فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال بعض الأجلة: التحقيق أن {يعف} عطف على قوله تعالى: {يُسْكِنِ الريح} [الشورى: 33] إلى قوله سبحانه: {بِما كَسَبُواْ} ولذا عطف بالواو لا بأو والمعنى إن يشأ يعاقبهم بالإسكان أو الاعصاف وإن يشأ يعف عن كثير.
وجوز بعضهم حمل {يُوبِقْهُنَّ} على ظاهره لأن السفن من جملة أموالهم التي هلاكها والخسارة فيها بذنوبهم أيضًا وجعل الآية مثل قوله تعالى: {وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ} [الشورى: 30] الخ.
وقرأ الأعمش {يَعْفُوَ} بالواو الساكنة آخره على عطفه على مجموع الشرط والجواب دون الجواب وحده كما في قراءة الجزم، وعن أهل المدينة أنهم قرؤوا {يَعْفُوَ} بالواو المفتوحة على أنه منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الواو والعطف على هذه القراءة على مصدر متصيد مت الكلام السابق كأنه قيل: يقع وهو من العطف على المعنى وهذا مذهب البصريين في مثل ذلك وتسمى هذا الواو واو الصرف لصرفها عن عطف الفعل المجزوم قبلها إلى عطف مصدر على مصدر، ومذهب الكوفيين أن الواو بمعنى أن المصدرية ناصبة للمضارع بنفسها.
واختار الرضى أن الواو أما واو الحال والمصدر بعدها مبتدأ خبره مقدر والجمالة حالية أو واو المعية وينصب بعدها الفعل لقصد الدلالة على معية الأفعال كما أن الواو في المفعول معه دالة على مصاحبة الأسماء فعدل به عن الظاهر ليكون نصًا في معنى الجمعية، والمشهور اليوم على ألسنة المعربين مذهب البصريين وعليه خرج أبو حيان النصب في هذه القراءة وكذا خرج غير واحد ومنهم ازلجاج النصب في قوله تعالى: {وَيَعْلَمَ الذين يجادلون في آياتنا مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ} أي من مهرب ومخلص من العذاب على ذلك، وجعلوا الجزاء بمنزلة الإنشاء كالاستفهام فكأنه تقدم أحد الأمور الستة ولم يرتض ذلك الزمخشري وقال: فيه نظر لما أورده سيبويه في الكتاب قال: واعلم أن النصب بالفاء والواو في قوله: إن تأتني آتك وأعطيك ضعيف وهو نحو من قوله:
وألحق بالحجاز فاستريحا

فهذا تجوز ولا بحد الكلام ولا وجهه إلا أنه في الجزاء صار أقوى لأنه ليس بواجب أنه يفعل إلا أن يكون من الأول فعل فلما ضارع الذي لا يوجبه كالاستفهام ونحوه أجازوا فيه هذا على ضعف، ولا يجوز أن تحمل القراءة المستفيضة على وجه ضعيف ليس بحد الكلام ولا وجهه ولو كانت من هذا الباب لما أخلى سيبويه منها كتابه وقد ذكر نظائرها من الآيات المشكلة انتهى، وخرج هو النصب في {يَعْلَمْ} على العطف على علة مقدرة قال: أي لينتقم منهم ويعلم الذين الخ، وكم من نظير له في القرآن العظيم إلا أن ذلك مع وجود حرف التعليل كقوله تعالى: {وَلِنَجْعَلَهُ ءايَةً لّلْنَّاسِ} [مريم: 21] وقوله سبحانه: {خَلَقَ الله السماوات والأرض بالحق يَتَأَخَّرَ كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ} [الجاثية: 22].
وقال أبو حيان: يبعد هذا التقدير أنه ترتب على الشرط إهلاك قوم ونجاة قوم فلا يحسن لينتقم منهم.
وأجيب بأن الآية مخصوصة بالمجرمين فالمقصود الهلاك ويجوز أن يقدر ليظهر عظيم قدرته تعالى ويعلم الذين يجادلون فلا يرد عليه ما ذكر ويحسن ذلك التقدير في توجيه النصب في {يَعْفُوَ} على ما روي عن أهل المدينة إذا خدش التوجيه السابق بما نقل عن سيبويه فيقال: إنه عطف على تعليل مقدر أي لينتقم منهم ويعفو عن كثير، وقراءة النصب في {يَعْلَمْ} هي التي قرأ بها أكثر السبعة.
وقرأ نافع. وابن عامر. وأبو جعفر. والأعرج. وشيبة. وزيد بن علي بالرفع، وقرر في الكشف وجهه بأنه على عطف يعلم على مجموع الجملة الشرطية على معنى ومن آياته الدالة على كمال القدرة السفن في البحر ثم ذكر وجه الدلالة وأنها مسخرة تحت أمره سبحانه تارة بتضمن نفع من فيها وتارة بالعكس ثم قال جل وعلا ويعلم الذين يعاندون ولا يعترفون بآيات الله تعالى الباهرة بدل قوله سبحانه: {فيها} بالضمير الراجع إلى الآية المبحوث عنها شهادة بأنها من آيات الله تعالى وزيادة للتحذير وذم الجدال فيها وليكون على أسلوب الكناية على نحو العرب لا حفر الذمم فكأنه لما قيل: {إن يشأ يسكن الريح} [الشورى: 33] وذكر سبب الدلالة صار في معنى يعلمها ويعترف بها المتدبرون في آياتنا المسترشدون ويعلم المجادلون فيها المنكرون ما لهم من محيص، وجاز أن يجعل عطفًا على قوله تعالى: {وَمِنْ ءاياته الجوار} [الشورى: 32] وتجعل هذه وحدها آيات لتضمنها وجوهًا من الدلالة أقميت مقام المضمر، والمعنى ومن آياته الجوار ويعلم المجادلون فيها، واعترض بين المعطوف والمعطوف عليه ببيان وجه الدلالة ليدل على موجب وعيد المجادل وعلى كونه آية بل آيات، ونقل عن أن الحاجب أنه يجوز أن يكون الرفع بالعطف على موضع الجزاء المتقدم باعتبار كونه جملة لا باعتبار عطف مجرد الفعل ليجب الجزم فتكون الجملتان مشتركتين في المسببية، وفيه بحث يعلم مما سيئاتي إن شاء الله تعالى، وقرئ {وَيَعْلَمَ} بالجزم.
وخرج على العطف على {يعف} وتسببه عن الشرط باعتبار تضمن الأخبار عن علم المجادلين بما يحل بهم في المستقبل الوعيد والتحذير كما قيل:
سوف ترى إذا انجلى الغبار ** أفرس تحتك أم حمار

ومرجع المعنى على ذلك أنه تعالى إن يشأ يعصف الريح فيغرق بعضًا وينج آخرين عفوًا ويحذر جماعة أخرى.
واعترض بأن التخصيص بالمجادلين في هذا التحذير غير لائح، وأيضًا علمهم بأن لا محيص من عذاب الله تعالى على تقدير عصف الريح بأهل السفن على سبيل العبرة ولا اختصاص لها بهم ولا بهذا المقدور خاصة.
وأجيب عن الأول بأن التخصيص بالمجادلين لأنهم أولى بالتحذير، وعن الأخير بأنه أريد أن البر والبحر لا ينجيان من بأسه عز وجل فهو تعميم، واختار في الكشف كون التخريج على أن الآية في الكافرين بمعنى إن يشيعصف الريح فيغرق بعضهم وينج آخرين منهم عفوًا ويعلموا ما لهم من محيص فلا يغتروا بالنجاة والعفو في هذه المرة، فالمجادلون هم الكثير الناجون أو بعضهم وهو على منوال قوله تعالى: {أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أخرى} [الإسراء: 69] الآية، ومن مجموع ما سمعت يلوح لك ضعف هذه القراءة ولهذا لم يقرى بها في السبعة، والظاهر على القراءات الثلاث أن فاعل {يَعْلَمُ الذين} وجملة {مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ} سادة مسد المفعولين.
وفي الدر المصون أن الجملة في قراءة الرفع تحتمل الفعلية وتحتمل الاسمية أي وهو يعلم الذين، ولا يخفى أن الظاهر على الاهتمال الثاني كون {الذين} مفعولًا أولًا والجملة مفعولًا ثانيًا والفاعل ضمير تعالى المستتر، وأوجب بعضهم هذا على قراءة الجزم وعطف {يعلم} على {يعف} لئلا يخرج الكلام عن الانتظام ويظهر قصد التحذير لشيوع أن علم الله تعالى يكون كناية عن المجازاة وهو كما ترى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كالأعلام (32)}.
لما جرى تذكيرهم بأنّ ما أصابهم من مصيبة هو مسبب عن اقتراف أعمالهم، وتذكيرهم بحلول المصائب تارة وكشفها تارة أخرى بقوله: {ويعفو عن كثير} [الشورى: 30]، وأعقب بأنهم في الحالتين غير خارجين عن قبضة القدرة الإلهية سيق لهم ذكر هذه الآية جامعة مثالًا لإصابة المصائب وظهور مخائلها المخيفة المذكّرة بما يغفلون عنه من قدرة الله والتي قد تأتي بما أُنذروا به وقد تنكشف عن غير ضر، ودليلًا على عظيم قدرة الله تعالى وأنه لا محيص عن إصابة ما أراده، وإدماجًا للتذكير بنعمة السير في البحر وتسخير البحر للناس فإن ذلك نعمة، قال تعالى: {والفُلْككِ التي تجري في البحر بما يَنْفَعُ الناس} في سورة البقرة (164)، فكانت هذه الجملة اعتراضًا مثل جملة {ومن آياته خلق السماوات والأرض} [الشورى: 29].
والآيات: الأدلة الدالة على الحق.
والجواري: جمع جارية صفة لمحذوف دل عليه ذكر البحر، أي السفن الجواري في البحر كقوله تعالى في سورة الحاقة (11) {إنّا لَمَّا طَغَى الماء حملناكم في الجارية} وعُدل عن: الفلك إلى {الجواري} إيماء إلى محل العبرة لأن العبرة في تسخير البحر لجريها وتفكير الإنسان في صنعها.
والأعلام: جمع عَلَم وهو الجبل، والمراد: بالجواري السفن العظيمة التي تسع ناسًا كثيرين، والعبرة بها أظهر والنعمة بها أكثر.
وكتبت كلمة {الجوار} في المصحف بدون ياء بعد الراء ولها نظائر كثيرة في القرآن في الرسم والقراءة، وللقرأء في أمثالها اختلاف هي التي تُدعى عند علماء القراءات بالياءات الزوائد.
وقرأ نافع وأبو عمرو وأبو جعفر {الجواري} في هذه السورة بإثبات الياء في حالة الوصل وبحذفها في حالة الوقف.
وقرأ ابن كثير ويعقوب بإثبات الياء في الحالين.
وقرأ الباقون بحذفها في الحالين.
وإسكان {الرياح}: قطع هبوبها، فإن الريح حركة وتموّج في الهواء فإذا سكن ذلك التموّج فلا ريح.
وقرأ نافع {الريَاح} بلفظ الجمع.
وقرأه الباقون {الريح} بلفظ المفرد.
وفي قراءة الجمهور ما يدل على أن الريح قد تطلق بصيغة الإفراد على الريح الخير، وما قيل: إن الرياح للخير والريح للعذاب في القرآن هو غالب لا مطّرد.
وقد قرىء في آيات أخرى {الرياح} و{الريح} في سياق الخير دون العذاب.
وقرأ الجمهور {يشأ} بهمزة ساكنة.
وقرأه ورش عن نافع بألف على أنه تخفيف للهمزة.
والرواكد: جمع راكدة، والركود: الاستقرار والثبوت.
والظهْر: الصلب للإنسان والحيوان، ويطلق على أعلى الشيء إطلاقًا شائعًا.
يقال: ظَهْر البيت، أي سطحه، وتقدم في قوله تعالى: {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها} [البقرة: 189].
وأصله: استعارة فشاعت حتى قاربت الحقيقة، فظَهْر البحر سطح مائه البادي للناظر، كما أطلق ظهْر الأرض على ما يبدو منها، قال تعالى: {ما تَرك على ظهرها من دابّة} [فاطر: 45].
وجُعل ذلك آيةً لكل صبّار شكور لأن في الحالتين خوفًا ونجاة، والخوف يدعو إلى الصبر، والنجاةُ تدعو إلى الشكر.
والمراد: أن في ذلك آيات لكل مؤمن متخلق بخلُق الصبر على الضرّاء والشكرِ للسرّاء، فهو يعتبر بأحوال الفُلْك في البحر اعتبارًا يقارنه الصبر أو الشكر.
وإنما جعل ذلك آية للمؤمنين لأنهم الذين ينتفعون بتلك الآية فيعلمون أن الله منفرد بالإلهية بخلاف المشركين فإنها تمر بأعينهم فلا يعتبرون بها.
وقوله: {أو يوبقهن} عطف على جزاء الشرط.
و{يوبقهن}: يهلكهن.
والإيباق: الإهلاك، وفعله وَبَق كوَعد.
والمراد به هنا الغرق، فيجوز أن يكون ضمير جماعة الإناثثِ عائدًا إلى {الجواري} على أن يستعار الإيباق للإغراق لأنّ الإغراقَ إتلاف.
ويجوز أن يكون الضمير عائدًا إلى الراكبين على تأويل معاد الضمير بالجماعات بقرينة قوله: {بما كسبوا} فهو كقوله: {وعلى كل ضامرٍ يأتين من كلّ فجّ عميق ليشهدُوا منافع لهم} [الحج: 27].
والباء للسببية وهو في معنى قوله: {وما أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم} [الشورى: 30].
{ويعف عن كثير} عطف على {يوبقهن} فهو في معنى جزاء للشرط المقدّر، أي وإن يشأ يعفُ عن كثير فلا يوبقهم مع استحقاقهم أن يُوبَقوا.
وهذا العطف اعتراض.
(35) {كَثِيرٍ وَيَعْلَمَ الذين يجادلون في آياتنا مَا لَهُمْ}.
قرأ نافع وابن عامر ويعقوب برفع {ويعلمُ} على أنه كلام مستأنف.
وقرأه الباقون بالنصب.
فأما الاستئناف على قراءة نافع وابن عامر ويعقوب فمعناه أنه كلام أنُف لا ارتباط له بما قبله، وذلك تهديد للمشركين بأنهم لا محيص لهم من عذاب الله لأنه لما قال: {ومن آياته الجواري في البحر} [الشورى: 32] صار المعنى: ومن آيات انفراده بالإلهية الجواري في البحر.
والمشركون يجادلون في دلائل الوحدانية بالإعْراض والانصراف عن سماعها فهددهم الله بأن أعلمهم أنهم لا محيص لهم، أي من عذابه، فحُذف متعلق المحيص إبهامًا له تهويلًا للتهديد لتذهب النفس كل مذهب ممكن فيكون قوله: {ويعلم الذين يجادلون} خبرًّا مرادًا به الإنشاء والطلب فهو في قوة: وليعلمْ الذين يجادلون، أو اعلموا يا من يجادلون، وليس خبرًّا عنهم لأنهم لا يؤمنون بذلك حتى يعلموه.
وأما قراءة النصب فهي عند سيبويه وجمهور النحاة على العطف على فعلٍ مدخول للام التعليل، وتضمَّن (أنْ) بعده.
والتقدير: لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون الخ.
وسموا هذه الواو واو الصَّرفْ لأنها تصرف ما بعدها عن أن يكون معطوفًا على ما قبلها، إلى أن يكون معطوفًا على فعل متصيَّد من الكلام، وهذا قول سيبويه في باب ما يرتفع بين الجزمين وينجزم بينهما، وتبعه في (الكشاف)، وذهب الزجاج إلى أن الواو واو المعية التي ينصب الفعل المضارع بعدها بـ (أن) مضمرة.
ويجوز أن يجعل الخبر مستعملًا في مقاربة المخبر به كقولهم: قد قامت الصلاة، فلما كان علمهم بذلك يوشك أن يَحصل نُزّل منزلة الحاصل فأخبر عنهم به، وعلى هذا الوجه يكون إنذارًا بعقاب يحصل لهم قريب وهو عذاب السيف والأسْر يوم بدر.
وذكر فعل {يعلَم} للتنويه والاعتناء بالخبر كقوله تعالى: {واعْلموا أنكم ملاقُوه} في سورة البقرة (223)، وقوله: {واعلموا أنما غنمتم من شيء} في سورة الأنفال (41)، وقول النبي حين رأى أبا مسعود الأنصاري يضرب غلامًا له فناداه: «اعْلَم أبَا مسعود اعْلم أبَا مسعود»، قال أبو مسعود: فالتفتُّ فإذا هو رسول الله فإذا هو يقول: اعلَم أبا مسعود. فألقيت السوط من يدي، فقال لي: «إن الله أقدر عليك منكَ على هذا الغلام» رواه مسلم أواخر كتاب الإيمان.
وتقدم معنى {الذين يجادلون في آياتنا} في هذه السورة.
و{مَا} نافية، وهي معلِّقة لفعل {يعلم} عن نصب المفعلوين.
والمَحِيص: مصدر ميمي من حاص، إذا أخذ في الفرار ومَال في سَيره، وفي حديث أبي سفيان في وصْف مجلس هرقل «فحاصُوا حَيْصة حُمر الوحش وأغلقت الأبواب».