فصل: (سورة الشورى: آية 16).

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فَلِذلِكَ} فلأجل التفرق ولما حدث بسببه من تشعب الكفر شعبا {فَادْعُ} إلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفية القديمة {وَاسْتَقِمْ} عليها وعلى الدعوة إليها كما أمرك اللّه {وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءهُمْ} المختلفة الباطلة بما أنزل الله من كتاب، أي كتاب صحّ أنّ اللّه أنزله، يعنى الإيمان بجميع الكتب المنزلة، لأنّ المتفرقين آمنوا ببعض وكفروا ببعض، كقوله تعالى: {وَيَقولونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} إلى قوله: {أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا} {لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم إلىّ {لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ} أي لا خصومة لأنّ الحق قد ظهر وصرتم محجوجين به فلا حاجة إلى المحاجة. ومعناه: لا إيراد حجة بيننا، لأنّ المتحاجين: يورد هذا حجته وهذا حجته {اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا} يوم القيامة فيفصل بيننا وينتقم لنا منكم، وهذه محاجزة ومتاركة بعد ظهور الحق وقيام الحجة والإلزام. فإن قلت: كيف حوجزوا وقد فعل بهم بعد ذلك ما فعل من القتل وتخريب البيوت وقطع النخيل والإجلاء؟ قلت: المراد محاجزتهم في مواقف المقاولة لا المقاتلة.

.[سورة الشورى: آية 16].

{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16)}.
{يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ} يخاصمون في دينه {مِنْ بَعْدِ} ما استجاب له الناس ودخلوا في الإسلام، ليردّوهم إلى دين الجاهلية، كقوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّارًا} كان اليهود والنصارى يقولون للمؤمنين: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن خير منكم وأولى بالحق. وقيل: من بعد ما استجاب اللّه لرسوله ونصره يوم بدر وأظهر دين الإسلام {داحِضَةٌ} باطلة زالة.

.[سورة الشورى: الآيات 17- 18].

{اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قريبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18)}.
{أَنْزَلَ الْكِتابَ} أي جنس الكتاب {وَالْمِيزانَ} والعدل والتسوية. ومعنى إنزال العدل، أنه أنزله في كتبه المنزلة. وقيل: الذي يوزن به. بالحق: ملتبسا بالحق، مقترنا به، بعيدا من الباطل أو بالغرض الصحيح كما اقتضته الحكمة. أو بالواجب من التحليل والتحريم وغير ذلك السَّاعَةَ في تأويل البعث، فلذلك قيل {قريبٌ} أو لعل مجيء الساعة قريب.
فإن قلت: كيف يوفق ذكر اقتراب الساعة مع إنزال الكتاب والميزان؟ قلت: لأنّ الساعة يوم الحساب ووضع الموازين للقسط، فكأنه قيل: أمركم اللّه بالعدل والتسوية والعمل بالشرائع قبل أن يفاجئكم اليوم الذي يحاسبكم فيه ويزن أعمالكم، ويوفى لمن أوفى ويطفف لمن طفف.
المماراة: الملاجة لأنّ كل واحد منهما يمرى ما عند صاحبه {لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} من الحق: لأنّ قيام الساعة غير مستبعد من قدرة اللّه، ولدلالة الكتاب المعجز على أنها آتية لا ريب فيها، ولشهادة العقول على أنه لا بدّ من دار الجزاء.

.[سورة الشورى: آية 19].

{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاء وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)}.
{لَطِيفٌ بِعِبادِهِ} برّ بليغ البرّ بهم، قد توصل برّه إلى جميعهم، وتوصل من كل واحد منهم إلى حيث لا يبلغه، وهم أحد من كلياته وجزئياته. فإن قلت: فما معنى قوله: {يَرْزُقُ مَنْ يَشاء} بعد توصل برّه إلى جميعهم؟ قلت: كلهم مبرورون لا يخلو أحد من برّه، إلا أنّ البرّ أصناف، وله أوصاف. والقسمة بين العباد تتفاوت على حسب تفاوت قضايا الحكمة والتدبير، فيطير لبعض العباد صنف من البر لم يطر مثله لآخر، ويصيب هذا حظ له وصف ليس ذلك الوصف لحظ صاحبه، فمن قسم له منهم ما لا يقسم للآخر فقد رزقه، وهو الذي أراد بقوله تعالى: {يَرْزُقُ مَنْ يَشاء} كما يرزق أحد الأخوين ولدا دون الآخر، على أنه أصابه بنعمة أخرى لم يرزقها صاحب الولد {وَهُوَ الْقَوِيُّ} الباهر القدرة، الغالب على كل شيء {الْعَزِيزُ} المنيع الذي لا يغلب.

.[سورة الشورى: آية 20].

{مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)}.
سمى ما يعمله العامل مما يبغى به الفائدة والزكاء حرثا على المجاز. وفرق بين عملى العاملين: بأن من عمل للآخرة وفق في عمله وضوعفت حسناته، ومن كان عمله للدنيا أعطى شيئا منها لا ما بريده ويبتغيه. وهو رزقه الذي قسم له وفرغ منه وماله نصيب قط في الآخرة، ولم يذكر في معنى عامل الآخرة وله في الدنيا نصيب، على أن رزقه المقسوم له واصل إليه لا محالة، للاستهانة بذلك إلى جنب ما هو بصدده من زكاء عمله وفوزه في المآب.

.[سورة الشورى: آية 21].

{أَمْ لَهُمْ شُرَكاء شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21)}.
معنى الهمزة في {أَمْ} التقرير والتقريع. وشركاؤهم: شياطينهم الذين زينوا لهم الشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا، لأنهم لا يعلمون غيرها وهو الدين الذي شرعت لهم الشياطين، وتعالى اللّه عن الإذن فيه والأمر به وقيل شركاؤهم: أوثانهم. وإنما أضيفت إليهم لأنهم متخذوها شركاء للّه، فتارة تضاف إليهم لهذه الملابسة. وتارة إلى اللّه، ولما كانت سببا لضلالتهم وافتتانهم: جعلت شارعة لدين الكفر، كما قال إبراهيم صلوات اللّه عليه {إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ}. {وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ} أي القضاء السابق بتأجيل الجزاء. أي: ولولا العدة بأن الفصل يكون يوم القيامة {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي بين الكافرين والمؤمنين. أو بين المشركين وشركائهم. وقرأ مسلم بن جندب: {وأنّ الظالمين}، بالفتح عطفا له على كلمة الفصل، يعنى: ولولا كلمة الفصل وتقدير تعذيب الظالمين في الآخرة، لقضي بينهم في الدنيا.

.[سورة الشورى: الآيات 22- 23].

{تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقربى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)}.
{تَرَى الظَّالِمِينَ} في الآخرة {مُشْفِقِينَ} خائفين خوفا شديدا أرق قلوبهم {مِمَّا كَسَبُوا} من السيئات {وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ} يريد: ووباله واقع بهم وواصل إليهم لا بدّ لهم منه، أشفقوا أو لم يشفقوا. كأن روضة جنة المؤمن أطيب بقعة فيها وأنزهها {عِنْدَ رَبِّهِمْ} منصوب بالظرف لا بيشاءون قرئ: يبشر، من بشره. ويبشر من أبشره. ويبشر، من بشره. والأصل: ذلك الثواب الذي يبشر اللّه به عباده، فحذف الجار، كقوله تعالى: {وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ} ثم حذف الراجع إلى الموصول، كقوله تعالى: {أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} أو ذلك التبشير الذي يبشره اللّه عباده. روى أنه اجتمع المشركون في مجمع لهم فقال بعضهم لبعض: أترون محمدا يسأل على ما يتعاطاه أجرا؟
فنزلت الآية {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقربى} يجوز أن يكون استثناء متصلا، أى: لا أسألكم أجرا إلا هذا، وهو أن تودوا أهل قرابتي، ولم يكن هذا أجرا في الحقيقة، لأنّ قرابته قرابتهم، فكانت صلتهم لازمة لهم في المروءة. ويجوز أن يكون منقطعا، أى: لا أسألكم أجرا قط ولكنني أسألكم أن تودوا قرابتي الذين هم قرابتكم ولا تؤذوهم. فإن قلت: هلا قيل: إلا مودّة القربى: أو إلا المودة للقربى. وما معنى قوله: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقربى}؟ قلت: جعلوا مكانا للمودة ومقرا لها، كقولك: لي في آل فلان مودّة. ولى فيهم هوى وحب شديد، تريد: أحبهم وهم مكان حبى ومحله، وليست فِي بصلة للمودّة، كاللام إذا قلت: إلا المودّة للقربى، إنما هي متعلقة بمحذوف تعلق الظرف به في قولك: المال في الكيس. وتقديره: إلا المودّة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها. والقربى: مصدر كالزلفى والبشرى، بمعنى: قرابة. والمراد في أهل القربى. وروى أنها لما نزلت قيل: يا رسول اللّه، من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا إلا المودة للقربى، وإنما هي متعلقة بمحذوف تقديره: إلا المودة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها.
قال أحمد: وهذا المعنى هو الذي قصد بقوله في الآية التي تقدمت: إن قوله: {يذرؤكم فيه}، إنما جاء عوضا من قوله: يذرؤكم به، فافهمه.
مودّتهم؟ قال: «علىّ وفاطمة وابناهما» ويدل عليه ما روى عن على رضي الله عنه: شكوت إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حسد الناس لي. فقال «أما ترضى أن تكون رابع أربعة: أوّل من يدخل الجنة أنا وأنت والحسن والحسين، وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا، وذريتنا خلف أزواجنا» وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي. ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها فأنا أجازيه عليها غدا إذا لقيني يوم القيامة» وروى. أنّ الأنصار قالوا: فعلنا وفعلنا، كأنهم افتخروا، فقال عباس أو ابن عباس رضي الله عنهما: لنا الفضل عليكم، فبلغ ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فأتاهم في مجالسهم فقال: «يا معشر الأنصار، ألم تكونوا أذلة فأعزكم اللّه بى»؟ قالوا بلى يا رسول اللّه. قال: «أ لم تكونوا ضلالا فهداكم اللّه بى»؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه. قال: «أفلا تجيبونني»؟
قالوا: ما نقول يا رسول اللّه؟ قال: «ألا تقولون: ألم يخرجك قومك فآويناك، أو لم يكذبوك فصدقناك، أو لم يخذلوك فنصرناك» قال: فما زال يقول حتى جثوا على الركب وقالوا: أموالنا وما في أيدينا للّه ولرسوله. فنزلت الآية. وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «من مات على حب آل محمد مات شهيدا، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفورا له، ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائبا، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمنا مستكمل الإيمان، ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة، ثم منكر ونكير، ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها، ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنة، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل اللّه قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة، ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة اللّه، ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافرا، ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة».
وقيل: لم يكن بطن من بطون قريش إلا وبين رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وبينهم قربى، فلما كذبوه وأبوا أن يبايعوه نزلت. والمعنى: إلا أن تودوني في القربى، أى: في حق القربى ومن أجلها، كما تقول: الحب في اللّه والبغض في اللّه، بمعنى: في حقه ومن أجله، يعنى: أنكم قومي وأحق من أجابنى وأطاعنى، فإذ قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى ولا تؤذوني ولا تهيجوا علىّ.
وقيل: أتت الأنصار رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بمال جمعوه وقالوا: يا رسول اللّه، قد هدانا اللّه بك وأنت ابن أختنا وتعروك نوائب وحقوق ومالك سعة، فاستعن بهذا على ما ينوبك، فنزلت وردّه. وقيل {الْقربى}: التقرب إلى اللّه تعالى، أى: إلا أن تحبوا اللّه ورسوله في تقربكم إليه بالطاعة والعمل الصالح. وقرئ: إلا مودّة في القربى {مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً} عن السدّى أنها المودّة في آل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: نزلت في أبى بكر الصديق رضي الله عنه ومودّته فيهم. والظاهر: العموم في أي حسنة كانت، إلا أنها لما ذكرت عقيب ذكر المودّة في القربى: دل ذلك على أنها تناولت المودّة تناولا أوّليا، كأنّ سائر الحسنات لها توابع. وقرئ: يزد، أى: يزد اللّه. وزيادة حسنها من جهة اللّه مضاعفتها، كقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقرضُ اللَّهَ قرضًا حَسَنًا فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافًا كَثِيرَةً} وقرئ: {حسنى}، وهي مصدر كالبشرى، الشكور في صفة اللّه: مجاز للاعتداد بالطاعة، وتوفية ثوابها، والتفضل على المثاب.

.[سورة الشورى: آية 24].

{أَمْ يَقولونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24)}.
{أَمْ} منقطعة. ومعنى الهمزة فيه التوبيخ، كأنه قيل: أيتما لكون أن ينسبوا مثله إلى الافتراء، ثم إلى الافتراء على اللّه الذي هو أعظم الفرى وأفحشها {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ} فإن يشأ اللّه يجعلك من المختوم على قلوبهم، حتى تفترى عليه الكذب فإنه لا يجترئ على افتراء الكذب على اللّه إلا من كان في مثل حالهم، وهذا الأسلوب مؤدّاه استبعاد الافتراء من مثله، وأنه في البعد مثل الشرك باللّه والدخول في جملة المختوم على قلوبهم. ومثال هذا: أن يخوّن بغض الأمناء فيقول لعل اللّه خذلنى، لعل اللّه أعمى قلبي، وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب.
وإنما يريد استبعاد أن يخوّن مثله، والتنبيه على أنه ركب من تخوينه أمر عظيم، ثم قال: ومن عادة اللّه أن يمحو الباطل ويثبت الحق {بِكَلِماتِهِ} بوحيه أو بقضائه كقوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ} يعنى: لو كان مفتريا كما تزعمون لكشف اللّه افتراءه ومحقه وقذف بالحق على باطله فدمغه. ويجوز أن يكون عدة لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم بأنه يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت والتكذيب، ويثبت الحق الذي أنت عليه بالقرآن وبقضائه الذي لا مردّ له من نصرتك عليهم، إنّ اللّه عليم بما في صدرك وصدورهم، فيجري الأمر على حسب ذلك. وعن قتادة {يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ}: ينسك القرآن ويقطع عنك الوحي، يعنى: لو افترى على اللّه الكذب لفعل به ذلك، وقيل {يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ}: يربط عليه بالصبر، حتى لا يشق عليك أذاهم. فإن قلت: إن كان قوله: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ} كلاما مبتدأ غير معطوف على يختم، فما بال الواو ساقطة في الخط؟ قلت: كما سقطت في قوله تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ} وقوله تعالى: {سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ} على أنها مثبتة في بعض المصاحف.

.[سورة الشورى: آية 25].

{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25)}.
يقال: قبلت منه الشيء، وقبلته عنه. فمعنى قبلته منه: أخذته منه وجعلته مبدأ قبولى ومنشأه.
ومعنى: قبلته عنه: عزلته عنه وأبنته عنه. والتوبة: أن يرجع عن القبيح والإخلال بالواجب بالندم عليهما والعزم على أن لا يعاود، لأنّ المرجوع عنه قبيح وإخلال بالواجب. وإن كان فيه لعبد حق: لم يكن بد من التفصي على طريقه، وروى جابر أن أعرابيا دخل مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم إنى أستغفرك وأتوب إليك، وكبر، فلما فرغ من صلاته قال له على رضي الله عنه: يا هذا، إنّ سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين، وتوبتك تحتاج إلى التوبة. فقال: يا أمير المؤمنين، وما التوبة؟ قال: اسم يقع على ستة معان: على الماضي من الذنوب الندامة، ولتضييع الفرائض الإعادة، وردّ المظالم، وإذا به النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته {وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ} عن الكبائر إذا تيب عنها، وعن الصغائر إذا اجتنبت الكبائر {وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ}. قرئ بالتاء والياء: أى: يعلمه فيثيب على حسناته، ويعاقب على سيئاته.