فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وروى جابر: أن أعرابيًّا دخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وكبر» فلما فرغ من صلاته قال له علي رضي الله تعالى عنه: يا هذا إن سرعة الاستغفار باللسان توبة الكذابين فقال يا أمير المؤمنين ما التوبة؟ قال: اسم يقع على ستة أشياء على الماضي من الذنوب الندامة ولتضييع الفرائض الإعادة ورد المظالم وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية وإذابتها في الطاعة كما ربيتها في المعصية والبكاء بدل كل ضحك ضحكته. وقال سهل بن عبد الله: التوبة الانتقال من الأحوال المذمومة إلى الأحوال المحمودة. وقال بعضهم: هي الندم على الماضي والترك في الحال والعزم على أن لا يعود إليه في المستقبل. وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة». وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة».
وعن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها».
وروى أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله جعل في الغرب بابًا عرضه مسيرة سبعين عامًا للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها». وروى: «أن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر».
ولما كان القبول قد يكون في المستقبل مع الأخذ بما مضى قال الله تعالى تفضلًا منه ورحمة: {ويعفو عن السيئات} أي: التي كانت التوبة منها صغيرة كانت أو كبيرة وعن غيرها فلا يؤاخذ بها إن شاء لأن التوبة تجب ما قبلها كما أن الإسلام الذي هو توبة خاصة يجب ما يكون قبله وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان هو وراحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فآيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح».
{ويعلم} أي: والحال أنه يعلم كل وقت {ما تفعلون} فيجازي ويتجاوز عن إتقان وحكمة، وقرأ حمزة والكسائي وحفص بتاء الخطاب إقبالًا على الناس عامة وهذا خطاب للمشركين، وقرأ الباقون بالغيبة نظرًا إلى قوله تعالى عن عباده وقال تعالى بعد {ويزيدهم من فضله}.
ولما رغب بالعفو زاد بالإكرام فقال تعالى: {ويستجيب} أي: يوجد بغاية العناية والطلب إجابة {الذين آمنوا} أي: دعاء الذين أقروا بالإيمان في كل ما دعوا به أو شفعوا عنده فيه لأنه لولا إرادته لهم الإكرام بالإيمان ما آمنوا، وعدي الفعل بنفسه ولم يقل: {ويستجيب للذين آمنوا} تنبيهًا على زيادة بره لهم ووصلهم به {وعملوا} تصديقًا لدعواهم الإيمان {الصالحات} فيثيبهم النعيم المقيم {ويزيدهم} أي: مع ما دعوا به لما لم يدعوا به ولم يخطر على قلوبهم {من فضله} أي: تفضلًا منه عليهم ويجوز أن يكون الموصول فاعلًا أي: يجيبون ربهم إذا دعاهم كقوله تعالى: {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم} (الأنفال) واستجاب كأجاب ومنه:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندا ** فلم يستجبه عند ذلك مجيب

وقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: معناه ويثيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله سوى ثواب أعمالهم تفضلًا منه، وروى أبو صالح عنه: (يشفعهم ويزيدهم من فضله) قال في إخوان: إخوانهم ثم أتبع المؤمنين بذكر ضدهم فقال تعالى: {والكافرون} أي: العريقون في هذا الوصف القاطع الذين منعتهم عراقتهم من التوبة والإيمان {لهم عذاب شديد} بدل ما للمؤمنين من الثواب والتفضيل ولا يجيب دعاءهم وما دعاء الكافرين إلا في ضلال، فالآية من الاحتباك ذكر الاستجابة أولًا دليلًا على ضدها ثانيًا والعذاب ثانيًا دليلًا على ضده أولًا. اهـ.

.قال القاسمي:

سورة الشورى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
{حم عسق}.
قد روي بعض المفسرين ها هنا، في تفسير: {حم عسق} آثارًا واهية جدًّا لا يعول عليها. بل هي، كما قال ابن كثير: منكرة، وقد قدمنا أن الصواب أن هذه الحروف، أوائل السور الكريمة، أسماء لها. و: {حم عسق} اسمان للسورة ولذلك فصل بينهما، وعُدَّا آيتين. وقيل اسم واحد، والفصل ليناسب سائر الحواميم، فيكون آية واحدة. وهو الوجه عندي لاشتهارها بهما معًا.
وقوله تعالى: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} كلام مستأنف، وارد التحقيق أن مضمون السورة موافق لما في تضاعيف سائر الكتب المنزلة على الرسل المتقدمة في الدعوة إلى التوحيد، والإرشاد إلى الحق. أو أن إيحاءها مثل إيحائها، بعد تنويهها بذكر اسمها، والتنبيه على فخامة شأنها. والكاف في حيز النصب على أنه مفعول لـ: {يُوْحِي} على الأول، وعلى أنه نعت لمصدر مؤكد له على الثاني، وذَلِكَ- على الأول- إشارة إلى ما فيها، وعلى الثاني إلى إيحائها، وما فيه من معنى البعد، للإيذان بعلوّ رتبة المشار إليه، وبعد منزلته في الفضل؛ أي: مثل ما في هذه السورة من المعاني، أوحى إليك في سائر السور، وإلى من قبلك من الرسل في كتبهم. على أن مناط المماثلة ما أشير إليه من الدعوة إلى التوحيد، والإرشاد إلى الحق، وما فيه صلاح العباد في المعاش والمعاد. أو مثل إيحائها، أوحى إليك عند إيحاء سائر السور. وإلى سائر الرسل عند إيحاء كتبهم إليهم. لا إيحاء مغايرًا له. كما في قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} [النساء: 163] الآية. على أن مدار المثلية كونه بواسطة الملك. وصيغة المضارع على حكاية الحال الماضية، للإيذان باستمرار الوحي، وأن إيحاء مثله عادته. وفي جعل مضمون السورة أو إيحاءها مشبهًا به، من تفخيمها ما لا يخفى. وكذا في وصفه تعالى بوصفي العزة والحكمة. وتأخير الفاعل لمراعاة الفواصل. مع ما فيه من التشويق. وقرئ: {يُوْحَى} على البناء للمفعول، على أن: {كَذَلِكَ} مبتدأ: {وَيُوْحَى} خبره المسند إلى ضميره، أو مصدره و: {يُوْحِي} مسند إلى: {إِلَيْكَ}. و: {اللّهُ} مرتفع بما دل عليه: {يُوْحِي} كأنه قيل: من يوحي؟ فقيل: الله.
{الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} صفتان له، أو مبتدأ، كما في قراءة: {نُوْحِي}، والعزيز وما بعده خبران له، أو العزيز الحكيم صفتان له.
وقوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} خبران له. وعلى الوجوه السابقة، استئناف مقرر لعزته وحكمته. أفاده أبو السعود.
{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ} أي: يتشققن لتأثرهن من تجليات عظمته، ويتلاشين من علو قهره وسلطته، يدل عليه مجيئه بعد: {الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} أو من دعائهم له ولدًا، كما في سورة مريم: {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ} أي: يسألون المغفرة لذنوب من في الأرض من المؤمنين به: {أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاء} أي: شركاء وأندادًا: {اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} أي: رقيب على أفعالهم يحفظ أعمالهم ليجازيهم بها يوم القيامة: {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} أي: بموكل لحفظ أعمالهم، وإنما أنت منذر: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: 40].
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قرآنا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقرى} أي: أهلها، وهي مكة: {وَمَنْ حَوْلَهَا} أي: من العرب وسائر الناس: {وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ} أي: يوم القيامة الذي تكون فيه الفضيحة أعظم؛ لأنه يجمع فيه الخلائق: {لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} أي: منهم فريق في الجنة، وهم الذين آمنوا بالله، واتبعوا ما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفريق في السعير، أي: النار الموقدة المسعورة على أهلها، وهم الذين كفروا بالله، وخالفوا ما جاءهم به رسوله.
{وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: أهل دين واحد وملة واحدة: {وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ} أي: ولكن لم يفعل ذلك فيجعلهم أمة واحدة، لمنافاة ذلك ما يقتضيه حكمة خلق الْإِنْسَاْن من تنوع أفراده المستلزم اختلاف أميالهم ومشاربهم؛ ولذا شاء ما اقتضاه خلقهم واستعدادهم. فكلفهم وبنى أمرهم على ما يختارون. فأدخل من شاء في رحمته وهم المؤمنون، وفي عذابه، الكافرين.
قال أبو السعود: ولا ريب في أن مشيئته تعالى لكل من الإدخالين، تابعة لاستحقاق كل من الفريقين لدخول مدخله: {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} أي: والكافرون بالله مالهم من وليّ يتولاهم يوم القيامة، ولا نُصَيْر ينصرهم من عقاب الله فينقذهم من عذابه، لأنه يدخلهم في قهره. وتوصيفهم بالظالمين، إشارة إلى عدل المؤمنين في باب الاعتقادات، والأخلاق، والأعمال، والأفعال، وأنه تعالى يوإليهم، وينصرهم.
{أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} أي: يتولونهم، مع أنه لا ولاية لهم في الحقيقة؛ إذ لا قدرة ولا قوة: {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} أي: هو الذي يجب أن يتولى وحده، ويعتقد أنه المولى والسيد دون غيره، لتوليه سبحانه كل شيء، وسلطانه وحكمه. والفاء جواب شرط مقدر. كأنه قيل بعد إنكار كل ولي سواه: إن أرادوا وليًا بحق، فالله هو الولي بالحق، لا ولي سواه: {وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ} أي: هو المحي القادر، فكيف تستقيم ولاية غيره؟، وقوله: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْء فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإليه أُنِيبُ} تمهيد لما يأتي بعد، من الأمر بإقامة الدين وعدم التفريق فيه، الذي هو وصية الله تعالى لأنبيائه، وشرعته لخلقه، وتنبيه على أن خلاف من خالف من المشركين والكافرين، إنما مردّه إلى الله تعالى، وحكمه، وقضائه، أنه لا دين إلا دينه، ولا عبادة إلا عبادته، ولا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، والقصد الرد على مشركي مكة وأمثالهم، في تشريعهم ما لم يأذن به الله، وتحكيمهم إتباع الآباء وأفانين الأهواء. فإن السورة مكية، ومع ذلك، فتدل الآية على أن ما اختلف فيه المختلفون وتنازعوا في شيء من الخصومات، يجب أن يكون التحاكم فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن لا يوثر على حكومته حكومة غيره. كقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، وتدل أيضًا على الرجوع إلى المحكم من كتاب الله، والظاهر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا اختلفوا في تأويل آية واشتبه عليهم. وعلى تفويض مالم تصل إلي دركه العقول، إلى الله تعالى، بأن يقال: الله أعلم. كما في قوله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85].
وقوله: {ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبّي} بتقدير قل، أو هو حكاية لقوله صلى الله عليه وسلم. أي: الذي هذه الصفات صفاته، ربي لا آلهتكم التي تدعون من دونه، التي لا تقدر على شيء: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي: في أموري كلها: {وَإليه أُنِيبُ} أي: أرجع في المعاد، أو من الذنوب، أو في الأمور المعضلة.
{فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} أي من جنسهم {أَزْوَاجًا} أي نساء {وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا} أي أصنافًا مختلفة، أو ذكورًا وإناثًا،{يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} أي يكثركم من (الذرء) وهو البث. يقال: ذرأ الله الخلق، بثهم كثرهم، وفسر ب {يخلقكم}، وضمير {فيه} للبطن أو الرحم. وقال الزمخشري: أي في هذا التدبير، وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجًا، حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل، والضمير في {يذرؤكم} يرجع إلى المخاطبين والأنعام مغلبًا فيه المخاطبون العقلاء على الغيب مما لا يعقل، فإن قلت: ما معنى {يذرؤكم} في هذا التدبير؟ وهلا قيل:يذرؤكم به؟ قلت: جعل هذا التدبير كالمنع والمعدن للبث والتكثير. انتهى.
وقيل (في) مستعارة للسببية {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، قال ابن جرير: فيه وجهان: أحدهما أن يكون معناه: ليس مثله شيء، وتكون الكاف هي المدخلة في الكلام. انتهى.
و بقي ثالث وهو أن المثل بمعنى الصفة، أي ليس كصفته صفة، ورابع- وهو ما عول عليه المحققون- أن المراد من (مثله) ذاته، كما في قولهم: مثلك لا يبخل، على قصد المبالغة في نفيه عنه، فإنه إذا نفي عمن يناسبه، كان نفيه عنه أولى، ثم سلكت هذه الطريقة في شأن من لا مثل له سبحانه. ووجه المبالغة أن الكناية من باب دعوى الشيء ببيّنة، وقد بينت الكناية في الآية بوجه آخر أشار إليه الشُّمنِّيّ، وهو أنه نفي للشيء بنفي لازمه، لأن نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم، كما يقال: ليس لأخي زيد أخ. فأخو زيد ملزوم، والأخ لازمه، لأنه لا بد لأخي زيد من أخ هو زيد، فنُفِي هذا اللازم، والمراد نفي ملزومه، أي ليس لزيد أخ. إذ لو كان له أخ لكان لذلك الأخ أخ، هو زيد. فكذا نفي أن يكون لمثل الله مثل، والمراد نفي مثله تعالى- إذ لو كان له مثل، لكان هو تعالى مثل مثله، لتحقق المماثلة من الجانبين.
فلا يصح نفي مثله (أي نفي مثل ذلك المثل) وبالجملة، فأطلق نفي مثل المثل، وأريد لازمه من نفي المثل. قال بعض الأفاضل: طالما كنت أجد في نفسي من هذا شيئا. وذلك أن محصل هذا أن نفي المثل لازم لحقيقة الآية. وقد تقرر أولًا أنها تقتضى إثباته. ولذا أوّلوها بالأوجه المذكورة. فكيف يعقل أن إثبات الشيء ونفيه يلزمان معا لشيء واحد؟ مع تصريحهم بأن تنافي اللوازم يقتضي تنافي الملزومات، وبفرض صحة أن كلا منهما لازم لها، فقصرها على هذا دون ذاك تحكم مع أن القصد إبطال دلالتها على المحال، ولا يكفي فيه قولنا إنه غير مراد كما لا يخفى، ثم ظهر أن إثبات المثل ليس لازمًا لحقيقة الآية قطعًا بل هو محتمل فقط، كما تحتمل نفيه وإن كان الأول أقرب، لكن عارضه في خصوص هذه المادة أنه لو كان له مثل الخ. فبطل ذلك الاحتمال من أصله فالتعويل في نفي المثل على هذه المقدمة القطعية بخلاف المثال فافهم ذلك.
وقال العصام: هذا- أي كون الآية من باب الكناية- وجه تلقاه الفحول بالقبول، ورجحوه بأن الكناية أبلغ من التصريح، وعدم الزيادة أحق بالترجيح، وفيه بحث، وهو أن نفي مثل المثل لا يستلزم نفي المثل؛ لأن الشيء ليس مثل مثله، بل المثل المشارك للشيء في صفة، مع كون الشيء أقوى منه فيها وبمنزلة الأصل، والمثل بمنزله الملحق به المتقارب منه. انتهى.
ورده السيلكوتي فقال: ما قيل إن نفي مثل المثل لا يستلزم نفي المثل لأن مثل الشيء أضعف منه، فتوهم محض، لأن المماثلة هي ا لشركة في أخص الصفات والمساواة في جميع الوجوه مما به المماثلة، صرح به في (شرح العقائد النسفية) انتهى. ومثل هذه اللطائف الأدبية مما تتحلى به أجياد الأفهام، وتتشعب في أودية بدائعه عيون محاسن الكلام.
تنبيه:
قال السيوطي في الإكليل: في الآية رد على المشبهة، وأنه تعالى ليس بجوهر ولا بجسم، ولا عرض ولا لون ولا حال في مكان ولا زمان. انتهى.
وكان حقه أن يتم الاستنباط، فكما أن صدر الآية فيه رد على المشبهة، فكذا تتمتها وهو قوله تعالى: {وهو السميع البصير} رد على المعطلة، ولذا كان أعدل المذاهب مذهب السلف، فإنهم أثبتوا النصوص بالتنزيه من غير تعطيل ولا تشبيه، وذلك أن المعطلين لم يفهموا من أسماء الله تعالى وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات، فجمعوا بين التمثيل والتعطيل، فمثلوا أولًا وعطلوا آخرًا، فهذا تشبيه وتمثيل منهم، للمفهوم من أسمائه وصفاته تعالى، بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم، فعطلوا ما يستحقه سبحانه وتعالى من الأسماء والصفات اللائقة به عز وجل، بخلاف سلف الأمة وأجلاء الأئمة، فإنهم يصفون الله سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه وبما وصف به نبيه صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تشبيه، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فرد على المشبهة بنفي المثلية، ورد على المعطلة بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} قال الحافظ ابن عبد البر: أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة في الكتاب والسنة، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لم يكيفوا شيئا من ذلك، وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج، فكلهم ينكرها ولا يحمل منها شيئا على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أقر بها نافون للمعبود. انتهى.