فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَيَبْغُونَ في الأرض بِغَيْرِ الحق} أي يتكبرون فيها تجبرًّا وفسادًا {أولئك} الموصوفون بالظلم والبغي بغير الحق {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} بسبب ظلمهم وبغيهم، والمراد بهؤلاء الظالمين الباغين الكفرة.
وقيل: من يعمهم وغيرهم، وقوله تعالى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الامور} تحذير عن الظلم والبغي وما يؤدي إلى العذاب الأليم بوجه، وفيه حض على ما حض عليه أولا اهتمامًا به وزيادة ترغيب فيه، فالصبر هنا هو الاصلاح المؤخر فيما تقدم قدم هنا، وعبر عنه بالصبر لأنه من شأن أولى العزم وإشارة إلى أن الاصلاح بالعفو والاغضاء إنما يحمد إذا كان عن قدرة لا عن عجز، و{ذلك} إشارة إلى المذكور من الصبر والمغفرة، و{عَزْمِ الامور} الأمور المعزومة المقطوعة أو العازمة الصادقة، وجوز في {مِنْ} أن تكون موصولة وأن تكون شرطية، وفي اللام أن تكون ابتدائية وأن تكون فسمية واكتفى بجواب القسم عن جواب الشرط، وإذا جعلت اللام للابتداء و{مِنْ السماء والأرض إِنَّ ذلك} جواب الشرط وحذفت الفاء منها، ومن يخص الحذف بالشعر لا يجوز هذا الوجه، وذكر جماعة أن في الكلام حذفًا أي إن ذلك منه لمن عزم الأمور، وعلل ذلك بأن الجملة خبر فلا بد فيها من رابط و{ذلك} لا يصلح له لأنه إشارة إلى الصبر والمغفرة، وكونه مغنيا عنه لأن المراد صبره أو {ذلك} رابط والإشارة لمن بتقدير من ذوي عزم الأمور تكلف.
هذا واختار العلامة الطيبي أن تسمية الفعلية الثانية التي هي الجزاء سيئة من باب التهجين ودن المشاكلة، وزعم أن المجازي مسيء وبنى على ذلك ربط جملة {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين} [الشورى: 40] بما قبل فقال: يكن أن يقال لما نسب المجازي إلى المساءة في قوله سبحانه: {وَجَزاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} (الشورة 40) والمسيء في هذا المقام مفسدًا لما في البيت بدليل {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ} علل مفهوم ذلك بقوله سبحانه: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين} كأنه قيل: من أخرج نفسه بالعفو والاصلاح من الانتساب إلى السيئة والإفساد كان مقسطًا إن الله يحب المقسطين فوضع موضعه {فَأَجْرُهُ عَلَى الله} ومن اشتغل بالمجازاة وانتسب إلى السيئة وأفسد ما في البين وحرم نفسه ذلك الأجر الجزيل كان ظالمًا نفسه {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين} فالآية واردة إرشادًا للمظلوم إلى مكارم الأخلاق وإيثار طريق المرسلين.
وقال: إن قوله تعالى: {وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظالمة} [الشورى: 41] الخ خطاب للولاة والحكام وتعليم فعل ما ينبغي فعله بدليل قوله سبحانه: {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس} [الشورى: 42] حيث أعاد السبيل المنكر بالتعريف وعلق به {يَظْلِمُونَ الناس} وفسره بقوله تعالى: {عَذَابٌ أَلِيمٌ} وكذا قوله سبحانه: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ} الخ تعليم لهم أيضًا طريق الحكم يعني أن صاحب الحق إذا عدل من الأولى وانتصر من الظالم فلا سبيل لكم عليه لما قد رخص له ذلك وإذا اختار الأفضل فلا سبيل لكم على الظالم لأن عفو المظلوم من عزم الأمور فتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان انتهى، ولا يخفى ما فيه.
وفي (الكشف) أن جعل ما ذكر خطابًا للولاة والحكاه يوجب التعقيد في الكلام فالمعول عليه ما قدمناه، وقد جاءت أخبار كثيرة في فضل العافين عمن ظلمهم، أخرج البيهقي في (شعب الايمان) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال موسى ابن عمران عليه الصلاة والسلام يا رب من أعز عبادك عندك؟ قال: من إذا قدر غفر» وأخرج ابن أبي حاتم.
وابن مردويه.
والبيهقي في الشعب عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا وقف العباد للحساب نادى مناد ليقم من أجره على الله تعالى فليدخل الجنة ثم نادى الثانية ليقم من أجره على الله تعالى قالوا: ومن ذا الذي أجره على الله تعالى؟ قال: العافون عن الناس فقام كذا وكذا ألفًا فدخلوا الجنة بغير حساب».
وأخرج أحمد وأبو داود عن أبي هريرة أن رجلًا شتم أبا بكر رضي الله تعالى عنه والنبي جالس فجعل عليه الصلاة والسلام يعجب ويتبسم فلما أكثر رد عليه بعض قوله: فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام فلحقه أبو بكر رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله كان يشتمني وأنت جالس فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت قال: «إنه كان معك ملك يرد عنك فلما رددت عليه بعض قوله: وقع الشيطان فلم أكن لأقعد مع الشيطان» ثم قال عليه الصلاة والسلام: «ثلاث من الحق ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها لله تعالى ألا أعز الله عز وجل بها نصره وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله تعالى بها كثرة وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله تعالى بها قلة» استشكل هذا الخبر بأنه يشعر بعتب أبي بكر رضي الله تعالى عنه وهو نوع من السبيل المنفي في قوله تعالى: {وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مّن سَبِيلٍ} [الشورى: 41] وأجيب بأنا لا نسلم ذلك وليس فيه أكثر من تنبيهه رضي الله تعالى عنه على ترك الأولى وهو شيء والعتب شيء آخر، وكذا لا يعد لوما كما لا يخفى.
ومن الناس من خص السبيل في الآية بالإثم والعقاب فلا إشكال عليه أصلًا، وقيل: هو باق على العموم إلا أن الآية في عوام المؤمنين ومن لم يبلغ مبلغ أبي بكر رضي الله تعالى عنه فإن مثله يلام بالشتم وإن كان بحق بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأذن له به قالا أو حالًا بل لاح عليه صلى الله عليه وسلم ما يشعر باستحسان السكوت عنه وحسنات الأبرار سيئات المقربين.
وقد أمر صلى الله عليه وسلم بعض الأشخاص برد الشتم على الشاتم، أخرج النسائي.
وابن ماجه وابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «دخلت على زينب رضي الله تعالى عنها وعندي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبلت علي تسبني فوزعها النبي عليه الصلاة والسلام فلم تنته فقال لي: سبيها فسببتها حتى جف ريقها في فمها ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل سرورًا»، ولعله كان هذا منه عليه الصلاة والسلام تعزيرا لزينب رضي الله تعالى عنها بلسان عائشة رضي الله تعالى عنها لما أن لها حقا في الرد ورأي المصلحة في ذلك وقد ذكر فقهاؤنا أن للقاضي أن يعزر من استحق التعزير بشتم غير القذف وكذا للزوج أن يعزر زوجته على شتمها غير محرم إلى أمور أخر فتأمل.
وظاهر قوله تعالى: {وَجَزاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} [الشورى: 40] يقتضي رعاية المماثلة مطلقًا، وفي تفسير الإمام أن الآية تقتضي وجوب رعاية المماثلة في كل الأمور إلا فيما خصه الدليل لأنه لوحملت المماثلة فيها على المماثلة في أمر معين فهو غير مذكور فيها فيلزم الإجمال وعلى ما قلنا يلزم تحمل التخصيص ومعلوم أن دفع الإجمال أولى من دفع التخصيص.
والفقهاء أدخلوا التخصيص فيها في صور كثيرة تارة بناء على نص آخر أخص وأخرى بناء على القياس، ولا شك أن من ادعى التخصيص فعليه البيان والمكلف يكفيه أن يتمسك بها في جميع المطالب وعن مجاهد والسدي إذا قال له: أخزاه الله تعالى فليقل أخزاه الله تعالى وإذا قذفه قذفًا يوجب الحد فليس له ذلك بل الحد الذي أمر الله تعالى به، ونقل أبو حيان عن الجمهور أنهم قالوا إذا بغي مؤمن على مؤمن فلا يجوز له أن ينتصر منه بنفسه بل يرفع ذلك إلى الإمام أو نائبه، وفي (مجمع الفتاوي) جاز المجازاة بمثله في غير موجب حد للإذن به {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} والعفو أفضل {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله} [الشورى: 40] وقال ابن الهمام: الأولى أن الإنسان إذا قيل له ما يوجب التعزير أن لا يجيبه قالوا: لو قال له: يا خبيث الأحسن أن يكف عنه ويرفعه إلى القاضي ليؤدبه بحضوره ولو أجاب مع هذا فقال: بل أنت لا بأس.
وفي (التنوير) وشرحه ضرب غيره بغير حق وضربه المضروب أيضًا يعزران كما لو تشاتما بين يدي القاضي ولم يتكافآ، وأنت تعلم ما يقتضيه ظاهر الآية ولا يعدل عنه إلا لنص، وظاهر كلام العلامة الطيبي أن المظلوم إذا عفا لا يلزم الظالم التعزير بضرب أو حبس أو نحوه، وذكر فقهاؤنا أن التعزير يغلب فيه حق العبد فيجوز فيه الإبراء والعفو واليمين والشهادة على الشهادة وشهادة رجل وامرأتين ويكون أيضًا حقًا لله تعالى فلا عفو فيه إلا إذا علم الإمام انزجار الفاعل إلى آخر ما قالوا، ويترجح عندي أن الإمام متى رأى بعد التأمل والتجرد عن حظوظ النفس ترك التعزير للعفو سببًا للفساد والتجاسر على التعدي وتجاوز الحدود عزر بما تقتضيه المصلحة العامة وليبذل وسعه فيما فيه إصلاح الدين وانتظام أمور المسلمين وإياه أن يتبع الهوى فيضل عن الصراط المستقيم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَجَزاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}.
هذه جمل ثلاث مُعترضة الواحدة تلو الأخرى بين جملة {والذين إذا أصابهم البغي} [الشورى: 39] الخ وجملة {ولَمَن انتصر بعد ظلمه} [الشورى: 41].
وفائدة هذا الاعتراض تحديد الانتصار والترغيب في العفو ثم ذم الظلم والاعتداء، وهذا انتقال من الإذن في الانتصار من أعداء الدين إلى تحديد إجرائه بين الأمة بقرينة تفريع {فمن عفا وأصلح} على جملة {وجزاء سيئة سيئة مثلها} إذ سمى ترك الانتصار عفوًا وإصلاحًا ولا عفو ولا إصلاح مع أهل الشرك.
وبقرينة الوعد بأجر من الله على ذلك العفو ولا يكون على الإصلاح مع أهل الشرك أجر.
و{سيئة} صفة لمحذوف، أي فعلة تسوء من عومل بها.
ووزن {سيئة} فَيْعِلة مبالغة في الوصف مِثل: هيّنة، فعينها ياء ولامها همزة، لأنها من ساء، فلما صيغ منها وزن فَيْعِلَة التقت يَاءانِ فأدغمَتا، أي أن المُجازي يجازي من فَعَل معه فَعلةً تسوءه بفعلة سيئة مثل فعلتِه في السوء، وليس المراد بالسيئة هنا المعصية التي لا يرضاها الله، فلا إشكال في إطلاق السيئة على الأذَى الذي يُلحق بالظالم.
ومعنى {مثلها} أنها تكون بمقدارها في متعارف الناس، فقد تكون المماثلة في الغرض والصورة وهي المماثلة التامة وتلك حقيقةُ المماثلة مثل القصاص من القاتل ظلمًا بمثل ما قَتَل به، ومن المعتدي بجراح عمد، وقد تتعذر المماثلة التامة فيصار إلى المشابهة في الغرض، أي مقدار الضرّ وتلك هي المقاربة مثل تعذر المشابهة التامة في جزاء الحروب مع عدوّ الدين إذ قد يلحق الضر بأشخاص لم يصيبوا أحدًا بضرّ ويَسْلَمُ أشخاص أصابوا الناس بضرّ، فالمماثلة في الحَرب هي انتقام جماعة من جماعة بمقدار ما يُشفي نفوس الغالبين حسبما اصطلح عليه الناس.
ومن ذلك أيضًا إتلاف بعض الحواس بسبب ضرب على الرأس أو على العين فيصار إلى الدية إذ لا تضبط إصابة حاسّة الباغي بمثل ما أصاب به حاسّة المعتدَى عليه.
وكذلك إعطاء قيم المتلفات من المقوَّمات إذ يتعسر أن يكلف الجاني بإعطاء مثل ما أتلفه.
ومن مشاكل المماثلة في العقوبة مسألة الجماعة يتمالئون على قتل أحد عمدًا، أو على قطع بعض أعضائه؛ فإن اقتص من واحد منهم كان ذلك إفلاتًا لبقية الجناة من عقوبة جرمهم، وإن اقتص من كل واحد منهم كان ذلك زيادة في العقوبة لأنهم إنما جنَوا على واحد.
فمن العلماء من لم يعتدَّ بتلك الزيادة ونظَرَ إلى أن كل واحد منهم جنى على المجني عليه فاستحق الجزاء بمثل ما ألحقه بالمجنّي عليه، وجَعَل التعدّد مُلغى وراعى في ذلك سدّ ذريعة أن يتحيّل المجرم على التنصل من جرمه بضم جماعة إليه، وهذا قول مالك والشافعي أخذًا من قضاء عمر بن الخطاب، وقوله: «لو اجتمع على قتله أهلُ صنعاء لاقتصصتُ منهم».
ومنهم من عدل عن الزيادة مطلقًا وهو قول داود الظاهري، ومنهم من عدل عن تلك الزيادة في القطع ولم يعدل عنها في القتل، ولعل ذلك لأن عمر بن الخطاب قضى به في القتل ولم يؤثر عن أحد في القطع.
وربما ألغى بعضهم الزيادة إذا كان طريق ثبوت الجناية ضعيفًا مثل القسامة مع اللوث عند من يرى القصاص بها فإن مالكًا لم ير أن يُقتل بالقسامة أكثرُ من رجل واحد.
واعلم أن المماثلة في نحو هذا تحقق بقيمة الغرم كما اعتبرت في الديات وأروش الجِنايات.
وجملة {إنه لا يحب الظالمين} في موضع العلة لكلام محذوف دل عليه السياق فيقدر: أنه يحب العافين كما قال: {والعافين عن الناس والله يحبّ المحسنين} [آل عمران: 134].
ونصْرُه على ظالمه موكول إلى الله وهو لا يحب الظالمين، أي فيؤجر الذين عفوا وينتصر لهم على الباغين لأنه لا يحب الظالمين فلا يهمل الظالم دون عقاب {ومن قُتل مظلومًا فقد جعلنا لوليّه سلطانًا فلا يُسرف في القتل إنه كان منصورًا} [الإسراء: 33].
وقد استفيد حبّ الله العافين من قوله: {إنه لا يحب الظالمين}، وعلى هذا فمَا صْدَقُ الظالمين: هم الذين أصابوا المؤمنين بالبغي.
ويجوز أيضًا أن يكون التعليل بقوله: {إنه لا يحب الظالمين} منصرفًا لمفهوم جملة {وجزاء سيئة سيئة مثلها} أي دون تجاوز المماثلة في الجزاء كقوله: {وإن عاقبتُم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النمل: 126] فيكون مَا صْدَقُ {الظالمين}: الذين يتجاوزون الحد في العقوبة من المؤمنين على أن يكون تحذيرًا من مجاوزة الحدّ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم «من حامَ الحمى يوشك أن يقع فيه».
وقد شملت هذه الآية بموقعها الاعتراضي أصول الإرشاد إلى ما في الانتصار من الظالم وما في العفو عنه من صلاح الأمة، ففي تخويل حق انتصار المظلوم من ظالمه ردع للظالمين عن الإقدام على الظلم خوفًا من أن يأخذ المظلوم بحقه، فالمعتدي يحسب لذلك حسابه حين الهمّ بالعدوان.
وفي الترغيب في عفو المظلوم عن ظالمه حفظ آصرة الأخوة الإسلامية بين المظلوم وظالمه كيلا تنثَلِم في آحاد جزئياتها بل تزداد بالعفو متانة كما قال تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه وليّ حميم} [فصلت: 34].
على أن الله تعالى لَمْ يهمل جانب ردع الظالم فأنبأ بتحقيق أنه بمحل من غضب الله عليه إذ قال: {إنه لا يحب الظالمين} ولا ينحصر ما في طي هذا من هول الوعيد.
وتنشأ على معنى هذه الآية مسألة غرَّاء تجاذبتها أنظار السلف بالاعتبار، وهي: تحليل المظلوم ظالمه من مظلمته.
قال أبو بكر بن العربي في (الأحكام): روى ابن القاسم وابن وهب عن مالك وسئل عن قول سعيد بن المسيّب: لا أحلّل أحدًا، فقال: ذلك يختلف.
فقلت: الرجل يسلف الرجل فيهلِكُ ولا وفاء له قال: أرى أن يحلله، وهو أفضل عندي لقول الله تعالى: {الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه} [الزمر: 18]، وإن كان له فضل يُتبع فقيل له: الرجل يظلم الرجل، فقال: لا أرى ذلك، وهو عندي مخالف للأول لقول الله تعالى: {إنما السبيل على الذين يظلمون الناس} [الشورى: 42]، ويقول تعالى: {ما على المحسنين من سبيل} [التوبة: 91] فلا أرى أن تجعله من ظلمه في حلّ.
قال ابن العربي فصار في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: لا يحلّله بحال قاله ابن المسيّب.
والثاني: يحلّله، قاله ابن سيرين، زاد القرطبي وسليمان بن يسار، الثالث: إن كان مالًا حلّله وإن كان ظلمًا لم يحلّله وهو قول مالك.