فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فأوحى إليهمْ أَن سَبّحُواْ بُكْرَةً} [مريم: 11] فقد قيل رمز وقيل اعتبار وقيل كتب وجعل التسخير من الوحي أيضًا وحمل عليه قوله تعالى: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} [النحل: 68] وسيئاتي إن شاء الله تعالى ما للصوفية قدست أسرارهم من الكلام في هذه الآية، و{وَحْيًا} على ما قال الزمخشري مصدر واقع موقع الحال وكذا أن يرسل لأنه بتأويل إرسالًا، و{مِن وَرَاء حِجَابٍ} ظرف واقع موقع الحال أيضًا كقوله تعالى: {وعلى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] والتقدير وما صح أن يكلم أحدًا في حال من الأحوال إلا موحيًا أو مسمعًا من وراء حجاب أو مرسلًا.
وتعقبه أبو حيان فقال: وقوع المصدر حالًا لا ينقاس فلا يجوز جاء زيد بكاء تريد باكيًا، وقاس منه المبرد ما كان نوعًا للفعل نحو جاء زيد مشيئا أو سرعة ومنع سيبويه من وقوع أن مع الفعل موقع الحال فلا يجوز جاء زيد أن يضحك في معنى ضحكًا الواقع موقع ضاحكًا.
وأجيب عن الأول بأن القرآن يقاس عليه ولا يلزم أن يقاس على غيره مع أنه قد يقال: يكتفي بقياس المبرد، وعن الثاني بأنه علل المنع بكون الحاصل بالسبك معرفة وهي لا تقع حالًا، وفي ذلك نظر لأنه غير مطرد ففي شرح التسهيل أنه قد يكون نكرة أيضًا ألا تراهم فسروا {إن يَفْتَرِى} بمفترى، وقد عرض ابن جني ذلك على أبي علي فاستحسنه، وعلى تسليم الاطراد فالمعرفة قد تكون حالًا لكونها في معنى النكرة كوحدة، والاقتصار على المنع أولى لمكان التعسف في هذا، واختار غير واحد إن وحيًا بما عطف عليه منتصب بالمصدر لأنه نوع من الكلام أو بتقدير إلا كلام وحي و{مِن وَرَاء حِجَابٍ} صفة كلام أوسماع محذوف وصفة المصدر تسد مسده والإرسال نوع من الكلام أيضًا بحسب المآل والاستثناء عليه مفرغ من أعم المصادر، وقال الزجاج: قال سيبويه سألت الخليل عن قوله تعالى: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} بالنصب فقال: هو محمول على أن سوى هذه التي في قوله تعالى: {أن يكلمه الله} لما يلزم منه أن يقال: ما كان لبشر أن يرسل الله رسولًا وذلك غير جائز، والمعنى ما كان لبشر {أَن يُكَلّمَهُ الله} إلا بأن يوحي أو أن يرسل، وعليه أن يقدر في قوله تعالى: {أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ} نحو أو أن يسمع من وراء حجاب وأي داع إلى ذلك مع ما سمعت؟ واختلف في الاستثناء هل هو متصل أو منقطع وأبو البقاء على الانقطاع.
وتعقبه بعضهم بأن المفرغ لا يتصف بذلك والبحث شهير.
وقرأ ابن أبي عبلة {أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ} نحو أو أن يسمع من وراء حجاب وأي داع إلى ذلك مع ما سمعت؟ واختلف في الاستثناء هل هو متصل أو منقطع وأبو البقاء على الانقطاع.
وتعقبه بعضهم بأن المفرغ لا يتصف بذلك والبحث شهير.
وقرأ ابن أبي عبلة {أَوْ مِن وَرَاء} بالجمع.
وقرأ نافع وأهل المدينة {حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِىَ} برفع الفعلين ووجهوا ذلك بأنه على إضمار مبتدأ أي هو يرسل أو هو معطوف على {وَحْيًا} أو على ما يتعلق به {مِن وَرَاء} بناء على أن تقديره أو يسمع من وراء حجاب، وقال العلامة الثاني: إن التوجيه الثاني وما بعده ظاهر وهو عطف الجملة الفعلية الحالية على الحال المفردة، وأما إضمار المبتدأ فإن حمل على هذا فتقدير المبتدأ لغو، وإن أريد أنها مستأنفة فلا يظهر ما يعطف عليه سوى {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} الخ وليس بحسن الانتظام.
وتعقب بأنه يجوز أن يكون تقدير المبتدأ مع اعتبار الحالية بناء على أن الجملة الاسمية التي الخبر فيها جملة فعلية تفيد ما لا تفيده الفعلية الصرفة مما يناسب حال إرسال الرسول، أو يقال: لا نسلم أن العطف على {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} ليس بحسن الانتظام، وفيه دغدغة لا تخفى، وفي الآية على ما قال ابن عطية دليل على أن من حلف أن لا يكلم فلانًا فراسله حنث لاستثنائه تعالى الإرسال من الكلام، ونقله الجلال السيوطي في أحكام القرآن عن مالك وفيه بحث والله تعالى الهادي.
{إِنَّهُ عَلِىٌّ} متعال عن صفات المخلوقين {حَكِيمٌ} يجري سبحانه أفعاله على سنن الحكمة فيكلم تارة بواسطة وأخرى بدونها إما إلهامًا وإما خطابًا أو إما عيانًا وإما خطابًا من وراء حجاب على ما يقتضيه الاختلاف السابق في تفسير الآية. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.
استئناف بياني لأن ما سبقه من عجيب خلق الإنسان الذي لم يهذّبْه الهَدي الإلهي يثير في نفس السامع سؤالًا عن فطر الإنسان على هاذين الخلقين اللذين يتلقى بهما نعمة ربه وبلاءه وكيف لم يُفطر على الخلق الأكمل ليتلقى النعمة بالشكر، والضرَّ بالصبر والضراعةِ، وَسُؤالًا أيضًا عن سبب إذاقة الإنسان النعمة مرة والبؤس مرّةً فيبطر ويكفر وكيف لم يُجعل حاله كفافًا لا لذّاتَ له ولا بلايَا كحال العجماوات فكان جوابه: أن الله المتصرف في السماوات والأرض يخلق فيهما ما يشاء من الذوات وأحوالها.
وهو جواب إجمالي إقناعي يناسب حضرة الترفع عن الدخول في المجادلة عن الشؤون الإلهية.
وفي قوله: {يخلق ما يشاء} من الإجمال ما يبعث المتأمل المنصف على تطلب الحكمة في ذلك فإن تَطَلَّبَها انقادت له كما أومأ إلى ذلك تذييل هذه الجملة بقوله: {إنه عليم قدير}، فكأنه يقول: عليكم بالنظر في الحكمة في مراتب الكائنات وتصرف مبدعها، فكما خلق الملائكة على أكمل الأخلاق في جميع الأحوال، وفطر الدواب على حد لا يقبل كمال الخلق، كذلك خلق الإنسان على أساس الخير والشر وجعله قابلًا للزيادة منهما على اختلاف مراتب عقول أفراده وما يحيط بها من الاقتداء والتقليد، وخلقَه كامل التمييز بين النعمة وضدها ليرتفع درجاتٍ وينحط دركات مما يختاره لنفسه، ولا يلائم فَطْرُ الإنسان على فِطرة الملائكة حالة عالمه الماديّ إذ لا تأهل لهذا العالم لأنْ يكون سكانه كالملائكة لعدم الملاءمة بين عالم المادة وعالم الروح.
ولذلك لما تم خلق الفرد الأول من الإنسان وآن أوَانُ تصرفه مع قرينتِه بحسب ما بزغ فيهما من القُوى، لَمْ يلبث أن نُقل من عالم الملائكة إلى عالم المادة كما أشار إليه قوله تعالى: {قال اهبطا منها جميعًا} [طه: 123].
ولكن الله لم يسُدَّ على النوع منافذ الكمال فخلقه خلقًا وسطًا بين المَلكِيَّة والبهيمية إذ ركبه من المادة وأودع فيه الروح ولم يُخَلِّه عن الإرشاد بواسطة وسطاء وتعاقبهم في العصور وتنَاقُل إرشادهم بين الأجيال، فإن اتبع إرشادهم التحق بأخلاق الملائكة حتى يبلغ المقامات التي أقامته في مقام الموازنة بين بعض أفراده وبين الملائكة في التفاضل.
وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: {قال اهبطا منها جميعًا بعضكم لبعض عدوّ فإمَّا يأتينَّكم منّي هُدى فمن اتبع هداي فلا يَضل ولا يشقى ومَن أعرَض عن ذكري فإنّ له مَعيشةً ضَنْكًا ونَحْشُرُه يوم القيامة أعمى} [طه: 123، 124]، وقوله: {وإذ قلْنا للملائكة اسجدوا لآدم} [البقرة: 34].
{يَشَاء يَهَبُ لِمَن يَشَاء إناثا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وإناثا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}.
بدل من جملة {يخلق ما يشاء} بدلَ اشتمال لأن خلقه ما يشاء يشتمل على هبته لمن يشاء ما يشاء.
وهذا الإبدال إدماجُ مَثَلٍ جامع لصور إصابة المحبوب وإصابة المكروه فإن قوله: {ويجعل من يشاء عقيمًا} هو من المكروه عند غالب البشر ويتضمن ضربًا من ضروب الكُفران وهو اعتقاد بعض النعمة سيئة في عادة المشركين من تطيرهم بولادة البَنات لهم، وقد أشير إلى التعريض بهم في ذلك بتقديم الإناث على الذكور في ابتداء تعداد النعم الموهوبة على عكس العادة في تقديم الذكور على الإناث حيثما ذكرا في القرآن في نحو {إنَّا خلقناكم من ذكر وأنثى} [الحجرات: 13] وقوله: {فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى} [القيامة: 39] فهذا من دقائق هذه الآية.
والمراد: يهب لمن يشاء إناثًا فقط ويهب لمن يشاء الذكور فقط بقرينة قوله: {أو يُزَوِّجهم ذُكْرانًا وإناثًا}.
وتنكير {إناثًا} لأن التنكير هو الأصل في أسماء الأجناس وتعريف {الذكور} باللام لأنهم الصنف المعهود للمخاطبين، فاللام لتعريف الجنس وإنما يصار إلى تعريف الجنس لمقصد، أي يهب ذلك الصنف الذي تعهدونه وتتحدثون به وترْغبون فيه على حدّ قول العرب: أرسَلَها العِراك، وتَقدم في أول الفاتحة.
و{أو} للتقسيم.
والتزويج قرن الشيء بشيء آخر فيصيران زوجًا.
ومن مجازه إطلاقه على إنكاح الرجل امرأة لأنهما يصيران كالزوج، والمراد هنا: جعلهم زوجًا في الهبة، أي يجمع لمن يشاء فيهب له ذكرانًا مشفَّعين بإناث فالمراد التزويج بصنف آخر لا مقابلة كل فرد من الصنف بفَرد من الصنف الآخر.
والضمير في {يزوجهم} عائد إلى كلًا من الإناث والذكور.
وانتصب {ذكرانًا وإناثًا} على الحال من ضمير الجمع في {يزوجهم}.
والعقيم: الذي لا يولد له من رجل أو امرأة، وفعله عَقِم من باب فرِح وعقُم من باب كرم.
وأصل فعله أن يتعدّى إلى المفعول يقال عقمها الله من باب ضرب، ويقال عُقِمت المرأة بالبناء للمجهول، أي عقَمها عاقم لأن سبب العقم مجهول عندهم.
فهو مما جاء متعديًا وقاصرًا، فالقاصر بضم القاف وكسرها والمتعدي بفتحها، والعقيم: فعيل بمعنى مفعول، فلذلك استوى فيه المذكر والمؤنث غالبًا، وربما ظهرت التاء نادرًا قالوا: رحم عقيمة.
{عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ}.
جملة في موضع العلة للمبدل منه وهو {يخلق ما يشاء} فموقع (إنّ) هنا موقع فاء التفريع.
والمعنى: أن خلقه ما يشاء ليس خلقًا مهملًا عريًا عن الحكمة لأنه واسع العلم لا يفوته شيء من المعلومات فخلقه الأشياء يجري على وفق علمه وحكمته.
وهو {قدير} نافذ القدرة، فإذا علم الحكمة في خلق شيء أراده، فجرى على قَدَره.
ولمّا جمع بين وصفي العلم والقدرة تعين أن هنالك صفة مطوية وهي الإرادة لأنه إنما تتعلق قدرته بعد تعلق إرادته بالكائن.
وتفصيلُ المعنى: أنه عليم بالأسباب والقُوى والمؤثرات التي وضعها في العوالم، وبتوافق آثار بعضها وتخالف بعض، وكيف تتكون الكائنات على نحو ما قُدِّر لها من الأوضاع، وكيف تتظاهر فتأتي الآثار على نسق واحد، وتتمانع فينقص تأثير بعضها في آثاره بسبب ممانعة مؤثراتٍ أخرى، وكل ذلك من مظاهر علمه تعالى في أصل التكوين العالمي ومظاهر قدرته في الجري على وفاق علمه.
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا}.
عطف على ما سبق من حكاية ترّهاتهم عطفَ القصة على القصة وهو عود إلى إبطال شُبَه المشركين التي أشار إليها قوله تعالى: {كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم} [الشورى: 3]، وقوله تعالى: {كَبُر على المشركين ما تدعُوهم إليه} [الشورى: 13]، وقد أشرنا إلى تفصيل ذلك فيما تقدم، ويزيده وضوحًا قوله عقبه {وكذلك أوحينا إليك روحًا من أمرنا} [الشورى: 52].
وهذه الآية تبطل الشبهة الثانية فيما عددناه من شبهاتهم في كون القرآن وحيًا من الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم إذ زعموا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لو كان مرسلًا من الله لكانت معه ملائكة تصدق قوله أو لأنزل عليه كتاب جاهز من السماء يشاهدون نزوله قال تعالى: {وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه مَلَك فيكون معه نذيرًا} [الفرقان: 7] وقال: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعًا} إلى أن قال: {ولن نؤمن لِرُقيّكَ حتى تنزل علينا كتابًا نقرؤه} [الإسراء: 90 93].
وإذ قد كان أهم غرض هذه السورة إثبات كون القرآن وحيا من الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم كما أوحي من قبله للرسل كان العود إلى ذلك من قبيل ردّ العجز على الصدر.
فبيَّن الله للمكذبين أن سنة الله في خطاب رسله لا تعدو ثلاثة أنحاء من الخطاب، منها ما جاء به القرآن فلم يكن ذلك بدعًا مما جاءت به الرسل الأولون وما كان الله ليخاطب رسله على الأنحاء التي اقترحها المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم فجيء بصيغة حصر مفتتحة بصيغة الجحود المفيدة مبالغة النفي وهي {وما كان لبشر أن يكلمه الله} أي لم يتهيّأ لأحد من الرسل أن يأتيه خطاب من الله بنوع من هذه الثلاثة.
ودل ذلك على انتفاء أن يكون إبلاغ مراد الله تعالى لأمم الرسل بغير أحد هذه الأنواع الثلاثة أعني خصوص نوع إرسال رسول، بدلالة فحوى الخطاب فإنه إذا كان الرسل لا يخاطبهم الله إلاّ بأحد هذه الأنحاء الثلاثة فالأمم أولى بأن لا يخاطبوا بغير ذلك من نحو ما سأله المشركون من رؤية الله يخاطبهم، أو مجيء الملائكة إليهم بل لا يتوجه إليهم خطاب الله إلاّ بواسطة رسول منهم يتلقى كلام الله بنحو من الأنحاء الثلاثة وهو مما يدخل في قوله: {أو يرسل رسولًا فيوحي بإذنه ما يشاء} فإن الرسول يكون مَلَكًا وهو الذي يبلّغ الوحي إلى الرسُل والأنبياء.
وخطاب الله الرسل والأنبياء قد يكون لقصد إبلاغهم أمرًا يصلحهم نحو قوله تعالى: {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلًا} [المزمل: 1، 2]، وقد يكون لإبلاغهم شرائع للأمم مثل معظم القرآن والتوراة، أو إبلاغهم مواعظ لهم مثل الزبور ومجلة لقمان.
والاستثناء في قوله: {إلا وحيًا} استثناء من عموم أنواع المتكلم التي دلّ عليها الفعل الواقع في سياق النفي وهو {ما كان لبشر أن يكلمه الله}.
فانتصاب {وحيًا} على الصفة لمصدر محذوف دل عليه الاستثناء، والتقدير: إلا كلامًا وحيًا أي موحًى به كما تقول: لا أكلمه إلاّ جهرًا، أو إلا إخفاتًا، لأن الجهر والإخفات صفتان للكلام.
والمراد بالتكلم بلوغ مراد الله إلى النبي سواء كان ذلك البلوغ بكلام يسمعه ولا يَرى مصدره أو بكلام يبلغه إليه المَلَكُ عن الله تعالى، أو بعلم يُلقى في نفس النبي يوقن بأنه مراد الله بعلم ضروري يجعله الله في نفسه.
وإطلاق الكلام على هذه الثلاثة الأنواع: بعضُه حقيقة مثل ما يسمعه النبي كما سمع موسى، وبعضه مجاز قريب من الحقيقة وهو ما يبلغه إلى النبي فإنه رسالة بكلام، وبعضه مجاز محض وهو ما يلقى في قلب النبي مع العلم، فإطلاق فعل {يكلمه} على جميعها من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه على طريقة استعمال المشترك في معانيه.
وإسناد فعل {يكلمه} إلى الله إسناد مجازي عقلي.
وبهذا الاعتبار صار استثناء الكلام الموصوف بأنه وحي استثناء متصلًا.
وأصل الوحي: الإشارة الخفيّة، ومنه {فأوحى إليهم أن سبحوا بكرةً وعشيئا} [مريم: 11].
ويطلق على ما يجده المرء في نفسه دفعة كحصول معنى الكلام في نفس السامع قال عبيد بن الأبرص:
وأوحى إليَّ الله أنْ قد تآمَرُوا ** بِإبْلِ أبي أوْفَى فقُمْتُ على رِجْلِ

وهذا الإطلاق هو المراد هنا بقرينة المقابلة بالنوعين الآخرين.
ومِن هنا أطلق الوحي على ما فطر الله عليه الحيوان من الإلهام المتقن الدقيق كقوله: {وأوحى ربُّك إلى النحل} [النحل: 68].