فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي البحر أنه قول ابن جبير والسدي وعمرو بن شعيب، و{فِي} عليه للظرفية المجازية و{القربى} بمعنى الأقرباء، والجار والمجرور في موضع الحال أي إلا المودة ثابتة في أقربائي متمكنة فيهم، ولمكانة هذا المعنى لم يقل: إلا مودة القربى، وذكر أنه على الأول كذلك وأمر اتصال الاستثناء وانقطاعه على ما سبق، والمراد بقرابته عليه الصلاة والسلام في هذا القول قيل: ولد عبد المطلب، وقيل علي وفاطمة وولدها رضي الله تعالى عنه مرفوعاً، أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طريق ابن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية {قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ} الخ قالوا: يا رسول الله من قرابتك الذين وجبت مودتهم؟ قال: «علي وفاطمة وولدها» صلى الله عليه وسلم على النبي وعليهم.
وسند هذا الخبر على ما قال السيوطي في الدر المنثور ضعيف، ونص على ضعفه في تخريج أحاديث الكشاف ابن حجر، وأيضاً لو صح لم يقل ابن عباس ما حكى عنه في الصحيحين وغيرهما وقد تقدم إلا أنه روى عن جماعة من أهل البيت ما يؤيد ذلك، أخرج ابن جرير عن أبي الديلم قال: لما جيء بعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أسيراً فأقيم على درج دمشق قام رجل من أهل الشام فقال: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم فقال له علي رضي الله تعالى عنه: أقرأت القرآن؟ قال: نعم قال: أقرأت آل حم؟ قال: نعم قال: ما قرأت {قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى} قال: فإنكم لأنتم هم؟ قال: نعم.
وروى ذاذان عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: فينافي آل حم آية لا يحفظ مودتنا إلا مؤمن ثم قرأ هذه الآية، وإلى هذا أشار الكميت في قوله:
وجدنا لكم في آل حم آية ** تأولها منا تقي ومعرب

ولله تعالى در السيد عمر الهيتي أحد الأقارب المعاصرين حيث يقول:
بأية آية يأتي يزيد ** غداة صحائف الأعمال تتلى

وقام رسول رب العرش يتلو ** وقد صمت جميع الخلق قل لا

والخطاب على هذا القول لجميع الأمة لا للأنصار فقد وإن ورد ما يوهم ذلك فإنهم كلهم مكلفون بمودة أهل البيت.
فقد أخرج مسلم والترمذي والنسائي عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اذكركم الله تعالى في أهل بيتي» وأخرج الترمذي وحسنه والطبراني والحاكم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: قال عليه الصلاة والسلام: «أحبوا الله تعالى لما يغذوكم به من نعمة وأحبوني لحب الله تعالى وأحبوا أهل بيتي لحبي» وأخرج ابن حبان والحاكم عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت رجل إلا أدخله الله تعالى النار» إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة من الأخبار، وفي بعضها ما يدل على عموم القربى وشمولها لبني عبد المطلب.
أخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي عن المطلب بن ربيعة قال: دخل العباس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنا لنخرج فنرى قريشاً تحدث فإذا رأونا سكتوا فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودر عرق بين عينيه ثم قال: والله لا يدخل قلب امرئ مسلم إيمان حتى يحبكم لله تعالى ولقرابتي، وهذا ظاهر إن خص القربى بالمؤمنين منهم وإلا فقيل: إن الحكم منسوخ، وفيه نظر، والحق وجوب محبة قرابته عليه الصلاة والسلام من حيث أنهم قرابته صلى الله عليه وسلم كيف كانوا، وما أحسن ما قيل:
داريت أهلك في هواك وهم عدا ** ولأجل عين ألف عين تكرم

وكلما كانت جهة القرابة أقوى كان طلب المودة أشد، فمودة العلويين الفاطميين الزم من محبة العباسيين على القول بعموم {القربى} وهي على القول بالخصوص قد تتفاوت أيضاً باعتبار تفاوت الجهات والاعتبارات وآثار تلك المودة التعظيم والاحترام والقيام بأداء الحقوق أتم قيام، وقد تهاون كثير من الناس بذلك حتى عدوا من الرفض السلوك في هاتيك المسالك.
وأنا أقول قول الشافعي الشافي العي:
يا راكباً قف بالمحصب من منى ** واهتف بساكن خيفها والناهض

سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى ** فيضاً كملتطم الفرات الفائض

إن كان رفضاً حب آل محمد ** فليشهد الثقلان إني رافضي

ومع هذا لا أعد الخروج عما يعتقده أكابر أهل السنة في الصحابة رضي الله تعالى عنهم ديناً وأرى حبهم فرضاً على مبيناً فقد أوجبه أيضاً الشارع وقامت على ذلك البراهين السواطع.
ومن الظرائف ما حكاه الإمام عن بعض المذكورين قال: إنه عليه الصلاة والسلام قال: «مثل أهل بيني كسفينة نوح من ركب فيها نجا ومن تخلف عنها هلك» وقال صلى الله عليه وسلم: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» ونحن الآن في بحر التكليف وتضربنا أمواج الشبهات والشهوات وراكب البحر يحتاج إلى أمرين:
أحدهما: السفينة الخالية عن العيوب، والثاني: الكواكب الطالعة النيرة، فإذا ركب تلك السفينة ووضع بصره على تلك الكواكب كان رجاء السلامة غالباً، فلذلك ركب أصحابنا أهل السنة سفينة حب آل محمد صلى الله عليه وسلم ووضعوا أبصارهم على نجوم الصحابة يرجون أن يفوزوا بالسلامة والسعادة في الدنيا والآخرة انتهى، والكثير من الناس في حق كل من الآل والأصحاب في طرفي التفريط والإفراط وما بينهما هو الصراط المستقيم، ثبتنا الله تعالى على ذلك الصراط.
وقال عبد الله بن القاسم: المعنى لا أسألكم عليه أجراً إلا أن يود بعضكم بعضاً وتصلوا قراباتكم، وأمر {فِي} والاستثناء لا يخفى.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن أن المعنى لا أسألكم عليه أجراً إلا التقرب إلى الله تعالى بالعمل الصالح فالقربى بمعنى القرابة وليس المراد قرابة النسب؛ قيل: ويجري في الاستثناء الاتصال والانقطاع، واستظهر الخفاجي أنه منقطع وأنه على نهج قوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

البيت، وأراه على القول قبله كذلك.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما {إِلا مَّوَدَّةَ فِي القربى} هذا ومن الشيعة من أورد الآية في مقام الاستدلال على إمامة علي كرم الله تعالى وجهه قال: علي كرم الله تعالى وجهه واجب المحبة وكل واجب المحبة واجب الطاعة وكل واجب الطاعة صاحب الإمامة ينتج على رضي الله تعالى عنه صاحب الإمامة وجعلوا الآية دليل الصغرى، ولا يخفى ما في كلامهم هذا من البحث، أما أولاً: فلأن الاستدلال بالآية على الصغرى لا يتم إلا على القول بأن معناها لا أسألكم عليه أجراً إلا أن تودوا قرابتي وتحبوا أهل بيتي وقد ذهب الجمهور إلى المعنى الأول، وقيل في هذا المعنى: إنه لا يناسب شأن النبوة لما فيه من التهمة فإن أكثر طلبة الدنيا يفعلون شيئاً ويسألون عليه ما يكون فيه نفع لأولادهم وقراباتهم، وأيضاً فيه منافاة ما لقوله تعالى: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [يوسف: 104] وأما ثانياً: فلأنا لا نسلم أن كل واجب المحبة واجب الطاعة فقد ذكر ابن بابويه في كتاب الاعتقادات أن الإمامية أجمعوا على وجوب محبة العلوية مع أنه لا يجب طاعة كل منهم، وأما ثالثاً: فلأنا لا نسلم أن كل واجب الطاعة صاحب الإمامة أي الزعامة الكبرى وإلا لكان كل نبي في زمنه صاحب ذلك ونص {إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة: 247] يأبى ذلك، وأما رابعاً: فلأن الآية تقتضي أن تكون الصغرى أهل البيت واجبو الطاعة ومتى كانت هذه صغرى قياسهم لا ينتج النتيجة التي ذكروها ولو سلمت جميع مقدماته بل ينتج أهل البيت صاحبو الإمامة وهم لا يقولون بعمومه إلى غير ذلك من الأبحاث فتأمل ولا تغفل.
{وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً} أي يكتسب أي حسنة كانت، والكلام تذييل، وقيل المراد بالحسنة المودة في قربى الرسول صلى الله عليه وسلم وروي ذلك عن ابن عباس.
والسدي، وأن الآية نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه لشدة محبته لأهل البيت، وقصة فدك.
والعوالي لا تأبى ذلك عند من له قلب سليم، والكلام عليه تتميم، ولعل الأول أولى، وحب آل الرسول عليه الصلاة والسلام من أعظم الحسنات وتدخل في الحسنة هنا دخولاً أولياً {نَّزِدْ لَهُ فِيهَا} أي في الحسنة {حَسَنًا} بمضاعفة الثواب عليها فإنها يزاد بها حسن الحسنة، ففي للظرفية و{حَسَنًا} مفعول به أو تمييز، وقرأ زيد بن علي وعبد الوارث عن أبي عمرو وأحمد بن جبير عن الكسائي {يزد} بالياء أي يزد الله تعالى.
وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو {حسنى} بغير تنوين وهو مصدر كبشرى أو صفة لموصوف مقدر أي صفة أو خصلة حسنى {واعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ} ساتر ذنوب عباده {شَكُورٍ} مجاز من أطاع منهم بتوفية الثواب والتفضل عليه بالزيادة، وقال السدي: غفور لذنوب آل محمد صلى الله عليه وسلم شكور لحسناتهم. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}.
هو إضراب على موقف المشركين من قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى}.
ففي هذا دعوة للمشركين إلى الإيمان بهذا الدين الذي شرعه اللّه لهم، وإذ هم أبوا أن يستجيبوا لهذه الدعوة، فقد أضرب اللّه سبحانه عن دعوتهم إلى هذا الدين الذي شرعه لهم، ثم كشف سبحانه عن العلة التي تمسك بهم عن الاستجابة لهذه الدعوة، وهى أنهم على شريعة شرعها لهم رؤساؤهم، وسادتهم، وهى شريعة باطلة من مبتدعات أهوائهم، ونضيح ضلالانهم، لم يأذن بها اللّه، ولم يرسل بها رسولا من عنده.
وفى إطلاق الشركاء على زعماء الباطل، ودعاة الضلال، إشارة إلى أنهم يدينون بهذه الشريعة الباطلة، ويسبحون في ضلالها، مع أتباعهم.. فهم جميعا- أتباعا ومتبوعين- على سواء في هذا الضلال.
وقوله تعالى: {وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ}- كلمة الفصل، هي الكلمة التي سبقت من اللّه سبحانه وتعالى بأن يؤجل عذابهم إلى يوم القيامة {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً} (17: النبأ) ولو لا هذه الكلمة لقضى بينهم في الدنيا، ولأخذهم العذاب كما أخذ الظالمين قبلهم.
وقوله تعالى: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} أي أن هؤلاء الظالمين إذا لم يقع بهم العذاب الدنيوي، فإنه ينتظرهم عذاب أليم في الآخرة.
قوله تعالى: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} هو انتقال بهؤلاء المشركين الظالمين من موقفهم في هذه الدنيا، إلى يوم القيامة، حيث يرون العذاب، فيقع في نفوسهم أنهم صائرون إليه، وأن ما أنذروا به في الدنيا قد وقع.. فقد كانوا لا يؤمنون بالبعث، ولا يؤمنون بالعذاب.
وها هو ذا يوم البعث.. ومن ورائه العذاب المرصود لهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً} (53: الكهف).
وقوله تعالى: {وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ} الضمير للعذاب الذي جاء ذكره في الآية السابقة في قوله تعالى: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ}. وفى عدم ذكره، والإشارة إليه بضميره- إشارة إلى أنه شيء مهول، وأن ما رأوا منه ليس إلا إشارة دالة عليه، أما ما غاب عن أعينهم منه، فهو الذي سيعرفونه حين يلقونه ويعيشون فيه، وهو مما لا يحدّه وصف، من هول وبلاء.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ}. هو بيان لما يلقى الذين آمنوا وعملوا الصالحات في هذا اليوم، من نعيم في روضات الجنّات، التي عرضها السموات والأرض {لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} من عطائه الممدود، بلا حساب.
وقوله تعالى: {ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}- الإشارة هنا، إلى ما ينال المؤمنون من عطاء ربّهم، وما يتلقون من فضله وإحسانه.. فذلك هو الفضل الكبير حقا، الذي يعدل القليل منه كلّ ما في الدنيا من مال ومتاع.. واللّه ذو الفضل العظيم.
قوله تعالى: {ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} الإشارة بذلك، بدل من الإشارة في قوله تعالى: {ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} أي ذلك الفضل الكبير، هو ذلك الذي يبشر اللّه به عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات... يبشرهم به على لسان رسوله فيما ينزّل عليه من آيات ربّه، ويبشرهم به عند لقاء الموت حيث تلقاهم الملائكة بما أعدّ اللّه لهم من نعيم في الآخرة، وحيث يرون بأعينهم مقامهم في الدار الآخرة، ويبشرهم به يوم البعث، حيث يقومون ونورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، كما يقول اللّه تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (12: الحديد) قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى}.
أي أن هذا الخير الكثير الذي يحمله النبىّ إلى المؤمنين، ويسوق إليهم ما يبشرهم به ربهم، من فضل وإحسان يلقونه في الآخرة {فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ}- هذا كله لا يطلب النبي منهم عليه أجرا، فإن يكن ثمة أجر فهو رعاية حرمة القربى بينه وبينهم، وما ينبغي أن يكون بينه- صلوات اللّه وسلامه عليه- وبينهم من رحمة ومودة،. وها هو ذا- صلوات اللّه وسلامه عليه- يصلهم بأعظم صلات الودّ بما يقدم إليهم من هذا الخير العظيم الذي يكفل لهم حياة طيبة كريمة في الدنيا، ونعيما ورضوانا في الآخرة.
ثم هاهم أولاء يلقونه- صلوات اللّه وسلامه عليه- بالقطيعة، ويرمونه بالعداوة، غير مراعين للقرابة حقّا، أو حافظين لها عهدا، أو مبقين على شيء من الإنصاف معه.. فلو أنهم أنصفوا القرابة، لما كان لهم أن يذهبوا إلى هذا المدى الذي ذهبوا إليه، من قطيعة النبي، والكيد له، والتربص به.. لأنه صلوات اللّه وسلامه عليه- لم يكن قاطعا لهم، أو متوجها بكيد إليهم، أو متربصا بسوء بهم، بل إنه ليمد إليهم يدا كريمة بالخير والمعروف، ويوجه إليهم دعوة رفيقة حانية، تدعوهم إلى هذا الخير والمعروف.
وكان من شريعة الإنصاف إن لم يقبلوا هذه الدعوة، أن يردّوها برفق وأن يدعوا صاحب الدعوة وشأنه مع من يستجيبون لدعوته، ويطعمون من مائدته، لا أن يزعجوه ويزعجوا ضيف اللّه الذين دعاهم إليه!.
هذا وجه من وجوه تأويل هذا المقطع من الآية الكريمة.
ووجه آخر.. وهو أن النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- لا يسأل قومه أجرا على ما يحمله إليهم من رحمة اللّه، وفضله وإحسانه، وإنما ذلك منه صلوات اللّه وسلامه عليه- هو مودة في سبيل القربى، إذ آثرهم على غيرهم، وجعلهم أول من يمد يده الكريمة إليهم بالنور الذي معه.. فهو منهم، وهم أولى الناس ببرّه وإحسانه.
وفى هذا يقول اللّه تعالى: {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} (128: التوبة).
وقد بدأ النبي رسالته، وما تحمل من هدى وخير، بدعوة قومه إليها، فكانوا أول من استفتح بهم النبي الكريم دعوته، كما أمره اللّه سبحانه بذلك في قوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (214: الشعراء).
هذا، ومن بعض التأويلات لهذا المقطع من الآية الكريمة أن المراد بالمودة في القربى، هي مودة آل البيت رضي الله عنهم، وهى الأجر الذي يطلبه النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- من المؤمنين.. أي لا أسألكم أيها المؤمنون من أجر لي، ولكن أسألكم المودة لآل بيتي. فهو الأجر الذي أسألكم إياه، على ما أقدم إليكم من خير، وما أحمل لكم من هدى.
وهذا التأويل بعيد.. وذلك من وجوه:
فأولا: أن مودة المؤمنين بعضهم لبعض، هي من دين المؤمنين، فالمؤمنون كما يقول اللّه تعالى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ}. وهم بهذا الولاء متوادّون، أو ينبغي أن يكونوا متوادين.. وأولى المؤمنين بمودة المؤمنين وولائهم، أقربهم إلى رسول اللّه.. فآل بيت رسول اللّه داخلون في هذه المودة العامة التي بينهم وبين المؤمنين، من باب أولى.. {النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ}! فحبّ آل بيت رسول اللّه ومودتهم، من إيمان كل مؤمن، فلا يحتاج هذا إلى ذكر خاص.
وثانيا: الأجر الذي يطلبه النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- ينبغي أن يكون لحساب الدعوة الإسلامية، لا لشخصه، ولا لذي قربى منه.
وهذا التأويل يجعل الأجر محصورا في هذا المعنى المحدود، الذي يذهب بكثير من جلال هذا الأجر الذي لا يوفّيه أجر مما في هذه الدنيا من مال ومتاع.
فالأجر الذي يطلبه النبي إنما يطلبه من اللّه، كما يقول سبحانه على لسان أنبيائه: {وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ} (109، 127، 145، 164 180: الشعراء) وثالثا: هذه الآية مكية، وكان من آل بيت رسول اللّه كثيرون ممن لم يدخلوا في الإسلام، كعميه أبى طالب، والعباس، بل ومنهم من كان يؤذى النبي أذى، بالغا، ويكيد له كيدا عظيما، كأبي لهب، فلم يكن من المقبول- والأمر هكذا- أن تجيء دعوة السماء بمودة آل البيت الذين لم تتضح معالمهم في الإسلام بعد.. وأولى من هذا أن تكون الدعوة بالمودة عامة، بين النبي وقومه جميعا، وخاصة المشركين منهم، ويكون معناها الدعوة إلى التخفف من عداوتهم للنبي، وكيدهم له، وتركه وشأنه، مراعاة لتلك القرابة التي بينه وبينهم.. إذ لم يكن منه مساءة لهم، بل كان ودودا لهم، رحيما بهم، يريد لهم الخير، ويؤثرهم به.