فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفيه أنه إنما يرتكب عند تعذر الحقيقة وقد أمكن الحمل على التنازع فلا تعذر.
ثم أنه على التقدير لا يظهر أنه قول فيها إلا بدليل خارج، وهذا بخلاف ما ذكره جار الله في قوله تعالى: {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد} [ق: 28] من تقدير وقد صح عندكم أني قدمت لأن في اللفظ إشعارًا به بينا انتهى، ولعمري لقد أبعد قدس سره المغزى في هذه الآيات العظام وأتى بما تستحسنه النظار من ذي الأفهام فليفهم، وقوله تعالى: {أَلاَ إِنَّ الظالمين في عَذَابٍ مُّقِيمٍ} إما من تمام كلام المؤمنين ويجري فيه ما سمعت من الأصل ونكتة العدول أو استئناف أخبار منه تعالى تصديقًا لذلك.
{وَمَا كَانَ لَهُم مّنْ أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم} برفع العذاب عنهم {مِن دُونِ الله} حسبما يزعمون {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ} إلى الهدي أو النجاة، وقيل: المراد ما له من حجة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ}.
بعد أن حكى أصنافًا من كفر المشركين وعنادهم وتكذيبهم، ثم ذكَّرهم بالآيات الدالة على انفراد الله تعالى بالإلهية وما في مطاويها من النعم وحذّرهم من الغرور بمتاع الدنيا الزائل أعقبه بقوله: {ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده الامور وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن وَلِىٍّ مِّن} وهو معطوف على قوله: {إنما السبيل على الذين يظلمون الناس} [الشورى: 42].
والمعنى: أن فيما سمعتهم هدايةً لمن أراد الله له أن يهتدي، وأما من قدَّر الله عليه بالضلال فما له من وليّ غير الله يهديه أو ينقذه، فالمراد نفي الولي الذي يُصلحه ويُرشده، كقوله: {من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجدَ له وليًَّا مُرشدًا} [الكهف: 17]، فالمراد هنا ابتداء معنى خاص من الوَلاية.
وإضلال الله المرء: خَلْقُه غير سريع للاهتداء أوْ غير قابل له وحرمانه من تداركه إياه بالتوفيق كلما توغل في الضلالة، فضَلالُه من خلق الله وتقدير الله له، والله دعا الناس إلى الهداية بواسطة رُسله وشرائعه قال تعالى: {والله يدعو إلى دار السلام ويَهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [يونس: 25] أي يدعو كل عاقل ويَهدي بعض مَن دعاهم.
و{مَن} شرطية، والفاء في {فما له من ولي} رابطة للجواب.
ونفي الولي كناية عن نفي أسباب النجاة عن الضلالة وعواقب العقوبة عليها لأن الولي من خصائصه نفع مولاه بالإرشاد والانتشال، فنفي الولي يدلّ بالالتزام على احتياج إلى نفعه مولاه وذلك يستلزم أن مولاه في عناء وعذاب كما دل عليه قوله عقبه {وترى الظالمين لما رأوا العذاب} الآية.
فهذه كناية تلويحية، وقد جاء صريح هذا المعنى في قوله: {ومن يضلل الله فما له من هاد} في سورة الزمر (23) وقوله: {ومن يضلل الله فما له من سبيل} الآتي في هذه السورة (46).
وضمير {بعده} راجع إلى اسم الجلالة، أي من بعد الله كقوله تعالى: {فمن يهديه من بعد الله أفلا تذّكرون} في سورة الجاثية (23).
ومعنى {بعد} هنا بمعنى (دُون) أو (غير)، استعير لفظ {بعد} لمعنى (دون) لأن {بعد} موضوع لمن يخلف غائبًا في مكانه أو في عمله، فشبه ترك الله الضالَّ في ضلاله بغيبة الولي الذي يترك مولاه دون وصي ولا وكيل لمولاه وتقدم في قوله تعالى: {فبأي حديث بعده يؤمنون} في سورة الأعراف (185) وقوله: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} في سورة يونس (32).
و{من} زائدة للتوكيد.
ومن مواضع زيادتها أن تزاد قبل الظروف غيرِ المتصرفة قال الحريري (وما منصوب على الظرف لا يخفضه سوى حرف).
{بَعْدِهِ وَتَرَى الظالمين لَمَّا رَأَوُاْ العذاب يَقولونَ هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن}.
عطف على جملة {ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده}، وهذا تفصيل وبيان لما أجمل في الآيتين المعطوف عليهما وهما قوله: {ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص}.
[الشورى: 35]، وقوله: {ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده}.
والمعنى: أنهم لا يجدون محيصًا ولا وليًا، فلا يجدون إلا الندامة على ما فات فيقولوا {هل إلى مرد من سبيل}.
والاستفهام بحرف {هل} إنكاري في معنى النفي، فلذلك أدخلت {مِن} الزائدة على {سبيل} لأنه نكرة في سياق النفي.
والمَرَد: مصدر ميمي للردّ، والمراد بالرد: الرجوع، يقال: رده، إذا أرجعه.
ويجوز أن يكون {مَرَد} بمعنى الدفع، أي هل إلى ردّ العذاب عنا الذي يبدو لنا سبيلٌ حتى لا نقع فيه، فهو في معنى {إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع} في سورة الطور (8).
والخطاب في {ترى} لغير معيّن، أي تناهت حالهم في الظهور فلا يختص به مخاطب، أو الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم تسليةً له على ما لاقاه منهم من التكذيب.
والمقصودُ: الإخبار بحالهم أولًا، والتعجيب منه ثانيًا، فلم يقل: والظالمون لما رأوا العذاب يقولون، وإنما قيل: {وترى الظالمين} للاعتبار بحالهم.
ومجيء فعل {رأوا العذاب} بصيغة الماضي للتنبيه على تحقيق وقوعه، فالمضي مستعار للاستقبال تشبيهًا للمستقبل بالماضي في التحقق، والقرينة فعل {ترى} الذي هو مستقبل إذ ليست الرؤية المذكورة بحاصلة في الحال فكأنه قيل: لما يَرون العذاب.
وجملة {يقولون} حال من {الظالمين} أي تراهم قائلين، فالرؤية مقيدة بكونها في حال قولهم ذلك، أي في حال سماع الرائي قولهم.
{وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ}.
أعيد فعل (ترى) للاهتمام بهذه الرؤية وتهويلها كما أعيد فعل (تلاقوا) في قول ودَّاككٍ بن ثُمْيل المازني:
رويدًا بني شيبان بعضَ وعيدكم ** تُلاَقوا غدًا خيلي على سَفَوَانِ

تُلاقوا جيادًا لا تَحِيدُ عن الوغَى ** إذا ظَهَرتْ في المَأْزِق المُتَدَانِي

والعَرْض: أصله إظهار الشيء وإراءته للغير، ولذلكَ كان قول العرب: عَرَضْتُ البَعير على الحوض معدودًا عند علماء اللغة وعلماء المعاني من قبيل القَلْب في التركيب، ثم تتفرع عليه إطلاقات عديدة متقاربة دقيقة تحتاج إلى تدقيق.
ومن إطلاقاته قولهم: عَرْض الجندِ على الأمير، وعرض الأسرى على الأمير، وهو إمرارهم ليرى رأيه في حالهم ومعاملتهم، وهو إطلاقه هنا على طريق الاستعارة، استعير لفظ {يعرضون} لمعنى: يُمَرُّ بهم مَرًّا عاقبته التمكن منهم والحكمُ فيهم فكأنَّ جهنم إذا عرضوا عليها تحكم بما أعدّ الله لهم من حريقها، ويفسره قوله في سورة الأحقاف (20) {ويَوم يُعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها} الآية.
وقد تقدم إطلاق له آخر عند قوله تعالى: {ثم عَرَضَهم على الملائكة} في سورة البقرة (31).
وبني فعل {يعرضون} للمجهول لأن المقصود حصول الفعل لا تعيين فاعله.
والذين يَعرِضون الكافرين على النار هم الملائكةُ كما دلت عليه آيات أخرى.
وضمير {عليها} عائد إلى العذاب بتأويل أنه النار أو جهنم أو عائد إلى جهنم المعلومة من المقام.
وانتصب {خاشعين} على الحال من ضمير الغيبة في {تراهُم} لأنها رؤية بصرية.
والخشوع: التطامن وأثَر انكسار النفس من استسلام واستكانة فيكون للمخافة، وللمهابة، وللطاعة، وللعجز عن المقاومة.
والخشوع مثل الخضوع إلاّ أن الخضوع لا يسند إلاّ إلى البدن فيقال: خضع فلان، ولا يقال: خضع بَصَرُه إلا على وجه الاستعارة، كما في قوله تعالى: {فلا تخْضَعْنَ بالقول} [الأحزاب: 32]، وأما الخشوع فيسند إلى البدن كقوله تعالى: {خاشعين لله} في آخر سورة آل عمران (199).
ويُسند إلى بعض أعضاء البدن كقوله تعالى: {خُشَّعًا أبصارُهم} في سورة القمر (7)، وقوله: {وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسًا في سورة طه (108)}.
والمراد بالخشوع في هذه الآية ما يبدو عليهم من أثر المذلة والمخافة.
فقوله: {من الذل} متعلق ب {خاشعين} وتعلقه به يغني عن تعليقه ب {ينظرون} ويفيد ما لا يفيده تعليقه به.
و{مِنْ} للتعليل، أي خاشعين خشوعًا ناشئا عن الذل، أي ليس خشوعهم لتعظيم الله والاعتراف له بالعبودية لأن ذلك الاعتقاد لم يكن من شأنهم في الدنيا.
وجملة {ينظرون من طرف خفي} في موضع الحال من ضمير {خاشعين} لأن النظر من طرف خفيّ حالة للخاشع الذليل، والمقصود من ذكرها تصوير حالتهم الفظيعة.
وفي قريب من هذا المعنى قول النابغة يصف سبايا:
يَنْظُرْن شزْرًا إلى مَن جاء عن عُرُض ** بأوْجُهٍ منكِراتتِ الرِقّ أحْرَارِ

وقول جرير:
فغضَّ الطرف إنك من نُمير ** فلا كعبًا بلغتَ ولا كِلابا

والطرْف: أصله مصدر، وهو تحريك جفْن العين، يقال: طَرَفَ من باب ضرب، أي حرّك جفنه، وقد يطلق على العين من تسمية الشيء بفعله، ولذلك لا يثنّى ولا يجمع قال تعالى: {لا يرتَدُّ إليهم طَرْفُهم} [إبراهيم: 43].
ووَصْفُه في هذه الآية ب {خفي} يقتضي أنه أريد به حركة العين، أي ينظرون نظرًا خفيًّا، أي لا حِدّة له فهو كَمُسَارَقَةِ النظر، وذلك من هول ما يرونه من العذاب، فهم يحجمون عن مشاهدته للروع الذي يصيبهم منها، ويبعثهم ما في الإنسان من حب الاطلاع على أن يتطلعوا لما يساقون إليه كحال الهارب الخائف ممن يتبعه، فتراه يُمعن في الجرْي ويلتفت وراءه الفَينة بعد الفَينة لينظر هل اقتربَ منه الذي يجري وراءه وهو في تلك الالتفاتة أفات خطوات من جريه لكن حب الاطلاع يغالبه.
و{من} في قوله: {من طرف خفي} للابتداء المجازي.
والمعنى: ينظرون نظرًا منبعثًا من حركة الجفن الخفيّة.
وحُذف مفعول {ينظرون} للتعميم أي ينظرون العذاب، وينظرون أهوال الحشر وينظرون نعيم المؤمنين من طَرف خفيّ.
{خَفِىٍّ وَقال الذين ءامنوا إِنَّ الخاسرين الذين خسروا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة أَلاَ إِنَّ الظالمين في عَذَابٍ}.
يترجح أن الواو للحال لا للعطف، والجملة حال من ضمير الغيبة في {تراهم}، أي تراهم في حال الفظاعة الملتبسين بها، وتراهم في حال سماع الكلام الذامّ لهم الصادر من المؤمنين إليهم في ذلك المشهد.
وحُذفت (قد) مع الفعل الماضي لظهور قرينة الحال.
وهذا قول المؤمنين يوم القيامة إذ كانوا يومئذ مطمئنين من الأهوال شاكرين ما سبق من إيمانهم في الدنيا عارفين بِرِبْحِ تجارتهم ومقابلين بالضد حالة الذين كانوا يسخرون بهم في الدنيا إذ كانوا سببًا في خسارتهم يوم القيامة.
والظاهر: أن المؤمنين يقولون هذا بمسمع من الظالمين فيزيد الظالمين تلهيبًا لندامتهم ومهانتهم وخزيهم.
فهذا الخبر مستعمل في إظهار المسرّة والبهجة بالسلامة مما لحق الظالمين، أي قالوه تحدثًا بالنعمة واغتباطًا بالسلامة يقوله كل أحد منهم أو يقوله بعضهم لبعض.
وإنما جيء بحرف {إنَّ} مع أن القائل لا يشك في ذلك والسامع لا يشك فيه للاهتمام بهذا الكلام إذ قد تبيّنت سعادتهم في الآخرة وتوفيقهم في الدنيا بمشاهدة ضد ذلك في معانديهم.
والتعريف في {الخاسرين} تعريف الجنس، أي لا غيرهم.
والمعنى: أنهم الأكملون في الخسران وتسمّى (ألْ) هذه دالة على معنى الكمال وهو مستفاد من تعريف الجزءين المفيد للقصر الادعائي حيث نُزل خسران غيرهم منزلة عدم الخسران.
فالمعنى: لا خسران يشبه خسرانهم، فليس في قوله: {إن الخاسرين} إظهار في مقام الإضمار كما توهم، وقد تقدم نظيره في قوله: {قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة} في سورة الزمر (15).
والخسران: تلف مال التاجر، واستعير هنا لانتفاء الانتفاع بما كان صاحبه يُعِده للنفع، فإنهم كانوا يأمُلون نعيم أنفسهم والأنس بأهليهم حيثما اجتمعوا، فكُشف لهم في هذا الجمع عن انتفاء الأمرين، أو لأنهم كانوا يحسبون أن لا يحيوا بعد الموت فحسِبوا أنهم لا يَلْقَوْن بعده ألمًا ولا توحشهم فرقة أهليهم فكُشف لهم ما خيَّب ظنهم فكانوا كالتاجر الذي أمّل الربح فأصابه الخسران.
وقوله: {يوم القيامة} يتعلق بفعل {خسروا} لا بِفعل {قال}.
وجملة {ألا إن الظالمين في عذاب مقيم} تذييل للجمل التي قبلها من قوله: {وترى الظالمين لمَّا رأوا العذاب} [الشورى: 44] الآيات.
لأن حالة كونهم في عذاب مقيم أعم من حالة تلهفهم على أن يُردّوا إلى الدنيا، وذلِهم وسماعِهم الذم.
وإعادة لفظ {الظالمين} إظهار في مقام الإضمار اقتضاه أن شأن التذييل أن يكون مستقل الدلالة على معناه لأنه كالمثل.
وليست هذه الجملة من قول المؤمنين إذ لا قِبَل للمؤمنين بأن يحكموا هذا الحكم، على أن أسلوب افتتاحه يقتضي أنه كلام مَن بيده الحكم يوم القيامة وهو مَلِكُ يوم الدين، فهو كلام من جانب الله، أي وَهم معَ الندم وذلك الذل والخزي بسماع ما يكرهون في عذابٍ مستمر.
وافتتحت الجملة بحرف التنبيه لكثرة ذلك في التذييلات لأهميتها.
والمقيم: الذي لا يرتحل.
ووصف به العذاب على وجه الاستعارة، شبه المستمر الدائم بالذي اتخذ دار إقامة لا يبرحها.
{وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاء يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)}.
{مُّقِيمٍ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ الله وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ} عطف على جملة {ألا إن الظالمين في عذاب مقيم} [الشورى: 45] أي هم في عذاب دائم لا يجدون منه نصيرًا.
وهو رد لمزاعمهم أن آلهتهم تنفعهم عند الله.
وجملة {ينصرونهم} صفة ل {أولياء} للدلالة على أن المراد هنا ولاية خاصة، وهي ولاية النصر، كما كان قوله سابِقًا {ومن يضلل الله فما له من وليّ من بعده} [الشورى: 44] مرادًا به ولاية الإرشاد.