فصل: مقدمة ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مقدمة ابن عطية:

قال الشيخ الإمام الفقيه الأجل الحافظ الأكمل القاضي الأعدل أبو محمد عبد الحق ابن الفقيه الإمام الحافظ أبي بكر غالب بن عبد الرحمن بن غالب بن عبد الرءوف بن تمام بن عبد الله بن تمام بن عطية بن خالد بن عطية وهو الداخل إلى الأندلس ابن خالد بن خفاف بن أسلم بن مكرم المحاربي من ولد زيد بن محارب بن خصفة بن قيس عيلان من أهل غرناطة رحمه الله ونفعه والمسلمين بما دون الحمد لله الذي برأ النسيم وأفاض النعم ومنح القسم وسنى من توحيده وعبادته العصم ذي العزة القاهرة والقدرة الباهرة والآلاء المتظاهرة الذي أوجدنا بعد العدم وجعلنا الخيار الوسط من الأمم وخولنا عوارف لا تحصى وهدانا شرعة رمت بنا من رضوانه إلى الغرض الأقصى أنزل إلينا القرآن العزيز وعد فيه وبشر وأوعد وحذر ونهى وأمر وأكمل فيه الدين وجعله الوسيلة الناجحة والحبل المتين ويسره للذكر وخلده غابر الدهر عصمة للمعتصمين ونورا صادعا في مشكلات المختصمين وحجة قائمة على العالم ودعوة شاملة لفرق بني آدم كلامه الذي أعجز الفصحاء وأخرس البلغاء وشرف العلماء له الحمد دائبا والشكر واصبا لا إله إلا هو رب العرش العظيم وأفضل الصلاة والتسليم على محمد رسوله الكريم صفوته من العباد وشفيع الخلائق في المعاد صاحب المقام المحمود والحوض المورود الناهض بأعباء الرسالة والتبليغ الأعصم والمخصوص بشرف السعاية في الصلاح الأعظم صلى الله عليه وعلى آله صلاة مستمرة الدوام جديدة على مر الليالي والأيام، وبعد أرشدني الله وإياك:
فإني لما رأيت العلوم فنونا وحديث المعارف شجونا وسلكت فإذا هي أودية وفي كل للسلف مقامات حسان وأندية رأيت أن الوجه لمن تشزن للتحصيل وعزم على الوصول أن يأخذ من كل علم طرفا خيارا ولن يذوق النوم مع ذلك إلا غرارا ولن يرتقي هذا النجد ويبلغ هذا المجد حتى ينضي مطايا الاجتهاد ويصل التأويب بالإسئاد ويطعم الصبر ويكتحل بالسهاد فجريت في هذا المضمار صدر العمر طلقا وأدمنت حتى تفسخت أينا وتصببت عرقا إلى أن انتهج بفضل الله عملي وحزت من ذلك ما قسم لي ثم رأيت أن من الواجب على من احتبى وتخير من العلوم واجتبى أن يعتمد على علم من علوم الشرع يستنفد فيه غاية الوسع يجوب آفاقه ويتتبع أعماقه ويضبط أصوله ويحكم فصوله ويلخص ما هو منه أو يؤول إليه ويعنى بدفع الاعتراضات عليه حتى يكون لأهل ذلك العلم كالحصن المشيد والذخر العتيد يستندون فيه إلى أقواله ويحتذون على مثاله، فلما أردت أن أختار لنفسي وأنظر في علم أعد أنواره لظلم رمسي سبرتها بالتنويع والتقسيم وعلمت أن شرف العلم على قدر شرف المعلوم فوجدت أمتنها حبالا وأرسخها جبالا وأجملها آثارا وأسطعها أنوارا علم كتاب الله جلت قدرته وتقدست أسماؤه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد الذي استقل بالسنة والفرض ونزل به أمين السماء إلى أمين الأرض هو العلم الذي جعل للشرع قواما واستعمل سائر المعارف خداما منه تأخذ مبادئها وبه تعتبر نواشئها فما وافقه منها نصع وما خالفه رفض ودفع فهو عنصرها النمير وسراجها الوهاج وقمرها المنير وأيقنت أنه أعظم العلوم تقريبا إلى الله تعالى وتخليصا للنيات ونهيا عن الباطل وحضا على الصالحات إذ ليس من علوم الدنيا فيختل حامله من منازلها صيدا ويمشي في التلطف لها رويدا ورجوت أن الله تعالى يحرم على النار فكرا عمرته أكثر عمره معانيه ولسانا مرن على آياته ومثانيه ونفسا ميزت براعة رصفه ومبانيه وجالت سومها في ميادينه ومغانيه فثنيت إليه عنان النظر وأقطعته جانب الفكر وجعلته فائدة العمر وما ونيت علم الله إلا عن ضرورة بحسب ما يلم في هذه الدار من شغوب ويمس من لغوب أو بحسب تعهد نصيب من سائر المعارف.
فلما سلكت سبله بفضل الله ذللا وبلغت من اطراد الفهم فيه أملا رأيت أن نكته وفوائده تغلب قوة الحفظ وتفدح وتسنح لمن يروم تقييدها في فكره وتبرح وأنها قد أخذت بحظها من الثقل فهي تتفصى من الصدر تفصي الإبل من العقل.
قال تعالى: {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا} [المزمل: 5].
قال المفسرون أي علم معانيه والعمل بها وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قيدوا العلم بالكتاب» ففزعت إلى تعليق ما يتخيل لي في المناظرة من علم التفسير وترتيب المعاني وقصدت فيه أن يكون جامعا وجيزا محررا لا أذكر من القصص إلا ما لا تنفك الآية إلا به وأثبت أقوال العلماء في المعاني منسوبة إليهم على ما تلقى السلف الصالح رضوان الله عليهم كتاب الله من مقاصده العربية السليمة من إلحاد أهل القول بالرموز وأهل القول بعلم الباطن وغيرهم فمتى وقع لأحد من العلماء الذين قد حازوا حسن الظن بهم لفظ ينحو إلى شيء من أغراض الملحدين نبهت عليه وسردت التفسير في هذا التعليق بحسب رتبة ألفاظ الآية من حكم أو نحو أو لغة أو معنى أو قراءة وقصدت تتبع الألفاظ حتى لا يقع طفر كما في كثير من كتب المفسرين ورأيت أن تصنيف التفسير كما صنع المهدوي رحمه الله مفرق للنظر مشعب للفكر وقصدت إيراد جميع القراءات مستعملها وشاذها واعتمدت تبيين المعاني وجميع محتملات الألفاظ كل ذلك بحسب جهدي وما انتهى إليه علمي وعلى غاية من الإيجاز وحذف فضول القول، وأنا أسأل الله جلت قدرته أن يجعل ذلك كله لوجهه وأن يبارك فيه وينفع به وأنا وإن كنت من المقصرين فقد ذكرت في هذا الكتاب كثيرا من علم التفسير وحملت خواطري فيه على التعب الخطير وعمرت به زمني واستفرغت فيه منني إذ كتاب الله تعالى لا يتفسر إلا بتصريف جميع العلوم فيه وجعلته ثمرة وجودي ونخبة مجهودي فليستصوب للمرء اجتهاده وليعذر في تقصيره وخطئه وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ولنقدم بين يدي القول في التفسير أشياء قد قدم أكثرها المفسرون وأشياء ينبغي أن تكون راسخة في حفظ الناظر في هذا العلم مجتمعة لذهنه.
باب ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة وعن نبهاء العلماء في فضل القرآن المجيد وصورة الاعتصام به:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه ستكون فتن كقطع الليل المظلم قيل فما النجاة منها يا رسول الله قال كتاب الله تعالى فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم وهو فصل ليس بالهزل من تركه تجبرا قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله وهو حبل الله المتين ونوره المبين والذكر الحكيم والصراط المستقيم هو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تتشعب معه الآراء ولا يشبع منه العلماء ولا يمله الأتقياء من علم علمه سبق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن اعتصم به فقد هدي إلى صراط مستقيم».
قال أنس بن مالك في تفسير قوله تعالى: {فقد استمسك بالعروة الوثقى} [البقرة: 256] [لقمان: 22]. قال هي القرآن.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن» وقال صلى الله عليه وسلم: «اتلوا هذا القرآن فإن الله يأجركم بالحرف منه عشر حسنات أما إني لا أقول الم حرف ولكن الألف حرف واللام حرف والميم حرف».
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في آخر خطبة خطبها وهو مريض: «أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين إنه لن تعمى أبصاركم ولن تضل قلوبكم ولن تزل أقدامكم ولن تقصر أيديكم كتاب الله سبب بينكم وبينه طرفه بيده وطرفه بأيديكم فاعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابه وأحلوا حلاله وحرموا حرامه ألا وعترتي وأهل بيتي هو الثقل الآخر فلا تسبعوهم فتهلكوا».
وقيل لجعفر بن محمد الصادق لم صار الشعر يمل ما أعيد منها والقرآن لا يمل فقال لأن القرآن حجة على أهل الدهر الثاني كما هو حجة على أهل الدهر الأول فكل طائفة تتلقاه غضا جديدا ولأن كل امرئ في نفسه متى أعاده وفكر فيه تلقى منه في كل مرة علوما غضة وليس هذا كله في الشعر والخطب.
وقيل لمحمد بن سعيد ما هذا الترديد للقصص في القرآن فقال ليكون لمن قرأ ما تيسر منه حظ في الاعتبار.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ القرآن فرأى أن أحدا أوتي أفضل مما أوتي فقد استصغر ما عظم الله» وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من شفيع أفضل عند الله من القرآن لا نبي ولا ملك». وقال صلى الله عليه وسلم: «أفضل عبادة أمتي القرآن». وقال عبد الله بن عمرو بن العاصي من قرأ القرآن فقد أدرجت النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى إليه.
وحدث أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ مائة آية كتب من القانتين ومن قرأ مائتي آية لم يكتب من الغافلين ومن قرأ ثلاثمائة آية لم يحاجه القرآن». وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أشراف أمتي حملة القرآن». وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} [فاطر: 32].
فقال سابقكم سابق ومقتصدكم ناج وظالمكم مغفور له وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إن أصفر البيوت بيت صفر من كتاب الله». وروى أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «القرآن شافع مشفع وما حل مصدق من شفع له القرآن نجا ومن محل به القرآن يوم القيامة كبة الله لوجهه في النار وأحق من شفع له القرآن أهله وحملته وأولى من محل به من عدل عنه وضيعه».
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الذي يتعاهد هذا القرآن ويشتد عليه له أجران والذي يقرأه وهو خفيف عليه مع السفرة الكرام البررة».
وقال ابن مسعود مل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ملة فقالوا يا رسول الله حدثنا فأنزل الله تعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم} [الزمر: 23] ثم ملوا ملة أخرى فقالوا قص علينا يا رسول الله فأنزل الله تعالى: {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن} [يوسف: 3]. وروى عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه»، وقال عبد الله بن مسعود: إن كل مؤدب يحب أن يؤتى أدبه وإن أدب الله القرآن.
ومر أعرابي على عبد الله بن مسعود وعنده قوم يقرؤون القرآن فقال ما يصنع هؤلاء فقال له ابن مسعود يقتسمون ميراث محمد صلى الله عليه وسلم، ومرت امرأة على عيسى ابن مريم عليه السلام فقال طوبى لبطن حملك ولثديين رضعت منهما فقال عيسى طوبى لمن قرأ كتاب الله واتبع ما فيه، وقال محمد بن كعب القرظي في قوله تعالى: {ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان} [آل عمران: 193] قال هو القرآن ليس كلهم رأى النبي صلى الله عليه وسلم وقال بعض العلماء في تفسير قوله تعالى: {قل بفضل الله وبرحمته} [يونس: 58] قال الإسلام والقرآن.
وقيل لعبد الله بن مسعود إنك لتقل الصوم فقال إنه يشغلني عن قراءة القرآن وقراءة القرآن أحب إلي منه وقال قوم من الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم ألم تر يا رسول الله ثابت بن قيس لم تزل داره البارحة يزهر فيها وحولها أمثال المصابيح فقال لهم «فلعله قرأ سورة البقرة» فسئل ثابت بن قيس فقال نعم قرأت سورة البقرة وفي هذا المعنى حديث صحيح عن أسيد بن حضير في تنزل الملائكة في الظلة لصوته بقراءة سورة البقرة وذكر أبو عمرو الداني عن علي الأثرم قال كنت أتكلم في الكسائي وأقع فيه فرأيته في النوم وعليه ثياب بيض ووجهه كالقمر فقلت يا أبا الحسن ما فعل الله بك فقال غفر لي بالقرآن.
وقال عقبة بن عامر عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال «عليكم بالقرآن» وقال عبد الله بن عمرو بن العاص إن من أشراط الساعة أن يبسط القول ويخزن الفعل ويرفع الأشرار ويوضع الأخيار وأن تقرأ المثناة على رؤوس الناس لا تغير قيل وما المثناة قال ما استكتب من غير كتاب الله قيل له فكيف بما جاء من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «ما أخذتموه عمن تأمنونه على نفسه ودينه فاعقلوه وعليكم بالقرآن فتعلموه وعلموه أبناءكم فإنكم عنه تسألون وبه تجزون وكفى به واعظا لمن عقل».
وقال رجل لأبي الدرداء إن إخوانا لك من أهل الكوفة يقرئونك السلام ويأمرونك أن توصيهم فقال أقرئهم السلام ومرهم فليعطوا القرآن بخزائمهم فإنه يحملهم على القصد والسهولة ويجنبهم الجور والحزونة.
وقال رجل لعبد الله بن مسعود أوصني فقال إذا سمعت الله تعالى يقول يا أيها الذين آمنوا فأرعها سمعك فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه.
وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أحسن الناس قراءة أو صوتا بالقرآن فقال: «الذي إذا سمعته رأيته يخشى الله تعالى».
وقال صلى الله عليه وسلم: «اقرءوا القرآن قبل أن يجيء قوم يقيمونه كما يقام القدح ويضيعون معانيه يتعجلون أجره ولا يتأجلونه».
ويروي أن أهل اليمن لما قدموا أيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه سمعوا القرآن فجعلوا يبكون فقال أبو بكر هكذا كنا ثم قست القلوب وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ مرة: {إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع} [الطور: 7] فأن أنة عيد منها عشرين يوما. وقال الحسن بن أبي الحسن البصري إنكم اتخذتم قراءة القرآن مراحل وجعلتم الليل جملا تركبونه فتقطعون به المراحل وإن من كان قبلكم رأوه رسائل إليهم من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل وينفذونها بالنهار.
وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: أنزل عليهم القرآن ليعملوا به فاتخذوا درسه عملا إن أحدهم ليتلو القرآن من فاتحته إلى خاتمته ما يسقط منه حرفا وقد أسقط العمل به.
قال القاضي عبد الحق رضي الله عنه قال الله تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} [القمر: 17، 22، 23، 40].
وقال تعالى: {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا} [المزمل: 5] أي علم معانيه والعمل به والقيام بحقوقه ثقيل فمال الناس إلى الميسر وتركوا الثقيل وهو المطلوب منهم.
وقيل ليوسف بن أسباط بأي شيء تدعو إذا ختمت القرآن قال أستغفر الله من تلاوتي لأني إذا ختمته وتذكرت ما فيه من الأعمال خشيت المقت فأعدل إلى الاستغفار والتسبيح.
وقرأ رجل القرآن على بعض العلماء قال فلما ختمته أردت الرجوع من أوله فقال لي اتخذت القراءة علي عملا اذهب فاقرأه على الله تعالى في ليلك وانظر ماذا يفهمك منه فاعمل به. اهـ.