فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال عليّ رضي الله عنه: هذه الآية أرجى آية في كتاب الله عز وجل.
وإذا كان يكفّر عني بالمصائب ويعفو عن كثير فما يبقى بعد كفارته وعفوه! وقد روى هذا المعنى مرفوعًا عنه رضي الله عنه، قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: ألاَ أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدّثنا بها النبي صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} الآية: «يا عليّ ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبِما كسبت أيديكم. والله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة وما عفا عنه في الدنيا فالله أحلم من أن يعاقب به بعد عفوه».
وقال الحسن: لما نزلت هذه الآية قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما من اختلاج عِرْق ولا خَدْش عُود ولا نكبة حجر إلاّ بذنب ولما يعفو الله عنه أكثر» وقال الحسن: دخلنا على عمران بن حُصين فقال رجل: لا بد أن أسألك عما أرى بك من الوجع؛ فقال عمران: يا أخي لا تفعل! فوالله إني لأحِبّ الوجع ومن أحبه كان أحبّ الناس إلى الله، قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} فهذا مما كسبت يدي، وعَفْوُ ربي عما بقي أكثر.
وقال مُرَّة الْهَمْداني: رأيت على ظهر كف شُريح قُرحة فقلت: يا أبا أمية، ما هذا؟ قال: هذا بما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير.
وقال ابن عَون: إن محمد بن سِيرين لما ركبه الدَّين اغتم لذلك فقال: إني لأعرف هذا الغم، هذا بذنب أصبته منذ أربعين سنة.
وقال أحمد بن أبي الحَوَارِي قيل لأبي سليمان الدّاراني: ما بال العقلاء أزالوا اللوم عمن أساء إليهم؟ فقال: لأنهم علموا أن الله تعالى إنما ابتلاهم بذنوبهم، قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ}.
وقال عِكرمة: ما من نكبة أصابت عبدًا فما فوقها إلا بذنب لم يكن الله ليغفره له إلا بها أو لينال درجة لم يكن يوصّله إليها إلا بها.
وروي أن رجلًا قال لموسى: يا موسى سل الله لي في حاجة يقضيها لي هو أعلم بها؛ ففعل موسى؛ فلما نزل إذ هو بالرجل قد مزّق السّبْع لحمه وقتله؛ فقال موسى: ما بال هذا يا رب؟ فقال الله تبارك وتعالى له: يا موسى إنه سألني درجة علمت أنه لم يبلغها بعمله فأصبته بما ترى لأجعلها وسيلة له في نيل تلك الدرجة.
فكان أبو سليمان الدَّارَاني إذا ذكر هذا الحديث يقول: سبحان من كان قادرًا على أن ينيله تلك الدرجة بلا بلوى! ولكنه يفعل ما يشاء.
قلت: ونظير هذه الآية في المعنى قوله تعالى: {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] وقد مضى القول فيه.
قال علماؤنا: وهذا في حق المؤمنين، فأما الكافر فعقوبته مؤخرة إلى الآخرة.
وقيل: هذا خطاب للكفار، وكان إذا أصابهم شرّ قالوا: هذا بشؤم محمد؛ فردّ عليهم وقال بل ذلك بشؤم كفركم.
والأوّل أكثر وأظهر وأشهر.
وقال ثابت البُنانِيّ: إنه كان يقال ساعات الأذى يذهبن ساعات الخطايا.
ثم فيها قولان: أحدهما أنها خاصة في البالغين أن تكون عقوبة لهم، وفي الأطفال أن تكون مثوبة لهم.
الثاني أنها عقوبة عامة للبالغين في أنفسهم والأطفال في غيرهم من والد ووالدة.
{وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} أي عن كثير من المعاصي ألا يكون عليها حدود؛ وهو مقتضى قول الحسن.
وقيل: أي يعفو عن كثير من العصاة ألاّ يعجل عليهم بالعقوبة.
{وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرض} أي بفائتين الله؛ أي لن تعجزوه ولن تفوتوه {وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} تقدّم في غير موضع. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ في الأرض} أي لتكبروا فيها بطرًا وتجاوزوا الحد الذي يليق بالعبيد أو لظلم بعضهم بعضًا فإن الغنى مبطرة مأشرة، وكفى بحال قارون عبرة، وفي الحديث «أخوف ما أخاف على أمتي زهرة الدنيا وكثرتها» ولبعض العرب:
وقد جعل الوسمي ينبت بيننا ** وبين بني رومان نبعًا وشوحطا

وأصل البغي طلب أكثر مما يجب بأن يتجاوز في القدر والكمية أو في الوصف والكيفية {ولكن يُنَزّلُ} بالتشديد، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف من الإنزال {بِقَدَرٍ} بتقدير {مَا يَشَاء} وهو ما اقتضته حكمته جل شأنه {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ} محيط بخفيات أمورهم وجلاياها فيقدر لكل واحد منهم في كل وقت من أوقاتهم ما يليق بشأنه فيفقر ويغني ويمنع ويعطي ويقبض ويبسط حسبما تقتضيه الحكمة الربانية ولو أغناهم جميعًا لبغوا ولو أفقرهم لهلكوا.
واستشكلت الآية بأن الغنى كما يكون سبب البغي فكذلك الفقر قد يكون فلا يظهر الشرطية، وأجاب جار الله بأنه لا شبهة أن البغي مع الفقر أقل ومع البسط أكثر وأغلب وكلاهما سبب ظاهر للإقدام على البغي والإحجام عنه فلو عم البسط لغلب البغي حتى ينقلب الأمر إلى عكس ما عليه الآن وأراد والله تعالى أعلم أن نظام العالم على ما هو عليه يستمر وإن كان قد يصدر من الغني في بعض الأحيان بغي ومن الفقير كذلك لكن في أحدهما ما يدفع والآخر أما لو أفقرهم كلهم لكان الضعف والهلك لازمًا ولو بسط عليهم كلهم مع أن الحاجة طبيعية لكان من البغي ما لا يقادر قدره لأن نظام العالم بالفقر أكثر منه بالغنى، وهذا أمر ظاهر مكشوف؛ ثم إن الفقر الكلي لا يتصور معه البغي للضعف العام ولأنه لا يجد حاجته عند غيره ليظلمه، وأما الغنى الكلي فعنده البغي التام، وأما الذي عليه سنة الله عز وجل فهو الذي جمع الأمرين مشتملًا على خوف للغني من الفقراء يزعه عن الظلم وخوف للفقير من الأغنياء أكثر منه يدعوه إلى التعاون ليفوز بمبتغاه ويزعه عن البغي، ثم قد يتفق بغي من هذا أو ذاك كذا قرره صاحب الكشف ثم قال: وهذا جواب حسن لا تكلف فيه وهو إشارة إلى رد العلامة الطيبي فإنه زعم أنه جواب متكلف وأن السؤال قوي، وذهب هو إلى أن المراد {بِعِبَادِهِ} من خصهم الله تعالى بالكرامة وجعلهم من أوليائه ثم قال: وينصره التذييل بقوله تعالى: {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ} ووضع المظهر موضع المضمر أي أنه تعالى خبير بأحوال عباده المكرمين بصير بما يصلحهم وما يرديهم، وإليه ينظر ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم: «إذا أحب الله تعالى عبدًا حماه الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء»، ويشد من عضده قول خباب بن الأرت نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع فتمنيناها فنزلت {وَلَوْ بَسَطَ} الآية وقول عمرو بن حريث طلب قوم من أهل الصفة من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يغنيهم الله تعالى ويبسط لهم الأموال والأرزاق فنزلت عليه تفسير محيي السنة انتهى.
ولا يخفى أن الأنسب بحال المكرمين المصطفين من عباده تعالى أن لا يبطرهم الغنى لصفاء بواطنهم وقوة توجههم إلى حظائر القدس ومزيد تعلق قلوبهم بمحبوبهم ووقوفهم على حقائق الأشيئاء وكمال علمهم بمنتهى زخارف الحياة الدنيا، وأبناء الدنيا لو فكروا في ذلك حق التفكر لهان أمرهم وقل شغفهم كما قيل:
لو فكر العاشق في منتهى ** حسن الذي يسبيه لم يسبه

فلعل الأولى ما تقدم أو يقال: إن هذا في بعض العباد المؤمنين فتأمل.
{وَهُوَ الذي يُنَزّلُ الغيث} أي المطر الذي يغيثهم من الجدب ولذلك خص بالنافع منه فلا يقال غيث لكل مطر، وقرأ الجمهور {يُنَزّلٍ} مخففًا.
{مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ} يئسوا منه، وتقييد تنزيله بذلك مع تحققه بدونه أيضًا لتذكير كمال النعمة؛ وقرأ الأعمش.
وابن وثاب {قَنَطُواْ} بكسر النون {وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ} أي منافع الغيث وآثاره في كل شيء من السهل والجبل والنبات والحيوان أو رحمته الواسعة المنتظمة لما ذكر انتظامًا أوليًا، وقيل: الرحمة هنا ظهور الشمس لأنه إذا دام المطر سئم فتجيء الشمس بعده عظيمة الموقع ذكره المهدوي وليس بشيء، ومن البعيد جدًّا ما قاله السدي من أن الرحمة هنا الغيث نفسه عدد النعمة نفسها بلفظين، {وأيًّا ما كان فضمير} رحمته لله عز وجل، وجوز على الأول كونه للغيث.
{مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الولى} الذي يتولى عباده بالإحسان ونشر الرحمة {الحميد} المستحق للحمد على ذلك لا غيره سبحانه.
{وَمِنْ ءاياته خَلْقُ السماوات والأرض} على ما هما عليه من تعاجيب الصنائع فإنها بذاتها وصفاتها تدل على شؤونه تعالى العظيمة، ومن له أدنى إنصاف وشعور يجزم باستحالة صدورها من الطبيعة العديمة الشعور.
{وَمَا بَثَّ فِيهِمَا} عطف على {السماوات} أي ومن آياته خلق ما بث أو عطف على {خُلِقَ} أي ومن آياته ما بث.
و {مَا} تحتمل الموصولية والمصدرية والموصولية أظهر ولا حاجة عليه إلى تقدير مضاف أي خلق الذي بث خلافًا لأبي حيان {مِن دَابَّةٍ} أي حيوان له دبيب وحركة، وظاهر الآية وجود ذلك في السماوات وفي الأرض وبه قال مجاهد وفسر الدابة بالناس والملائكة، ويجوز أن يكون للملائكة مشي مع الطيران، واعترض ذلك ابن المنير بأن إطلاق الدابة على الأناسي بعيد في عرف اللغة فكيف بالملائكة وادعى أن الأصح كون الدواب في الأرض لا غير؛ وما في أحد الشيئين يصدق أنه فيهما في الجملة، فالآية على أسلوب {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وذلك لقوله تعالى في البقرة (164): {وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّةٍ} فإنه يدل على اختصاص الدواب بالأرض لأن مقام الإطناب يقتضي ذكره لو كان لا للعمل بمفهوم اللقب الذي لا يقول به الجمهور والجواب أن التي في البقرة لما كانت كلامًا مع الغبي والفهم والمسترشد والمعاند جىء فيه بما هو معروف عند الكل وهو بث الدواب في الأرض وأما هاهنا فجىء به مدمجًا مختصرًا لما تكرر في القرآن ولا سيما في هذه السورة من كمال قدرته على كل ممكن فقيل: {وَمِنْ ءاياته خَلْقُ السماوات والأرض وَمَا بَثَّ فِيهِمَا} مؤثرًا على لفظ الخلق ليدل على التكثير الدال على كمال القدرة وبين بقوله تعالى: {مِن دَابَّةٍ} تعميمًا وتغليبًا لغير ذوي العلم في السماوي والأرضي تحقيقًا للمخلوقية فقد ثبت في صحاح الأحاديث ما يدل على وجود الدواب في السماء من مراكب أهل الجنة وغيرها، وكذلك ما يدل على وجود ملائكة كالأوعال بل لا يبعد أن يكون في كل سماء حيوانات ومخلوقات على صور شتى وأحوال مختلفة لا نعلمها ولم يذكر في الأخبار شيء منها فقد قال تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 8] وأهل الأرصاد اليوم يتراءى لهم بواسطة نظاراتهم مخلوقات في جرم القمر لكنهم لم يحققوا أمرها لنقص ما في الآلات على ما يدعون، ويحتمل أن يكون فيما عدا القمر ونفي ذلك ليس من المعلوم من الدين بالضرورة ليضر القول به، وقيل: المراد بالسماوات جهات العلو المسامتة للأقاليم مثلًا وفي جو كل إقليم بل كل بلدة بل كل قطعة من الأرض حيوانات لا يحصي كثرتها إلا الله تعالى بعضها يحس بها بلا واسطة آلة وبعضها بواسطتها، وقيل: المراد بها السحب وفيها من الحيوانات ما فيها وكل ذلك على ما فيه لا يحتاج إليه، وكذا لا يحتاج إلى ما ذهب إليه كثير من أن المراد بالدابة الحي مجازًا إما من استعمال المقيد في المطلق أو إطلاق الشيء على لازمه أو المسبب على سببه لأن الحياة سبب للدبيب وإن لم تكن الدابة سببًا للحي فيكون مجازًا مرسلًا تبعيًا لأن الاحتياج إلى ذلك عدول عن الظاهر ولا يعدل عنه إلا إذا دل دليل على خلافه وأين ذلك الدليل؟ بل هو قائم على وجود الدواب في السماء كما هي موجودة في الأرض.
{وَهُوَ على جَمْعِهِمْ} أي حشرهم بعد البعث للمحاسبة {إِذَا يَشَاء} ذلك {قَدِيرٌ} تام القدرة كاملها، و{إِذَا} متعلقة بما قبلها لا بقدير لأن المقيد بالمشيئة جمعه تعالى لا قدرته سبحانه وهي كما تدخل على الماضي تدخل على المضارع، ومنه قوله:
وإذا ما أشاء أبعث منها ** آخر الليل ناشطًا مذعورًا

وقول صاحب الكشف: لقائل أن يفرق بين إذا وإذا ما الظاهر أنه ليس في محله وقد نص الخفاجي على عدم الفرق وجعل القول به توهمًا، وكذا نص على أنها تدخل على الفعلين ظرفية كانت أو شرطية، وقيد ذلك الطيبي بما إذا كانت بمعنى الوقت كما هنا، وضمير {جَمْعِهِمْ} قيل للسموات والأرض وما فيهما على التغليب وهو كما ترى، وقيل: للدواب المفهوم مما تقدم وضمير العقلاء للتغليب المناسب لكون الجمع للمحاسبة، وقيل: للناس المعلوم من ذلك ولعله الأولى.
{وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ} أي مصيبة كانت من مصائب الدنيا كالمرض وسائر النكبات {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} أي فبسبب معاصيكم التي اكتسبتموها، و{مَا} اسم موصول مبتدأ والمبتدأ إذا كان موصولًا صلته جملة فعلية تدخل على خبره الفاء كثيرًا لما فيه من معنى الشرط لإشعاره بابتناء الخبر عليه فلذا جىء بالفاء هنا.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر في رواية وشيبة {بِما} بغير فاء لأنها ليست بلازمة وإيقاع المبتدأ موصولًا يكفي في الإشعار المذكور، وحكي عن ابن مالك أنه قال: اختلاف القراءتين دل على أن ما موصولة فجىء تارة بالفاء في خبرها وأخرى لم يؤت بها حطًا للمشبه عن المشبه به، وجوز كون ما شرطية واستظهره أبو حيان في القراءة بالفاء وجعلها موصولة في القراءة الأخرى بناء على أن حذف الفاء من جواب الشرط مخصوص بالشعر عند سيبويه نحو:
من يفعل الحسنات الله يشكرها

والأخفش وبعض نحاة بغداد أجازوا ذلك مطلقًا، ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121].
وقال أبو البقاء: حذف الفاء من الجواب حسن إذا كان الشرط بلفظ الماضي ويعلم منه مزيد حسن حذفها هنا على جعل ما موصولة {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} أي من الذنوب فلا يعاقب عليها بمصيبة عاجلًا قيل وآجلًا.
وجوز كون المراد بالكثير الكثير من الناس والظاهر الأول وهو الذي تشهد له الأخبار.
روى الترمذي عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يصيب عبدًا نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب وما يعفو الله تعالى عنه أكثر وقرأ {وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ}».
وأخرج ابن المنذر، وجماعة عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية {وَمَا أصابكم} الخ، قال عليه الصلاة والسلام «والذي نفسي بيده ما من خدش عود ولا اختلاج عرق ولا نكبة حجر ولا عثرة قدم إلا بذنب وما يعفو الله عز وجل عنه أكثر».
وأخرج ابن سعد عن أبي مليكة أن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما كانت تصدع فتضع يدها على رأسها وتقول بذنبي وما يغفره الله تعالى أكثر، ورؤى على كف شريح قرحة فقيل: بم هذا؟ فقال: بما كسبت يدي، وسئل عمران بن حصين عن مرضه فقال: إن أحبه إلى أحبه إلى الله تعالى وهذا بما كسبت يدي، والآية مخصوصة بأصحاب الذنوب من المسلمين وغيرهم فإن من لا ذنب له كالأنبياء عليهم السلام قد تصيبهم مصائب، ففي الحديث (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل) ويكون ذلك لرفع درجاتهم أو لحكم أخرى خفيت علينا، وأما الأطفال والمجانين فقيل غير داخلين في الخطاب لأنه للمكلفين وبفرض دخولهم أخرجهم التخصيص بأصحاب الذنوب فما يصيبهم من المصائب فهو لحكم خفية، وقيل: في مصائب الطفل رفع درجته ودرجة أبويه أو من يشفق عليه بحسن الصبر ثم أن المصائب قد تكون عقوبة على الذنب وجزاء عليه بحيث لا يعاقب عليه يوم القيامة، ويدل على ذلك ما رواه أحمد في مسنده والحكيم الترمذي وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: «ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله تعالى حدثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} وسأفسرها لك يا علي ما أصابك من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم والله تعالى أكرم من أن يثنى عليكم العقوبة في الآخرة وما عفا الله تعالى عنه في الدنيا فالله سبحانه أكرم من أن يعود بعد عفوه»، وزعم بعضهم أنها لا تكون جزاء لأن الدنيا دار تكليف فلو حصل الجزاء فيها لكانت دار جزاء وتكليف معا وهو محل فما هي إلا امتحانات، وخبر علي كرم الله وجهه يرده وكذا ما صح من أن الحدود أي غير حد قاطع الطريق مكفرات وأي محالية في كون الدنيا دار تكليف ويقع فيها بعض الأشخاص ما يكون جزاء له على ذنبه أي مكفرًا له.