فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{أَمْ يَقولونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ}.
هنا يأتي على الشبهة الأخيرة، التي قد يعللون بها موقفهم من ذلك الوحي، الذي تحدث عن مصدره وعن طبيعته وعن غايته في الجولات الماضية:
{أَمْ يَقولونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}.
فهم من ثم لا يصدقونه، لأنهم يزعمون أنه لم يوح إليه، ولم يأته شيء من اللّه؟
ولكن هذا قول مردود. فما كان اللّه ليدع أحدا يدعي أن اللّه أوحى إليه، وهو لم يوح إليه شيئا، وهو قادر على أن يختم على قلبه، فلا ينطق بقرآن كهذا. وأن يكشف الباطل الذي جاء به ويمحوه. وأن يظهر الحق من ورائه ويثبته:
{فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ} وما كان ليخفى عليه ما يدور في خلد محمد صلى الله عليه وسلم حتى قبل أن يقوله: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ}.
فهي شبهة لا قوام لها. وزعم لا يقوم على أساس. ودعوى تخالف المعهود عن علم اللّه بالسرائر، وعن قدرته على ما يريد، وعن سنته في إقرار الحق وإزهاق الباطل.. وإذن فهذا الوحي حق، وقول محمد صدق وليس التقول عليه إلا الباطل والظلم والضلال.. وبذلك ينتهي القول- مؤقتا- في الوحي. ويأخذ بهم في جولة أخرى وراء هذا القرار.
{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السيئات وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ}.
هذا القسم الثاني من السورة يمضي في الحديث عن دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق وعن آثار القدرة فيما يحيط بالناس، وفيما يتعلق مباشرة بحياتهم ومعاشهم، وفي صفة المؤمنين التي تميز جماعتهم.. وذلك بعد الحديث في القسم الأول عن الوحي والرسالة من جوانبها المتعددة.. ثم يعود في نهاية السورة إلى الحديث عن طبيعة الوحي وطريقته. وبين القسمين اتصال ظاهر، فهما طريقان إلى القلب البشري، يصلانه بالوحي والإيمان.
{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السيئات وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاء إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ}.
تجيء هذه اللمسة بعد ما سبق من مشهد الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم، ومشهد الذين آمنوا في روضات الجنات. ونفي كل شبهة عن صدق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيما بلغهم به عن اللّه. وتقرير علم اللّه بذوات الصدور.
تجيء لترغيب من يريد التوبة والرجوع عما هو فيه من ضلالة، قبل أن يقضى في الأمر القضاء الأخير. ويفتح لهم الباب على مصراعيه: فاللّه يقبل عنهم التوبة، ويعفو عن السيئات فلا داعي للقنوط واللجاج في المعصية، والخوف مما أسلفوا من ذنوب. واللّه يعلم ما يفعلون. فهو يعلم التوبة الصادقة ويقبلها. كما يعلم ما أسلفوا من السيئات ويغفرها.
وفي ثنايا هذه اللمسة يعود إلى جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين. فالذين آمنوا وعملوا الصالحات يستجيبون لدعوة ربهم، وهو يزيدهم من فضله. {وَ الْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ}.. وباب التوبة مفتوح للنجاة من العذاب الشديد، وتلقي فضل اللّه لمن يستجيب.
وفضل اللّه في الآخرة بلا حساب، وبلا حدود ولا قيود. فأما رزقه لعباده في الأرض فهو مقيد محدود لما يعلمه- سبحانه- من أن هؤلاء البشر لا يطيقون- في الأرض- أن يتفتح عليهم فيض اللّه غير المحدود. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العِلْمُ بَغْيًَا بَيْنَهُمْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمّىً لَّقُضِىَ بَيْنَهُمْ}.
يعني أنهم أَصّرُّوا على باطلهم بعد وضوح البيان وظهور البرهان حين لا عُذْرَ ولا شكَّ.
{وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ}... وهو انه حَكَمَ بتأخيرِ العقوبةِ إلى يومِ القيامة لعَجَّل لهم ما يتمنونه..
{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أنزل الله مِنْ كِتَابٍ} أي أُدْعُ إلى هذا القرآن، وإلى الدين الحنيفي، واستقَمْ في الدعا، وفي الطاعة.
أَمَرَ الكُلَّ من الخَلْقِ بالاستقامة، وأفرده بذكر التزام الاستقامة.
ويقال: الألف والسين والتاء في الاستقامة للسؤال والرغبة؛ أي سَلْ مني أن أقيمك، {وَلاَ تَتَبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ ءامَنتُ بِما أنزل الله مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ}: أمرت بالعدل في القضية، وبأن أُعْلِمَ أنَّ اللَّهَ إلهُ الجميع، وأَنّه يحاسِب غدًا كلًا بعمله، وبأن الحجةَ لله على خَلْقِه، وبأن الحاجةَ لهم إلى مولاهم.
{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)}.
يجادلون في الله من بعد ما استُجِيبَ لدعاء محمدٍ صلى الله عليه وسلم يومَ بدرٍ على المشركين.
وحُجَّةُ هؤلاء الكفار داحضة عند ربهم لأنهم يحتجون بالباطل، وهم من الله مستوجِبون للعنة والعقاب.
{اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)}.
أَنزلَ الكتابَ، وأنزل الحُكْمَ بالميزان أي بالحق.
ويقال ألهمهم وزنَ الأشيئاء بالميزان، ومراعاةَ العدل في الأحوال.
{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ}: يزجرهم عن طول الأمل، وينبههم إلى انتظار هجوم الأجَل.
{يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا}.
المؤمنون يؤمنِون بالبعث وما بعده من أحكام الآخرة، ويَكِلُون أمورَهم إلى الله؛ فلا يتمنون الموتَ حَذَرَ الابتلاء، ولكن إذا وَرَدَ الموتُ لم يكرهوه، وكانوا مستعدين له.
{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاء وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)}.
{لَطِيفُ} أي عالم بدقائق الأمور وغوامضها. واللطيف هو المُلْطِف المحسن.. وكلاهما في وصفه صحيح. واللطف في الحقيقة قدرة الطاعة، وما يكون سبب إحسانه للعبد اليومَ هو لُطْفٌ منه به.
وأكثرُ ما يستعمل اللطف- في وصفه- في الإحيان بالأمور الدينية.
ويقال: خَاطَبَ العابدين بقوله: {لَطيفٌ بِعِبَادِهِ}: أي يعلم غوامضَ أحوالهم. من دقيق الرياء والتصنُّع لئلا يُعْجَبُوا بأحوالهم وأعمالهم. وخاطَبَ العُصاةَ بقوله: {لطيف}: لئلا ييأسوا من إحسانه.
ويقال: خاطَبَ الأغنياء بقوله: {لطيف}: ليعلموا أنه يعلم دقائقَ معاملاتهم في جمع المال من غير وجهه بنوع تأويل، وخاطَبَ الفقراء. بقوله: {لطيف} أي أنه مُحْسِنٌ يرزق من يشاء.
ويقال: سماعُ قوله: {اللَّهُ} يوجِبَ الهيبةَ والفزع، وسماعُ {لطيفٌ} يوجِبُ السكونَ والطمأنينة. فسماعُ قوله: {اللَّهُ} أوجب لهم تهويلًا، وسماع قوله: {لطيفٌ} أوجب لهم تأميلًا.
ويقال: اللطيفُ مَنْ يعطي قَدْرَ الكفاية وفوق ما يحتاج العبدُ إليه.
ويقال: مَنْ لُطفِه بالعبد عِلْمُه بأنه لطيف، ولولا لُطفُه لَمَا عَرَفَ أنه لطيف.
ويقال: مِنْ لُطْفِه أنه أعطاه فوق الكفاية، وكَلَّفَه دون الطاقة.
ويقال: مِنْ لُطفِه بالعبد إبهام عاقبته عليه؛ لأنه لو علم سعادتَه لاتَّكَلَ عليه، وأَقَلَّ عملَه ولو عَلِمَ شقاوتَه لأيِسَ ولَتَرَكَ عَمَله.. فأراده أن يستكثرَ في الوقت من الطاعة.
ويقال: من لطفه بالعبد إخفاء أَجِلِه عنه؛ لئلا يستوحش إن كان قد دنا أَجَلُه. ويقال: من لطفه بالعبد انه يُنْسِيَه ما عمله في الدنيا من الزلّة؛ لئلا يتنغَّص عليه العَيْشُ في الجنة.
ويقال: اللطيفُ مَنْ نَوَّر الأسرارَ، وحفظ على عبده ما أَوْدَعَ قلبَه من الأسرار، وغفر له ما عمل من ذنوبٍ في الإعلان والإسرار.
{مَن كَانَ يُرِدُ حَرْث الآخِرَةِ} نَزِدْه- اليومَ- في الطاعات توفيقًا، وفي المعارف وصفاء الحالات تحقيقًا. ونَزِدْه في الآخرة ثوابًا واقترابًا وفنونَ نجاةٍ وصنوفَ درجاتٍ.
{وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا}: مكتقيًا به نؤتِه منها ما يريد، وليس له في الآخرةِ نصب.
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)}.
{مَالَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ}: أي ليس ذلك مما أمَرَ به، وإنما هو افتراء منهم.
{وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ}: أي ما سبق به الحُكْمُ بتأخير العقوبة إلى القيامة.
{تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ}.
إذا حصل الإجرام فإلى وقتٍ ما لا يُعَذِّبُهم الله في الغالب، ولكنه لا محالةَ يعذبهم. وربما يَثْبُتُ ذلك لبعض أصحاب القلوب فيتأسَّفون، ويعلمون أَنَّ ذلك من الله لهم مُعَجَّلٌ قد أصابهم، أَمَّا الكفار.. فغدًا يُشْفِقُون مما يقع بهم عند ما يقرؤونه في كتابهم، لأنَّ العذابَ- لا محالةَ- واقعٌ بهم.
{وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحاتِ في رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ}: في الدنيا جنان الوصلة، ولذاذة الطاعة والعبادة، وطيب الأُنْسِ في أوقات الخلوة. وفي الآخرة في روضات الجنة: {لَهُم مَا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ}: إِنْ أرادوا دوامَ للطفِ دامَ لهم، وإنْ أرادوا تمامَ الكشف كان لهم.. ذلك هو الفضلُ الكبير.
{ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}.
ذلك الذي يُبَشِّرُ اللَّهُ عبادَه قد مضى ذِكْرُه في القرآن متفرقًا؛ من أوصاف الجنة وأطايبها، وما وَعَدَ اللَّهُ من المثوبة ونحو ذلك قوله جلّ ذكره: {قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ في الْقُرْبَى}.
قُلْ- يا محمد- لا أسألكم عليه أجرًا. مَنْ بَشَّرَ أحدًا بالخير طَلَبَ عليه أجرًا، ولكنَّ اللَّهَ- وقد بَشَّرَ المؤمنين على لسان نبيِّه بما لهم من الكرامات الأبدية- لم يطلب عليه أجرًا؛ فاللَّهُ- سبحانه- لا يطلب عِوَضًا، وكذلك نبيُّه صلى الله عليه وسلم لا يسأل أجرًا؛ فإن المؤمنَ قد أخذ من الله خُلُقًَا حَسَنًا فمتى يطلب الرسولُ منهم أجرًا؟!. وهو- صلوات الله عليه- يشفع لكلِّ مَنْ آمن به، والله- سبحانه- يعطي الثوابَ لكل مَنْ آمن به.
{إلاَّ الْمَوَدَّةَ في الْقُرْبَى}: أراد أن تثبت مودتك في القربى؛ فتودّ منْ يتقرَّب إلى الله في طاعته.
قوله جلّ ذكره: {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}.
تضعيف الثواب في الآخرة للواحدِ من عَشَرة إلى سبعمائة هذه هي الزيادة.
ويقال: الزيادة هي زيادة التوفيق في الدنيا.
ويقال: إذا أتى زيادة في المجاهدة تفضَّلْنا بزيادة.. وهي تحقيق المشاهدة.
ويقال مَنْ يقترِفْ حسنةَ الوظائف (2) نَزِدْ له فيها حُسْنَ اللطائف.
ويقال: تلك الزيادة لا يصل إليها العبدُ بوسعه؛ فهي مما لا يدخل تحت طَوْقِ البَشَر.
{أَمْ يَقولونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} أي أَنَّك إنْ افترَيْتَه خَتَمَ اللّهُ على قلبِكَ، ولكنكَ لم تكذِبْ على ربِّكَ.
ومعنى الآية أنَّ اللَّهَ يتصرَّف في عباده بما يشاء: مِنْ إبعادٍ وتقريب، وإدناء وتبعيد.
{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السيئات وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)}.
{وَيَعْفُواْ عِنِ السيئات} الألف واللام للجنس مطلقًا، وهي هنا للعهد؛ أي تلك السيئات التي تكفي التوبةُ المذكورةُ في الشريعة لقبولها؛ فإنه يعفو عنها إذا شاء.
{وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}: من الأعمال على اختلافها.
وهو {الذي}... الذي من الأسماء الموصولة التي لا يتم معناها إلا بِصِلَةٍ، فهو قد تعرَّف إلى عباده على جهة المدح لنفسه بأنه يقبل توبة العبد؛ فالزَّلّةُ- وإن كانتْ توجِبُ للعبد ذميمَ الصِّفَةِ- فإنَّ قبولَها يوجِبُ للحقِّ حميدَ الاسم.
ويقال: قوله: {عباده} اسم يقتضي الخصوصية (لأنه أضافه إلى نفسه) حتى تمنَّى كثير من الشيوخ أن يحاسبه حسابَ الأولين والآخرين لعلّه يقول له: عبدي. ولكن ماطلبوه فيما قالوه موجود في {التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}؛ وإذًا فلا ينبغي لهم أن يتمنوا كذلك، وعليهم أن أن يتوبوا لكي يَصِلوا إلى ذلك.
ويقال لمَّا كان حديثُ العفوِ عن السيئات ذكَرَها على الجمع والتصريح فقال: {وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات}. ثم لمَّا كان حديثُ التهديد قال: {وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} فذكره على التلويح؛ فلم يقل: ويعلم زلَّتك- بل قال ويعلم {ما} تفعلون، وتدخل في ذلك الطاعةُ والزّلةُ جميعًا.
قوله جلّ ذكره: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ}.
(أي إذا دَعَوْه استجابَ لهم) بعظيم الثواب في الآخرة.
{وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ} يقول المفسرون من أهل السُّنَّة في هذه الزيادة إنها الرؤية.
ذَكَرَ التوبة وأهلها، وذكر العاصين بوصفهم، ثم ذكر المطيعين الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلمَّا وصل إلى الزيادة- التي هي الرؤية- قال: {ويزيدهم} على الجمع؛ والكناية إذا تَلَتْ مذكوراتٍ رجعت إليهما جميعًا؛ فيكون المعنى أن الطاعاتِ في مقابلها الدرجات، وتكون بمقدارها في الزيادة والنقصان، وأَمَّا الرؤية فسبيلها الزيادة والفضل والفضلُ ليس فيه تمييز.
ويقال: لمَّا ذكر أنَّ التائبين تُقْبَلُ توبتُهم، ومَنْ لم يَتُبْ غفر زلَّته، وأنَّ المطيعين لهم الجنة.. فلربما خَطَرَ ببالِ أَحَدٍ: وإذًا فهذه النارُ لِمَنْ هي؟! فقال جل ذكره.
{وَالْكَافِرُون لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}.
فالعصاةُ من المؤمنين لهم عذابٌ.. امَّا الكافرون فلهم عذابٌ شديدٌ؛ لأنَّ دليلَ الخطاب يقتضي هذا وذاك؛ يقتضي أن المؤمنين لهم عذابٌ.. ولكنْ ليس بشديد، وأمَّا عذابُ الكافرين فشديدٌ.
ويقال: إن لم يَتُبْ العبدُ خوفًا من النار، ولا طمعًا في الجنة لَكَان من حقِّه أن يتوب ليَقْبَلَ الحقُّ- سبحانه.
ويقال إن العاصي يكون ابدًا منكسرَ القلب، فإذا عَلِمَ أن اللَّهَ يَقْبَلُ الطاعة من المطيعين يتمنى أَنْ ليت له طاعةً مُيَسَّرَةً ليقبلَها، فيقول الحقُّ: عبدي، إنْ لم تَكُنْ لك طاعةٌ تصلح للقبول فَلكَ توبةٌ إنْ أتيْتَ بها تصلح لقبولها. اهـ.

.تفسير الآيات (27- 31):

قوله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)}.