحقيق أنَّ ما شرع لهؤلاء دين قديم أجمع عليه أولئك الأعلام عليهم الصلاة والسلام تأكيدًا لوجوب إقامتِه وتشديدًا للزجرِ عن التفرق والاختلافِ فيه فالتعرضُ لبيان تفرقِ أممِهم عنه ربَّما يُوهم الإخلالَ بذلكَ المرامِ.
{فَلِذَلِكَ} أي فلأجل ما ذُكِرَ من التفرق والشكِّ المريبِ أو فلأجلِ أنَّه شرعَ لهم الدينَ القويمَ القديمَ الحقيقَ بأنْ ينافسَ فيهِ المتنافسونَ {فادع} أي الناسَ كافةً إلى إقامةِ ذلكَ الدينِ بموجبِه فإنَّ كلًا من تفرقِهم وكونِهم في شكَ مريب ومن شرع ذلك الدين لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم سببٌ للدعوةِ إليه والأمرِ بَها، وليسَ المشارُ إليه ما ذُكرَ من التوصية والأمرِ بالإقامة والنَّهي عن التفرقِ حتى يُتوهمُ شائبةُ التكرارِ، وقيلَ: المشارُ إليه نفسُ الدينِ المشروعِ، واللامُ بمَعْنى إِلى كَما في قوله تعالى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} أي فإلى ذلكَ الدينِ فادعُ {واستقم} عليه وعلى الدعوة إليه {كَمَا أُمِرْتَ} وأُوحيَ إليكَ {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} الباطلةَ {وَقُلْ ءامَنتُ بِمَا أنزل الله مِن كتاب} أيَّ كتابٍ كان من الكتبِ المنزلةِ لا كالذينَ آمنُوا ببعضٍ منها وكفرُوا ببعضٍ، وفيه تحقيقٌ للحقِّ وبيانٌ لاتفاق الكتبِ في الأصول وتأليفٌ لقلوب أهلِ الكتابينِ وتعريضٌ بهم وقد مرَّ بيانُ كيفيةِ الإيمانِ بها في خاتمةِ سورةِ البقرةِ {وَأُمِرْتُ لاِعْدِلَ بَيْنَكُمُ} في تبليغ الشرائعِ والأحكام وفصل القضايا عند المحاكمة والخصام، وقيل معناه لأسوي بيني وبينكُم ولا آمرَكم بما لا أعملُه ولا أخالفَكم إلى ما أنهاكُم عْنهُ ولا أفرقَ بين أكابرِكم وأصاغرِكم، واللام إمَّا على حقيقتها والمأمورُ به محذوفٌ أيْ أمِرتْ بذلكَ لأعدلَ، أو زائدةٌ أيْ أمرتُ أنْ أعدلَ والباء محذوفةٌ.