فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما بين أن الفساد الواقع بجالوت وجنوده زال بما كان من طالوت وجنوده، وبما كان من داود من قتل جالوت بين عقيب ذلك جملة تشتمل كل تفصيل في هذا الباب، وهو أنه تعالى يدفع الناس بعضهم ببعض لكي لا تفسد الأرض، فقال: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض} وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى: في قراءة: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله}:
قرأ ابن كثير وأبو عمرو {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله} بغير ألف، وكذلك في سورة الحج {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله} [الحج: 40] وقرآ جميعًا {إِنَّ الله يدفع عَنِ الذين آمَنُواْ} [الحج: 38] بغير ألف ووافقهما عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر اليحصبي على دفع الله بغير ألف إلا أنهم قرؤا {إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين آمَنُواْ} بالألف، وقرأ نافع {وَلَوْلاَ دفاع الله} و{إِنَّ الله يُدَافِعُ} بالألف.
إذا عرفت هذه الروايات فنقول: أما من قرأ: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله}، {إِنَّ الله يدفع} فوجهه ظاهر، وأما من قرأ: {وَلَوْلاَ دفاع الله}، {إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين آمَنُواْ} فوجه الإشكال فيه أن المدافعة مفاعلة، وهي عبارة عن كون كل واحد من المدافعين دافعًا لصاحبه ومانعًا له من فعله، وذلك من العبد في حق الله تعالى محال، وجوابه أن لأهل اللغة في لفظ دفاع قولين:
أحدهما: أنه مصدر لدفع، تقول: دفعته دفعًا ودفاعًا، كما تقول: كتبته كتبًا وكتابًا، قالوا: وفعال كثيرًا يجيء مصدرًا للثلاثي من فعل وفعل، تقول: جمح جماحًا، وطمح طماحًا، وتقول: لقيته لقاء، وقمت قيامًا، وعلى هذا التأويل كان قوله: {وَلَوْلاَ دفاع الله} معناه ولولا دفع الله.
والقول الثاني: قول من جعل دفاع من دافع، فالمعنى أنه سبحانه إنما يكف الظلمة والعصاة عن ظلم المؤمنين على أيدي أنبيائه ورسله وأئمة دينه وكان يقع بين أولئك المحقين وأولئك المبطلين مدافعات ومكافحات، فحسن الإخبار عنه بلفظ المدافعة، كما قال: {يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33]، {وَشَاقُّواْ الله} [الأنفال: 13] وكما قال: {قاتلهم الله} [التوبة: 30] ونظائره والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

اختلف العلماء في الناس المدفوع بهم الفساد من هم؟ فقيل: هم الأبْدَال وهم أربعون رجلًا كلما مات واحد بدّل الله آخر، فإذا كان عند القيامة ماتوا كلهم؛ اثنان وعشرون منهم بالشام وثمانية عشر بالعراق.
وروي عن عليّ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الأبدال يكونون بالشام وهم أربعون رجلًا كلما مات منهم رجل أبدل الله مكانه رجلًا يسقي بهم الغيث وينصر بهم على الأعداء ويصرف بهم عن أهل الأرض البلاء ذكره الترمذيّ الحكيم في نوادر الأُصول.
وخرّج أيضًا عن أبي الدرداء قال: إن الأنبياء كانوا أوتاد الأرض، فلما انقطعت النبوّة أبدل الله مكانهم قومًا من أُمة محمد صلى الله عليه وسلم يُقال لهم الأبدال؛ لم يفضلوا الناس بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بحسن الخلق وصدق الورع وحسن النية وسلامة القلوب لجميع المسلمين والنصيحة لهم ابتغاء مرضاة الله بصبر وحلم ولب وتواضع في غير مَذلّة، فهم خلفاء الأنبياء قوم اصطفاهم الله لنفسه واستخلصهم بعلمه لنفسه، وهم أربعون صِدّيقًا منهم ثلاثون رجلًا على مثل يقين إبراهيم خليل الرحمن، يدفع الله بهم المكاره عن أهل الأرض والبلايا عن الناس، وبهم يُمطَرون ويُرزَقون، لا يموت الرجل منهم حتى يكون الله قد أنشأ من يخلفه.
وقال ابن عباس: ولولا دفع الله العدوّ بجنود المسلمين لغلب المشركون فقتلوا المؤمنين وخرّبوا البلاد والمساجد.
وقال سفيان الثوريّ: هم الشهود الذين تُستخرج بهم الحقوق.
وحكى مكيّ أن أكثر المفسرين على أن المعنى: لولا أن الله يدفع بمن يصلِّي عمن لا يصلِّي وبمن يتقي عمن لا يتقي لأهلك الناس بذنوبهم؛ وكذا ذكر النحاس والثعلبيّ أيضًا.
قال الثعلبي وقال سائر المفسرين: ولولا دفاع الله المؤمنين الأبرار عن الفجار والكفار لفسدت الأرض، أي هلكت.
وذكر حديثًا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يدفع العذاب بمن يصلّي من أُمتي عمن لا يصلِّي وبمن يزكِّي عمن لا يزكِّي وبمن يصوم عمن لا يصوم وبمن يحج عمن لا يحج وبمن يجاهد عمن لا يجاهد، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء ما أنظرهم الله طرفة عين ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الاٌّرْضُ}».
وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله ملائكة تنادي كل يوم لولا عباد رُكَّعٌ وأطفال رُضّع وبهائم رُتّع لصبّ عليكم العذاب صبا» خرّجه أبو بكر الخطيب بمعناه من حديث الفضيل بن عياض.
حدّثنا منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا فيكم رجال خُشّع وبهائم رُتّع وصبيان رُضّع لصب العذاب على المؤمنين صبا» أخذ بعضهم هذا المعنى فقال:
لولا عبادٌ للإله رُكّعُ ** وصِبْيَة من اليتامى رُضّعُ

وَمُهْمَلاتٌ في الفَلاة رُتّعُ ** صُبّ عليكم العذاب الأوْجَعُ

وروى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ليصلح بصلاح الرجل ولده وولد ولده وأهل دويرته ودويرات حوله ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم» وقال قتادة: يبتلى الله المؤمن بالكافر ويعافى الكافر بالمؤمن.
وقال ابن عمر قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليدفع بالمؤمن الصالح عن مائة من أهل بيته وجيرانه البلاء» ثم قرأ ابن عمر {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ}.
وقيل: هذا الدفع بما شرع على ألْسِنَة الرسل من الشرائع، ولولا ذلك لتسالب الناس وتناهبوا وهلكوا، وهذا قول حسن فإنه عموم في الكف والدفع وغير ذلك فتأمّله. اهـ.

.قال أبو حيان:

والذي يظهر: أن المدفوع بهم هم المؤمنون، ولولا ذلك لفسدت الأرض، لأن الكفر كان يطبقها ويتمادى في جميع أقطارها، ولكنه تعالى لا يخلي زمانًا من قائم يقوم بالحق ويدعو إلى الله تعالى، إلى أن جعل ذلك في أمّة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال الزمخشري: لولا أن الله يدفع بعض الناس ببعض، ويكف بهم فسادهم، لغلب المفسدون، وفسدت الأرض، وبطلت منافعها، وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وسائر ما يعمر الأرض. انتهى.
وهو كلام حسن. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية المدفوع والمدفوع به، فقوله: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم} إشارة إلى المدفوع، وقوله: {بِبَعْضِ} إشارة إلى المدفوع به، فأما المدفوع عنه فغير مذكور في الآية، فيحتمل أن يكون المدفوع عنه الشرور في الدين ويحتمل أن يكون المدفوع عنه الشرور في الدنيا، ويحتمل أن يكون مجموعهما.
أما القسم الأول: وهو أن يكون المدفوع عنه الشرور في الدين، فتلك الشرور إما أن يكون المرجع بها إلى الكفر، أو إلى الفسق، أو إليهما، فلنذكر هذه الاحتمالات.
الاحتمال الأول: أن يكون المعنى: ولولا دفع الله بعض الناس عن الكفر بسبب البعض، وعلى هذا التقدير فالدافعون هم الأنبياء وأئمة الهدى فإنهم الذين يمنعون الناس عن الوقوع في الكفر بإظهار الدلائل والبراهين والبينات قال تعالى: {كِتَابٌ أنزلناه إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور} [إبراهيم: 1].
والاحتمال الثاني: أن يكون المراد: ولولا دفع الله بعض الناس عن المعاصي والمنكرات بسبب البعض، وعلى هذا التقدير فالدافعون هم القائمون بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر على ما قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} [آل عمران: 110] ويدخل في هذا الباب: الأئمة المنصوبون من قبل الله تعالى لأجل إقامة الحدود وإظهار شعائر الإسلام ونظيره قوله تعالى: {ادفع بالتى هي أَحْسَنُ السيئة} [المؤمنون: 96] وفي موضع آخر: {وَيَدْرَؤُنَ بالحسنة السيئة} [الرعد: 22].
الاحتمال الثالث: ولولا دفع الله بعض الناس عن الهرج والمرج وإثارة الفتن في الدنيا بسبب البعض، واعلم أن الدافعين على هذا التقدير هم الأنبياء عليهم السلام، ثم الأئمة والملوك الذابون عن شرائعهم، وتقريره: أن الإنسان الواحد لا يمكنه أن يعيش وحده، لأنه ما لم يخبز هذا لذاك ولا يطحن ذاك لهذا، ولا يبني هذا لذاك، ولا ينسج ذاك لهذا، لا تتم مصلحة الإنسان الواحد، ولا تتم إلا عند اجتماع جمع في موضع واحد، فلهذا قيل: الإنسان مدني بالطبع، ثم إن الاجتماع بسبب المنازعة المفضية إلى المخاصمة أولًا، والمقاتلة ثانيًا، فلابد في الحكمة الإلهية من وضع شريعة بين الخلق، لتكون الشريعة قاطعة للخصومات والمنازعات، فالأنبياء عليهم السلام الذين أوتوا من عند الله بهذه الشرائع هم الذين دفع الله بسببهم وبسبب شريعتهم الآفات عن الخلق فإن الخلق ما داموا يبقون متمسكين بالشرائع لا يقع بينهم خصام ولا نزاع، فالملوك والأئمة متى كانوا يتمسكون بهذه الشرائع كانت الفتن زائلة، والمصالح حاصلة فظهر أن الله تعالى يدفع عن المؤمنين أنواع شرور الدنيا بسبب بعثة الأنبياء عليهم السلام واعلم أنه كما لابد في قطع الخصومات والمنازعات من الشريعة فكذا لابد في تنفيذ الشريعة من الملك، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «الإسلام والسلطان أخوان توأمان» وقال أيضًا: «الإسلام أمير، والسلطان حارس، فما لا أمير له فهو منهزم، وما لا حارس له فهو ضائع» ولهذا يدفع الله تعالى عن المسلمين أنواع شرور الدنيا بسبب وضع الشرائع وبسبب نصب الملوك وتقويتهم، ومن قال بهذا القول قال في تفسير قوله: {لَفَسَدَتِ الأرض} أي لغلب على أهل الأرض القتل والمعاصي، وذلك يسمى فسادًا قال الله تعالى: {وَيُهْلِكَ الحرث والنسل والله لاَ يُحِبُّ الفساد} [البقرة: 205] وقال: {أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بالأمس إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّارًا في الأرض وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ من المصلحين} [القصص: 19] وقال: {إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ في الأرض الفساد} [غافر: 26] وقال: {أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ في الأرض} [الأعراف: 127] وقال: {ظَهَرَ الفساد في البر والبحر بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى الناس} [الروم: 41] وهذا التأويل يشهد له قوله في سورة الحج: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدّمَتْ صوامع وَبِيَعٌ وصلوات ومساجد} [الحج: 40].
الاحتمال الرابع: ولولا دفع الله بالمؤمنين والأبرار عن الكفار والفجار، لفسدت الأرض ولهلكت بمن فيها، وتصديق هذا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يدفع بمن يصلي من أمتي عمن لا يصلي، وبمن يزكي عمن لا يزكي، وبمن يصوم عمن لا يصوم، وبمن يحج عمن لا يحج، وبمن يجاهد عمن لا يجاهد، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء لما أنظرهم الله طرفة عين» ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على صحة هذا القول من القرآن قوله تعالى: {وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لغلامين يَتِيمَيْنِ في المدينة وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صالحا} [الكهف: 82] وقال تعالى: {وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مؤمنات} [الفتح: 25] إلى قوله: {لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 25] وقال: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] ومن قال بهذا القول قال في تفسير قوله: {لَفَسَدَتِ الأرض} أي لأهلك الله أهلها لكثرة الكفار والعصاة.
والاحتمال الخامس: أن يكون اللفظ محمولًا على الكل، لأن بين هذه الأقسام قدرًا مشتركًا وهو دفع المفسدة، فإذا حملنا اللفظ عليه دخلت الأقسام بأسرها فيه. اهـ.