فصل: قال النسفي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{والذين يُحَاجُّونَ فِي الله} أي يجادلون المؤمنين في دين الإسلام، ويعني كفار قريش، وقيل: اليهود {مِن بَعْدِ مَا استجيب لَهُ} الضمير يعود على الله أي من بعد ما استجاب الناس له ودخلوا في دينه، وقيل: يعود على الدين وقيل: على محمد صلى الله عليه وسلم والأول أظهر وأحسن {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ} أي زاهقة باطلة.
{أَنزَلَ الكتاب} يعني جنس الكتاب {بالحق} أي بالواجب أو متضمنًا الحق {والميزان} قال ابن عباس وغيره يعني: العدل، ومعنى إنزال العدل، إنزال الأمر به في الكتب المنزلة، وقيل يعني الميزان المعروف، فإن قيل: وما وجه اتصال ذكر الكتاب والميزان بذكر الساعة؟ فالجواب أن الساعة يوم الجزاء والحساب، فكأنه قال: أعدلوا وافعلوا الصواب قبل يوم الذي تحاسبون فيه على أعمالكم {لَعَلَّ الساعة قريبٌ} جاء قريب، بالتذكير، لأن تأنيث الساعة غير حقيقي، ولأن المراد به وقت الساعة.
{يَسْتَعْجِلُ بِهَا} أي يطلبون تعجيلها استهزاء بها، وتعجيزًا للمؤمنين {يُمَارُونَ} أي يجادلون ويخالفون.
{يَرْزُقُ مَن يَشَاء} يعني الرزق الزائد على المضمون لكل حيوان في قوله: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} [هود: 6] أي ما تقوم به الحياة، فإن هذا على العموم لكل حيوان طول عمره، والزائد خاص بمن شاء الله.
{حَرْثَ الآخرة} عبارة عن العمل لها، وكذلك حرث الدنيا، وهو مستعار من حرث الأرض؛ لأن الحراث يعمل وينتظر المنفعة بما عمل {نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} عبارة عن تضعيف الثواب {نُؤْتِهِ مِنْهَا} أي نؤته منها ما قدّر له، لأن كل واحد لا بد أن يصل إلى ما قسم له {وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} هذا للكفار، أو لمن كان يريد الدنيا خاصة، ولا رغبة له في الآخرة.
{أَمْ لَهُمْ} أم منقطعة للإنكار والتوبيخ، والشركاء الأصنام وغيرها، وقيل: الشياطين {شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله} الضمير في شرعوا للشركاء، وفي لهم: للكفار، وقيل: بالعكس والأول أظهر {لَمْ يَأْذَن} بمعنى: لم يأمر، والمراد بما شرعوا من البواطل في الاعتقادات، وفي الأعمال، كالبحيرة والوصيلة وغير ذلك.
{وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل} أي لولا القضاء السابق بأن لا يقضي بينهم في الدنيا لقضي بينهم فيها.
{تَرَى الظالمين} يعني في الآخرة.
{ذَلِكَ الذي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ} تقديره يبشر به، وحذف الجار والمجرور {إِلاَّ المودة فِي القربى} فيه أربعة أقوال: الأول أن القرى بمعنى القرابة، وفي بمعنى من أجل، والمعنى لا أسألكم عليه أجرًا إلا أن تودوني لأجل القرابة التي بيني وبينكم؛ فالمقصد على هذا استعطاف قريش، ولم يكن فيهم بطن إلا وبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم قرابة: الثاني أن القربى بمعنى الأقارب، أو ذوي القربى، والمعنى إلا أن تودّوا أقاربي وتحفظوني فيهم، والمقصد على هذا وصية بأهل البيت: الثالث أن القربى قرابة الناس بعضهم من بعض، والمعنى أن تودوا أقاربكم، والمقصود على هذا وصية بصلة الأرحام الرابع أن القربى التقرب إلى الله، والمعنى إلا أن تتقربوا إلى الله بطاعته، والاستثناء على القول الثالث والرابع منقطع، وأما على الأول والثاني فيحتمل الانقطاع، لأن المودّة ليست بأجر، ويحتمل الاتصال على المجاز كأنه قال: لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودة فجعل المودة كالأجر {يَقْتَرِفْ} أي يكتسب {نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} يعني مضاعفة الثواب.
{أَمْ يَقولونَ} أم منقطعة للإنكار والتوبيخ {فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ} فالمقصد بهذا قولان: أحدهما أنه رد على الكفار في قولهم افترى على الله كذبًا: أي لو افتريت على الله كذبًا لختم على قلبك، ولكنك لم تفتر على الله كذبًا فقد هداك وسددك، والآخر أن المراد: إن يشأ الله يختم على قلبك بالصبر على أقوال الكفار، وتحمل أذاهم {وَيَمْحُ الله الباطل} هذا فعل مستأنف غير معطوف على ما قبله، لأن الذي قبله مجزوم، وهذا مرفوع فيوقف على ما قبله ويبدأ به، وفي المراد به وجهان: أحدهما أنه من تمام ما قبله: أي لو افتريت على الله كذبًا لختم على قلبك ومحا الباطل الذي كنت تفتريه لو افتريت، والآخر أنه على وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يمحو الله الباطل وهو الكفر، ويحق الحق وهو الإسلام.
{وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} {عَنْ} هنا بمعنى من، وكأنه قال التوبة الصادرة من عباده وقبول التوبة على ثلاثة أوجه: أحدها التوبة من الكفر فهي مقبولة قطعًا والثاني التوبة من مظالم العباد فهي غير مقبولة حتى ترّد المظالم أو يستحل منها والثالث التوبة من المعاصي التي بين العبد وبين الله فالصحيح أنها مقبولة بدليل هذه الآية وقيل: إنها في المشيئة {وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات} العفو مع التوبة على حسب ما ذكرنا، وأما العفو دون التوبة فهو على أربعة أقسام الأول العفو عن الكفر وهو لا يكون أصلًا، والثاني العفو عن مظالم العباد وهو كذلك والثالث العفو عن الذنوب الصغائر إذا اجتنبت الكبائر، وهو حاصل باتفاق الرابع العفو عن الكبائر فمذهب أهل السنة أنها في المشيئة، ومذهب المعتزلة أنها لا تغفر إلا بالتوبة {وَيَسْتَجِيبُ الذين آمَنُواْ} فيه ثلاثة أقوال أحدها أن معنى يستجيب يجيب والذين آمنوا مفعول، والفاعل ضمير يعود على الله تعالى أي يجيبهم فيما يطلبون منه. وقال الزمخشري: أي أصله يستجيب للذين آمنوا فحذف اللام. والثاني أن معناه يجيب و{الذين آمَنُواْ} فاعل أي يستجيب المؤمنون لربهم باتباع دينه والثالث أن معناه يطلب المؤمنون الإجابة من ربهم واستفعل هذا على بابه من الطلب، والأول أرجح لدلالة قوله: {وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ}؛ ولأنه قول ابن عباس ومعاذ بن جبل.
{وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ} أي يزيدهم ما لا يطلبون، زيادة على الاستجابة فيما طلبوا، وهذه الزيادة روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها الشفاعة والرضوان. اهـ.

.قال النسفي:

{حم} من {عسق} كتابة مخالفًا ل {كهيعص} تلفيقًا بأخواتها ولأنه آيتان و{كهيعص} آية واحدة {كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ} أي مثل ذلك الوحي أو مثل ذلك الكتاب يوحي إليك {وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ} وإلى الرسل من قبلك {الله} يعني أن ما تضمنته هذه السورة من المعاني قد أوحى الله إليك مثله وفي غيرها من السور، وأوحاه إلى من قبلك يعني إلى رسله.
والمعنى أن الله كرر هذه المعاني في القرآن وفي جميع الكتب السماوية لما فيها من التنبيه البليغ واللطف العظيم لعباده.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ليس من نبي صاحب كتاب إلا أوحي إليه بـ: {حم عسق}.
{يُوحَى} بفتح الحاء: مكي.
ورافع اسم الله على هذه القراءة ما دل عليه {يُوحَى} كأن قائلًا قال: من الموحي؟ فقيل: الله {العزيز} الغالب بقهره {الحكيم} المصيب في فعله وقوله: {لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} ملكًا وملكًا {وَهُوَ العلى} شأنه {العظيم} برهانه.
{تَكَادُ السماوات} وبالياء: نافع وعلي.
{يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ} يتشققن، {ينفطرن}: بصري وأبو بكر ومعناه يكدن ينفطرن من علو شأن الله وعظمته يدل عليه مجيئه بعد قوله: {العلي العظيم} وقيل: من دعائهم له ولدًا كقوله: {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} [مريم: 90] ومعنى {مِن فَوْقِهِنَّ} أي يبتدىء الانفطار من جهتهن الفوقانية.
وكان القياس أن يقال ينفطرن من تحتهن من الجهة التي جاءت منها كلمة الكفر لأنها جاءت من الذين تحت السماوات، ولكنه بولغ في ذلك فجعلت مؤثرة في جهة الفوق كأنه قيل: يكدن ينفطرن من الجهة التي فوقهن مع الجهة التي تحتهن.
وقيل: من فوقهن من فوق الأرض فالكناية راجعة إلى الأرض لأنه بمعنى الأرضين.
وقيل: يتشققن لكثرة ما على السماوات من الملائكة، قال عليه السلام «أطت السماء أطًا وحق لها أن تئط، ما فيها موضع قدم إلا وعليه ملك قائم أو راكع أو ساجد».
{والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} خضوعًا لما يرون من عظمته {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن في الأرض} أي للمؤمنين منهم كقوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ} [غافر: 7] خوفًا عليهم من سطواته أو يوحدون الله وينزهونه عما لا يجوز عليه من الصفات حامدين له على ما أولاهم من ألطافه، متعجبين مما رأوا من تعرضهم لسخط الله تعالى، ويستغفرون لمؤمني أهل الأرض الذين تبرءوا من تلك الكلمة، أو يطلبون إلى ربهم أن يحلم عن أهل الأرض ولا يعاجلهم بالعقاب {أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم} لهم {والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} أي جعلوا له شركاء وأندادًا {الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} رقيب على أقوالهم وأعمالهم لا يفوته منها شيء فيجازيهم عليها {وَمَا أَنتَ} يا محمد {عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} بموكل عليهم ولا مفوض إليك أمرهم إنما أنت منذر فحسب.
{وكذلك} ومثل ذلك {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} وذلك إشارة إلى معنى الآية التي قبلها من أن الله رقيب عليهم لا أنت بل أنت منذر لأن هذا المعنى كرره الله في كتابه أو هو مفعول به ل {أَوْحَيْنَا} {قرءانًا عَرَبِيًّا} حال من المفعول به أي أوحيناه إليك وهو قرآن عربي بيّن {لِّتُنذِرَ أُمَّ القرى} أي مكة لأن الأرض دحيت من تحتها ولأنها أشرف البقاع والمراد أهل أم القرى {وَمَنْ حَوْلَهَا} من العرب {وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع} يوم القيامة لأن الخلائق تجتمع فيه {لاَ رَيْبَ فِيهِ} اعتراض لا محل له، يقال: أنذرته كذا وأنذرته بكذا.
وقد عدي {لّتُنذِرَ أُمَّ القرى} إلى المفعول الأول {وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع} إلى المفعول الثاني {فَرِيقٌ في الجنة وَفَرِيقٌ في السعير} أي منهم فريق في الجنة ومنهم فريق في السعير، والضمير للمجموعين لأن المعنى يوم جمع الخلائق.
{وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحدة} أي مؤمنين كلهم {ولكن يُدْخِلُ مَن يَشَاء في رَحْمَتِهِ} أي يكرم من يشاء بالإسلام {والظالمون} والكافرون {مَا لَهُمْ مِّن وَلِىٍّ} شافع {وَلاَ نَصِيرٍ} دافع {أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فالله هُوَ الولى} الفاء لجواب شرط مقدر كأنه قيل بعد إنكار كل ولي سواه إن أرادوا أولياء بحق فالله هو الولي بالحق، وهو الذي يجب أن يتولى وحده لا ولي سواه.
{وَهُوَ يُحْىِ الموتى وَهُوَ على كُلِّ شيء قَدِيرٌ} فهو الحقيق بأن يتخذ وليًا دون من لا يقدر على شيء {وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شيء} حكاية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين أي ما خالفتكم فيه الكفار من أهل الكتاب والمشركين فاختلفتم أنتم وهم فيه من أمر من أمور الدين {فَحُكْمُهُ} أي حكم ذلك المختلف فيه مفوض {إِلَى الله} وهو إثابة المحقين فيه من المؤمنين ومعاقبة المبطلين {ذلكم} الحاكم بينكم {الله رَبِّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} فيه رد كيد أعداء الدين {وَإليه أُنِيبُ} أرجع في كفاية شرهم.
وقيل: وما وقع بينكم الخلاف فيه من العلوم التي لا تتصل بتكليفكم ولا طريق لكم إلى علمه فقولوا: الله أعلم كمعرفة الروح وغيره.
{فَاطِرُ السماوات والأرض} ارتفاعه عل أنه أحد أخبار {ذلكم} أو خبر مبتدأ محذوف {جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} خلق لكم من جنسكم من الناس {أزواجا وَمِنَ الأنعام أزواجا} أي وخلق للأنعام أيضًا من أنفسها أزواجًا {يَذْرَؤُكُمْ} يكثركم.
يقال: ذرأ الله الخلق بثهم وكثرهم {فِيهِ} في هذا التدبير وهو أن جعل الناس والأنعام أزواجًا حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل، واختير {فِيهِ} على (به) لأنه جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير.
والضمير في {يَذْرَؤُكُمْ} يرجع إلى المخاطبين والأنعام مغلبًا فيه المخاطبون العقلاء على الغيب مما لا يعقل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيء} قيل: إن كلمة التشبيه كررت لتأكيد نفي التماثل وتقديره ليس مثله شيء.
وقيل: المثل زيادة وتقديره ليس كهو شيء كقوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا ءامَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137].
وهذا لأن المراد نفي المثلية، وإذا لم تجعل الكاف أو المثل زيادة كان إثبات المثل.
وقيل: المراد ليس كذاته شيء لأنهم يقولون (مثلك لا يبخل) يريدون به نفي البخل عن ذاته ويقصدون المبالغة في ذلك بسلوك طريق الكناية، لأنهم إذا نفوه عمن يسد مسده فقد نفوه عنه فإذا علم أنه من باب الكناية لم يقع فرق بين قوله (ليس كالله شيء) وبين قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيء} إلا ما تعطيه الكناية من فائدتها وكأنهم عبارتان متعقبتان على معنى واحد وهو نفي المماثلة عن ذاته ونحوه {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] فمعناه بل هو جواد من غير تصور يد ولا بسط لها، لأنها وقعت عبارة عن الجود حتى إنهم استعملوها فيمن لا يد له فكذلك استعمل هذا فيمن له مثل ومن لا مثل له {وَهُوَ السميع} لجميع المسموعات بلا أذن {البصير} لجميع المرئيات بلا حدقة، وكأنه ذكرهما لئلا يتوهم أنه لا صفة له كما لا مثل له.
{لَّهُ مَقاليدُ السماوات والأرض} مر في (الزمر) {يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ} أي يضيق {إِنَّهُ بِكُلِّ شيء عَلِيمٌ شَرَعَ} بين وأظهر {لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحًا والذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى} أي شرع لكم من الدين دين نوح ومحمد ومن بينهما من الأنبياء عليهم السلام، ثم فسر المشروع الذي اشترك هؤلاء الأعلام من رسله فيه بقوله: {أَنْ أَقِيمُواْ الدين} والمراد إقامة دين الإسلام الذي هو توحيد الله وطاعته والإيمان برسله وكتبه وبيوم الجزاء وسائر ما يكون المرء بإقامته مسلمًا، ولم يرد به الشرائع فإنها مختلفة قال الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا} [المائدة: 48].
ومحل {أَنْ أَقِيمُواْ} نصب بدل من مفعول {شَرَعَ} والمعطوفين عليه، أو رفع على الاستئناف كأنه قيل وما ذلك المشروع؟ فقيل: هو إقامة الدين {وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} ولا تختلفوا في الدين قال علي رضي الله عنه: لا تتفرقوا فالجماعة رحمة والفرقة عذاب.
{كَبُرَ عَلَى المشركين} عظم عليهم وشق عليهم {مَا تَدْعُوهُمْ إليه} من إقامة دين الله والتوحيد {الله يَجْتَبِى} يجتلب ويجمع {إليه} إلى الدين بالتوفيق والتسديد {مَن يَشَاء وَيَهْدِى إليه مَن يُنِيبُ} يقبل على طاعته {وَمَا تَفَرَّقُواْ} أي أهل الكتاب بعد أنبيائهم {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم} إلا من بعد أن علموا أن الفرقة ضلال وأمر متوعد عليه على ألسنة الأنبياء عليهم السلام {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} حسدًا وطلبًا للرياسة والاستطالة بغير حق {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} وهي {بل الساعة موعدهم} {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} لأهلكوا حين افترقوا لعظم ما اقترفوا {وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ} هم أهل الكتاب الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ} من كتابهم لا يؤمنون به حق الإيمان {مُرِيبٍ} مدخل في الريبة.
وقيل: وما تفرق أهل الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة} {وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ} [الشورى: 14].
هم المشركون أورثوا القرآن من بعد ما أورث أهل الكتاب التوراة والإنجيل.
{فَلِذَلِكَ} فلأجل ذلك التفرق ولما حدث بسببه من تشعب الكفر شعبًا {فادع} إلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفية القوية {واستقم} عليها وعلى الدعوة إليها {كَمَا أُمِرْتَ} كما أمرك الله {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} المختلفة الباطلة {وَقُلْ ءامَنتُ بِمَا أنزل الله مِن كتاب} بأي كتاب صح أن الله تعالى أنزله يعني الإيمان بجميع الكتب المنزلة لأن المتفرقين آمنوا ببعض وكفروا ببعض كقوله: {وَيقولونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} إلى قوله: