فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما بين تعالى ما لذلك الناظر في مصالح العباد المنسلخ من خط نفسه إحسانًا إلى عباد الله من الرتبة العليا، بين ما لهذا الذاب عن نفسه القاصد لشفاء صدره وذهاب غيظه، فقال رابطًا للجزاء بفاء السبب بيانًا لقصور نظره على دفع الظلم عن نفسه، ويجوز كون {من} موصولة والفاء لما للموصول من شبه الشرط.
ولما عبر أولًا بالإفراد فكان ربما قصر الإذن على الواحد لئلا تعظم الفتنة، جمع إشارة إلى أن الفتنة إنما هي في إقرار الظلم لا في نصر المظلوم واحدًا كان أو جماعة فقال: {فأولئك} أي المنتصرون لأجل دفع ظلم الظالم عنهم فقط {ما عليهم} وأكد بإثبات الجار فقال: {من سبيل} أي عقاب ولا عتاب، وروى النسائي وابن ماجه عن عائشة- رضي الله عنها قالت: «ما علمت حتى دخلت عليَّ زينب- رضي الله عنها بغير إذن وهي غضبى ثم أقبلت عليّ فأعرضت عنها حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: دونك فانتصري، فأقبلت عليها حتى رأيتها قد يبس ريقها في فيها ما ترد عليّ شيئًا، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه».
ولما نفى السبيل عنه بعد تشوف السامع إلى موضع ما أشعر به الكلام السابق من الظلم، بين ذلك فقال: {إنما السبيل} أي الطريق السالك الي لا منع منه أصلًا بالحرج والعنت {على} وجمع إعلامًا بكثرة المفسدين تجرئة على الانتصار منهم وإن كانوا كثيرًا فإن الله خاذلهم فقال: {الذين يظلمون الناس} أي يوقعون بهم ظلمهم تعمدًا عدوانًا {ويبغون} أي يتجاوزن الحدود {في الأرض} بما يفسدها بعد إصلاحها بتهيئتها للصلاح طبعًا وفعلًا وعلمًا وعملًا.
ولما كان الفعل قد يكون بغيًا وإن كان مصحوبًا بحق كالانتصار المقترن بالتعدي فيه قال: {بغير الحق} أي الكامل ولما أثبت عليهم بهذا الكلام السبيل، كان السامع جديرًا بأن يسأل عنه فقال: {أولئك} أي البغضاء البعداء من الله {لهم عذاب أليم} أي مؤلم بما آلموا من ظلموه من عباد الله بحيث يعم إيلامه أبدانهم وأرواحهم بما لها من المشاعر الظاهرة والباطنة.
ولما أفهم سياق هذا الكلام وترتيبه هكذا أن التقدير: فلمن صبر عن الانتصار أحسن حالًا ممن انتصر، لأن الخطأ في العفو أولى من الخطأ في الانتقام، عطف عليه مؤكدًا لما أفهمه السياق أيضًا من مدح المنتصر: {ولمن صبر} عن الانتصار من غير انتقام ولا شكوى {وغفر} فصرح بإسقاط العقاب والعتاب فمحا عين الذنب وأثره: {إن ذلك} أي ذلك الفعل الواقع منه البالغ في العلو جدًّا لا يوصف {لمن عزم الأمور} أي الأمور التي هي لما لها من الأهلية لأن يعزم عليها قد صارت في أنفسها كأنها دوات العزم أو متأهلة لأن تعزم على ما تريد، والعزم: الإقدام على الأمر بعد الروية والفكرة، قال أبو علي بن الفراء؛ آيات العفو محمولة على الجاني النادم، وآيات مدح الانتصار على المصر، وذلك إنما يحمد مع القدرة على تمام النصرة كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام لإخوته: {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم} [الآية: 92] وقال: فعل النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة منها الموقف الأعظم الذي وقفه يوم الفتح عند باب الكعبة وقال لقريش وهم تحته كالغنم المطيرة: «ما تظنون أني فاعل بكم يا معشر قريش؟ قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء»، وروى أحمد وأبو داود عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رجلًا شتم أبا بكر- رضي الله عنه- فلما رد عليه قام صلى الله عليه وسلم ثم قال: «يا أبا بكر! ثلاث كلهن حق ما من عبد مظلم مظلمة فعفى عنها لله إلا أعز الله بها نصره، وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرة وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله بها قلة». اهـ.

.قال الفخر:

{وَجَزاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}.
اعلم أنه تعالى لما قال: {والذين إِذَا أَصَابَهُمُ البغي هُمْ يَنتَصِرُونَ} [الشورى: 39] أردفه بما يدل على أن ذلك الانتصار يجب أن يكون مقيدًا بالمثل فإن النقصان حيف والزيادة ظلم والتساوي هو العدل وبه قامت السماوات والأرض، فلهذا السبب قال: {وَجَزاء سَيّئَةٍ سَيئَةٌ مِثْلُهَا}.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
لقائل أن يقول جزاء السيئة مشروع مأذون فيه، فكيف سمي بالسيئة؟ أجاب صاحب (الكشاف): عنه كلتا الفعلتين الأولى وجزاؤها سيئة لأنها تسوء من تنزل به، قال تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقولواْ هذه مِنْ عِندِكَ} [النساء: 78] يريد ما يسوءهم من المصائب والبلايا، وأجاب غيره بأنه لما جعل أحدهما في مقابلة الآخر على سبيل المجاز أطلق اسم أحدهما على الآخر، والحق ما ذكره صاحب (الكشاف).
المسألة الثانية:
هذه الآية أصل كبير في علم الفقه فإن مقتضاها أن تقابل كل جناية بمثلها وذلك لأن الإهدار يوجب فتح باب الشر والعدوان، لأن في طبع كل أحد الظلم والبغي والعدوان، فإذا لم يزجر عنه أقدم عليه ولم يتركه، وأما الزيادة على قدر الذنب فهو ظلم والشرع منزّه عنه فلم يبق إلا أن يقابل بالمثل، ثم تأكد هذا النص بنصوص أُخر، كقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] وقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ سَيّئَةً فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا} [غافر: 40] وقوله عزّ وجلّ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} [البقرة: 178] والقصاص عبارة عن المساواة والمماثلة وقوله تعالى: {والجروح قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي القصاص حياة} [البقرة: 179] فهذه النصوص بأسرها تقتضي مقابلة الشيء بمثله.
ثم هاهنا دقيقة: وهي أنه إذا لم يمكن استيفاء الحق إلا باستيفاء الزيادة فههنا وقع التعارض بين إلحاق زيادة الضرر بالجاني وبين منع المجني عليه من استيفاء حقه، فأيهما أولى؟ فههنا محل اجتهاد المجتهدين، ويختلف ذلك باختلاف الصور، وتفرع على هذا الأصل بعض المسائل تنبيهًا على الباقي.
المثال الأول: احتج الشافعي رضي الله عنه على أن المسلم لا يقتل بالذمي وأن الحر لا يقتل بالعبد، بأن قال المماثلة شرط لجريان القصاص وهي مفقودة في هاتين المسألتين، فوجب أن لا يجري القصاص بينهما، أما بيان أن المماثلة شرط لجريان القصاص فهي النصوص المذكورة، وكيفية الاستدلال بها أن نقول إما أن نحمل المماثلة المذكورة في هذه النصوص على المماثلة في كل الأمور إلا ما خصّه الدليل أو نحملها على المماثلة في أمر معين، والثاني مرجوح لأن ذلك الأمر المعين غير مذكور الآية، فلو حملنا الآية عليها لزم الإجمال، ولو حملنا النص على القسم الأول لزم تحمل التخصيص، ومعلوم أن دفع الإجمال أولى من دفع التخصيص، فثبت أن الآية تقتضي رعاية المماثلة في كل الأمور إلا ما خصّه دليل العقل ودليل نقلي منفصل، وإذا ثبت هذا فنقول رعاية المماثلة في قتل المسلم بالذمي، وقي قتل الحر بالعبد لا تمكن لأن الإسلام اعتبره الشرع في إيجاب القتل، لتحصيله عند عدمه كما في حق الكافر الأصلي، ولإبقائه عند وجوده كما في حق المرتد وأيضًا الحرية صفة اعتبرها الشرع في حق القضاء والإمامة والشهادة، فثبت أن المماثلة شرط لجريان القصاص وهي مفقودة هاهنا فوجب المنع من القصاص.
المثال الثاني: احتج الشافعي رضي الله عنه في أن الأيدي تقطع باليد الواحدة، فقال لا شك أنه إذا صدر كل القطع أو بعضه عن كل أولئك القاطعين أو عن بعضهم فوجب أن يشرع في حق أولئك القاطعين مثله لهذه النصوص وكل من قال يشرع القطع إما كله أو بعضه في حق كلهم أو بعضهم قال بإيجابه على الكل، بقي أن يقال فيلزم منه استيفاء الزيادة من الجاني وهو ممنوع منه إلا أنا نقول لما وقع التعارض بين جانب الجاني وبين جانب المجني عليه كان جانب المجني عليه بالرعاية أولى.
المثال الثالث: شريك الأب شرع في حقه القصاص، والدليل عليه أنه صدر عنه الجرح فوجب أن يقابل بمثله لقوله تعالى: {والجروح قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وإذا ثبت هذا ثبت تمام القصاص لأنه لا قائل بالفرق.
المثال الرابع: قال الشافعي رضي الله تعالى عنه من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه والدليل عليه هذه النصوص الدالة على مقابلة كل شيء بمماثله.
المثال الخامس: شهود القصاص إذا رجعوا وقالوا تعمدنا الكذب يلزمهم القصاص لأنهم بتلك الشهادة أهدروا دمه، فوجب أن يصير دمهم مهدرًا لقوله تعالى: {وَجَزاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا}.
المثال السادس: قال الشافعي رضي الله عنه المكره يجب عليه القود لأنه صدر عنه القتل ظلمًا فوجب أن يجب عليه مثله، أما أنه صدر عنه القتل فالحس يدل عليه وأما أنه قتل ظلمًا فلأن المسلمين أجمعوا على أنه مكلف من قبل الله تعالى بأن لا يقتل وأجمعوا على أنه يستحق به الإثم العظيم والعقاب الشديد، وإذا ثبت هذا فوجب أن يقابل بمثله لقوله تعالى: {وَجَزاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا}.
المثال السابع: قال الشافعي رضي الله عنه القتل بالمثقل يوجب القود، والدليل عليه أن الجاني أبطل حياته فوجب أن يتمكن ولي المقتول من إبطال حياة القاتل لقوله تعالى: {وَجَزاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا}.
المثال الثامن: الحر لا يقتل بالعبد قصاصًا ونحن وإن ذكرنا هذه المسألة في المثال الأول إلا أنا نذكر هاهنا وجهًا آخر من البيان، فنقول إن القاتل أتلف على مالك العبد شيئًا يساوي عشرة دنانير مثلًا فوجب عليه أداء عشرة دنانير لقوله تعالى: {وَجَزاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} وإذا وجب الضمان وجب أن لا يجب القصاص لأنه لا قائل بالفرق.
المثال التاسع: منافع الغصب مضمونة عند الشافعي رضي الله عنه والدليل عليه أن الغاصب فوت على المالك منافع تقابل في العرف بدينار فوجب أن يفوت على الغاصب مثله من المال لقوله تعالى: {وَجَزاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مِّثْلُهَا} وكل من أوجب تفويت هذا القدر على الغاصب قال بأنه يجب أداؤه إلى المغصوب منه.
المثال العاشر: الحر لا يقتل بالعبد قصاصًا لأنه لو قتل بالعبد هو مساويًا للعبد في المعاني الموجبة للقصاص لقوله: {مَنْ عَمِلَ سَيّئَةً فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا} [غافر: 40] ولسائر النصوص التي تلوناها ثم إن عبده يقتل قصاصًا بعبد نفسه فيجب أن يكون عبد غيره مساويًا لعبد نفسه في المعاني الموجبة للقصاص لعين هذه النصوص التي ذكرناها، فعلى هذا التقدير يكون عبد نفسه مساويًا لعبد غيره في المعاني الموجبة للقصاص، فكان عبد نفسه مثلًا لمثل نفسه، ومثل المثل مثل فوجب كون عبد نفسه مثلًا لنفسه في المعاني الموجبة للقصاص، ولو قتل الحر بعبد غيره لقتل بعبد نفسه بالبيان الذي ذكرناه ولا يقتل بعبد نفسه فوجب أن لا يقتل بعبد غيره، فقد ذكرنا هذه الأمثلة العشرة في التفريع على هذه الآية، ومن أخذت الفطانة بيده سهل عليه تفريع كثير من مسائل الشريعة على هذا الأصل والله أعلم، ثم هاهنا بحث وهو أن أبا حنيفة رضي الله عنه قال في قطع الأيدي لا شك أنه صدر كل القطع أو بعضه عن كلهم أو عن بعضهم إلا أنه لا يمكن استيفاء ذلك الحق إلا باستيفاء الزيادة لأن تفويت عشرة من الأيدي أزيد من تفويت يد واحدة، فوجب أن يبقى على أصل الحرمة، فقال الشافعي رضي الله عنه لو كان تفويت عشرة من الأيدي في مقابلة يد واحدة حرامًا لكان تفويت عشرة من النفوس في مقابلة نفس واحدة حرامًا، لأن تفويت النفس يشتمل على تفويت اليد فتفويت عشرة من النفوس في مقابلة النفس الواحدة يوجب تفويت عشرة من الأيدي في مقابلة اليد الواحدة فلو كان تفويت عشرة من الأيدي في مقابلة اليد الواحدة حرامًا لكان تفويت عشرة من النفوس لأجل النفس الواحدة مشتملًا على الحرام وكل ما اشتمل على الحرام فهو حرام فكان يجب أن يحرم قتل النفوس العشرة في مقابلة النفس الواحدة، وحيث أجمعنا على أنه لا يحرم علمنا أن ما ذكرتم من استيفاء الزيادة غير ممنوع منه شرعًا، والله أعلم.
المسألة الثالثة:
قد بينا أن قوله: {وَجَزاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} يتقضي وجوب رعاية المماثلة مطلقًا في كل الأحوال إلا فيما خصه الدليل، والفقهاء أدخلوا التخصيص فيه في صور كثيرة فتارة بناء على نص آخر أخس منه وأخرى بناء على القياس، ولا شك أن من ادعى التخصيص فعليه البيان والمكلف يكفيه أن يتمسك بهذا النص في جميع المطالب، قال مجاهد والسدي إذا قال له أخزاه الله، فليقل له أخزاه الله، أما إذا قذفه قذفًا يوجب الحد فليس له ذلك بل الحد الذي أمر الله به.
ثم قال تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ} بينه وبين خصمه بالعفو والإغضاء كما قال تعالى: {فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]، {فَأَجْرُهُ عَلَى الله} وهو وعد مبهم لا يقاس أمره في التعظيم.
ثم قال تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين} وفيه قولان الأول: أن المقصود منه التنبيه على أن المجني عليه لا يجوز له استيفاء الزيادة من الظالم لأن الظالم فيما وراء ظلمه معصوم والانتصار لا يكاد يؤمن فيه تجاوز التسوية والتعدي خصوصًا في حال الحرب والتهاب الحمية، فربما صار المظلوم عند الإقدام على استيفاء القصاص ظالمًا، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان له على الله أجر فليقم، قال فيقوم خلق فيقال لهم ما أجركم على الله؟ فيقولون نحن الذين عفونا عمن ظلمنا، فيقال لهم ادخلوا الجنة بإذن الله تعالى».
الثاني: أنه تعالى لما حثّ على العفو عن الظالم أخبر أنه مع ذلك لا يحبه تنبيهًا على أنه إذ كان لا يحبه ومع ذلك فإنه يندب إلى عفوه، فالمؤمن الذي هو حبيب الله بسبب إيمانه أولى أن يعفو عنه.
ثم قال تعالى: {وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ} أي ظالم الظالم إياه، وهذا من باب إضافة المصدر إلى المفعول {فَأُوْلَئِكَ} يعني المنتصرين {مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ} كعقوبة ومؤاخذة لأنهم أتوا بما أبيح لهم من الانتصار واحتج الشافعي رضي الله تعالى عنه بهذه الآية في بيان أن سراية القود مهدرة، فقال الشرع إما أن يقال إنه أذن له في القطع مطلقًا أو بشرط عدم السريان، وهذا الثاني باطل لأن الأصل في القطع الحرمة، فإذا كان تجويزه معلقًا بشرط أن لا يحصل منه السريان، وكان هذا الشرط مجهولًا وجب أن يبقى ذلك القطع على أصل الحرمة، لأن الأصل فيها هو الحرمة، والحل إنما يحصل معلقًا على شرط مجهول فوجب أن يبقى ذلك أصل الحرمة، وحيث لم يكن كذلك علمنا أن الشرع أذن له في القطع كيف كان سواء سرى أو لم يسر، وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون ذلك السريان مضمونًا لأنه قد انتصر من بعد ظلمه فوجب أن لا يحصل لأحد عليه سبيل.
ثم قال: {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس} أي يبدأون بالظلم {وَيَبْغُونَ في الأرض بِغَيْرِ الحق أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
ثم قال تعالى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} والمعنى {ولمن صبر} بأن لا يقتص {وغفر} وتجاوز {فإن ذلك} الصبر والتجاوز {لمن عزم الامور} يعني أن عزمه على ترك الانتصار لمن عزم الأمور الجيدة وحذف الراجع لأنه مفهوم كما حذف من قولهم السمن منوان بدرهم ويحكى أن رجلًا سب رجلًا في مجلس الحسن فكان المسبوب يكظم ويعرق فيمسح العرق ثم قام وتلا هذه الآية، فقال الحسن عقلها والله وفهمها لما ضيعها الجاهلون. اهـ.