فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



تنبيه:
ذهب بعض الباحثين في آيات القرآن الفلكية، والعوالم العلْوية إلى معنى آخر في هذه الآية. وعبارته: يفهم من الآية أن الله تعالى خلق السماوات دواب، ويستدل من قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاء فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء} [النور: 45]، أن هذه الدواب ليست ملائكة كما قال المفسرون، بل حيوانات كحيوانات الأرض، ولا يبعد أن يكون بينهم حيوان عاقل كالْإِنْسَاْن، ويلزم لحياة تلك الحيوانات أن يكون في السماوات نباتات، وأشجار، وبحار، وأنهار كما تحقق في هذا العصر لدى علماء الرصد.
ثم قال: لعمري، إن هذه الآية التي نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم قبل ألف وثلاثمائة وعشرين سنة، لآية لأهل هذا العصر وأيّة آية، آية لأهل العلم، والفلسفة الذين يبذلون الأموال، والأرواح بلا حد، ولا حساب، ليتوصلوا إلى معرفة سر من أسرار الكائنات، ومع هذا الجد العنيف والجهد المتواصل منذ ثلاثمائة سنة، لم يتوصلوا إلا بالظن إلى ما أنبأت به هذه الآية. وجل ما توصلوا إليه بالبرهان العقلي، إن الأرض أصغر من الشمس، وأنها تدور حولها، وإن الكواكب السيارات كريّات، وإن النجوم الثوابت شموس، ولها سيارات تدور حولها، ولما ثبت لديهم جميعًا وجود الماء والهواء، وحصول الصيف والشتاء في هذه السيارات، ظنوا أنه يوجد فيها عالم كعالم الأرض.
وبدأ البعض منهم يفكرون بإيجاد الوسائل للمخابرة بالكهربائية مع سكان المريخ الذي هو أقرب السيارات إلينا، وليس ذلك بالمستحيل فنًّا. ويستدل على إمكانيته من آخر الآية نفسها وهو قوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ} فلا يبعد أن يتخابرا ويجتمعا فكرًا، إذا لم يجتمعا جسمًا. فلينظر الفلكيون إلى ما حوته هذه الآية المكنوزة في القرآن. وليعلم المعجبون منا بالعلوم العصرية، الضاربون صفحًا عن العلوم الإسلامية، ما في كتاب الله من الحكمة والبيان. وقال أيضًا: لا يخفى أن القرآن العظيم نزل لبيان الحق وتعليم الدين، أولًا وبالذات. لكن، تمهيدًا لهذا السبيل، أتى بشذرات من العلوم الفلكية والطبيعية، وصرف بصائر الناس إلى التفكير في خلق السماوات والأرض، وما هن عليه من الإبداع، فوجه أبصارهم إلى التأمل في خلق الْإِنْسَاْن، وما عليه من التركيب العجيب، إلى غير ذلك من الأمور الفلكية والطبيعية في أكثر من ثلاثمائة آية.
فالمفسرون رحمهم الله، لما فسروا هذه الآيات، شرحوا معانيها على مقدار محيط علمهم بالعلوم الفلكية والطبيعية، ولا يخفى ما كانت عليه هذه الآلات في زمنهم من النقصان، لاسيما علم الفلك. فهم معذورون إذا لم يفهموا معاني هذه الآيات التي تحيّر عقول فلاسفة هذا العصر، المتضلعين بالعلوم العقلية. لذلك لم يفسروا هذه الآيات حق تفسيرها، بل أوّلوها وصرفوا معانيها عن الحقيقة إلى المجاز أو الكناية. انتهى كلامه.
وقال عالم فلكي أيضًا: يقول العلماء إنه من المحقق أن هذه السيارات مسكونة بحيوانات تشبه الحيوانات التي على أرضنا هذه، ويكون كل كوكب منها أرضًا بالنسبة لحيواناته، وباقي الكواكب سماوات بالنسبة لها.
قال: والظاهر أن القول بوجود الحيوانات في هذه الكواكب صحيح؛ لأن الله تعالى يقول في كتابه: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ} ويقول: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29]، {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} أي: فبسبب معاصيكم، وما اجترمتم من الآثام: {وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} أي: من الذنوب فلا يعاقب عليها.
{وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} أي: بمعجزين ربكم إن أراد عقوبتكم؛ لأنكم في قبضة تصرّفه: {وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} أي: إذا أراد عذابكم. فاتقوه واخشوه.
{وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ} أي: السفن الجارية: {فِي الْبَحْرِ كالأعلام} أي: الجبال: {إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} أي: فيبقين ثوابت على ظهر البحر: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي: في جري هذه الجواري في البحر، بتسخير الله تعالى الريح لجريها: {لَآيَاتٍ} أي: لعبرة، وعظة، وحجة بينة على القدرة الأزلية: {لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي: لكل مؤمن. وإنما آثر وصفيه المذكورين، تذكيرًا بما ينبغي أن يكون المؤمن عليه من وفرة الصبر وكثرة الشكر؛ إذ لا يكمل الإيمان بدونهما. والإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر.
{أَوْ يُوبِقْهُنَّ} أي: أو يهلكهن بالغرق: {بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ} وقوله تعالى: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ} عطف على علة مقدرة مثل لينتقم منهم: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ} أي: يخاصمون الرسول في آياته على توحيده أنهم ما لهم من محيد عن عذابه.
{فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْء} أي: مما زين للناس حبه من الشهوات: {فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: فهو متاع لكم، تتمتعون به في الدنيا، وليس من الآخرة: {وَمَا عِندَ اللَّهِ} أي: من ثوابه الأخروي: {خَيْرٌ وَأَبْقَى} وذلك لخلوصه عن الشوائب ودوامه: {لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي: في أمورهم، وقيامهم بأسبابهم: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} أي: يصفحون عمن أساء إليهم: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} أي حينما دعاهم إلى توحيده، والبراءة من عبادة غيره: {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} أي: لا ينفردون برأي حتى يتشاوروا ويجتمعوا عليه، وذلك من فرط تدبّرهم وتيقظهم، وصدق تآخيهم في إيمانهم وتحابّهم في الله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} أي: فيؤدّون ما فرض عليهم من الحقوق لأهلها، من زكاة ونفقة. وما ندبوا إليه من مواساة وصدقة ومعونة.
{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ} أي: بالعدالة. احترازًا عن الذلة والانظلام، لكونهم في مقام الاستقامة، قائمين بالحق والعدل الذي ظلّه في نفوسهم. قال القاشاني. وقال ابن جرير: اختلف أهل التأويل في الباغي الذي حمد تعالى ذكره، المنتصر منه بعد بغيه عليه. فقال بعضهم: هو المشرك إذا بغى على المسلم. وقال آخرون: بل هو كل باغٍ بغى فحمد المنتصر منه. وإليه ذهب السدي حيث قال: ينتصرون ممن بغى عليهم من غير أن يعتدوا.
قال ابن جرير: وهذا القول الثاني أولى من ذلك بالصواب؛ لأن الله لم يخصص من ذلك معنى دون معنى. بل حمد كل منتصر بحقٍّ ممن بغى عليه.. فإن قال قائل: وما في الانتصار من المدح؟ قيل: إن في إقامة الظالم على سبيل الحق، وعقوبته بما هو له أهل، تقويمًا له. وفي ذلك أعظم المدح. انتهى. وكذا قال الزمخشري. فإن قلت: أهم محمودون في الانتصار؟ قلت: نعم؛ لأن من أخذ حقه غير متعد حد الله وما أمر به فلم يسرف في القتل، إن كان وليّ دم، أو ردّ على سفيه محاماة على عرضه وردعًا له، فهو مطيع، وكل مطيع محمود. قال النَّخَعِي: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفساق.
ثم أشار تعالى إلى أن الانتصار يجب أن يكون مقيدًا بالمثل، بقوله: {وَجَزاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} أي: وجزاء سيئة المسيء ما ماثلها؛ إذ النقصان حيف والزيادة ظلم. ثم بين تعالى أن العفو أولى، فقال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ} أي: بينه وبين خصمه بالعفو والإغضاء: {فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} أي: ثوابه عليه. وفي إبهامه، ما يدل على عظمه؛ حيث جعل حقًا على العظيم الكريم: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} أي: البادئين بالسيئة، والمعتدين في الانتقام: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ} أي: بعد ما ظُلِم. فالمصدر مضاف لمفعوله، أو هو مصدر المبني للمفعول: {فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ} أي: للمعاقب، ولا للعاتب والعائب؛ لأنهم انتصروا منهم بحق. ومن أخذ حقه ممن وجب ذلك عليه، ولم يتعد ولم يظلم، فكيف يكون عليه سبيل؟: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} أي: يبدءوهم بالظلم والإضرار، أو يعتدون في الانتقام: {وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي: يتكبرون فيها ويفسدون: {أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: بسبب ظلمهم، وبغيهم.
{وَلَمَن صَبَرَ} أي: على الأذى: {وَغَفَرَ} أي: لمن ظلمه، ولم ينتصر: {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} أي: التي ندب الله عباده، وعزم عليهم العمل بها.
تنبيه:
نقل السيوطي في (الإكليل) عن الكيا الهراسي أنه قال: قد ندب الله إلى العفو في مواضع من كتابه، وظاهر هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ} أن الانتصار أفضل. قال: وهو محمول على من تعدى وأصرّ؛ لئلا يتجرأ الفساق على أهل الدين، وآيات العفو فيمن ندم وأقلع. انتهى.
وعجيب فهمه الأفضلية من الآية، فإنها لا تدل عليه، عبارة ولا إشارة؛ فإنه تعالى لم يرغب في الانتصار. وإنما بين أنه مشروع لهم إذا شاءوا، ثم بين بعده أن مشروعيته بشرط رعاية المماثلة، ثم بين أن العفو أولى، وهو الذي انتهى إليه الكلام، وتم به السياق. وكذلك لا حاجة إلى حمل الانتصار على من تعدى؛ وذلك لأن الانتصار بالمثل من فروع علم العقوبات، والجزاء المشروعة لإقامة الحق والعدل، ودفع الظلم عن النفس والصغار، ورفع الأحقاد والأضغان، وأما العفو والصفح، فذاك من فروع علم الأخلاق، وتهذيب النفوس؛ لأنه من باب المسامحة بالحق وإسقاط المستحق، رغبة في تزكية النفس وهضمًا لها وحرصًا على خير الأمرين، وأوفر الأجرين، وكلاهما من محاسن الشريعة الحنيفية، وتوسطها بين الاقتصاص البتة، والعفو كليًا؛ لأن العقل السليم يرى فيهما إفراطًا وتفريطًا، والدين دين الفطرة، وهي تتقاضى القصاص بالمثل، وتراه حقًا لها بجبلتها، والقضاء الأدبي، والوازع الرحماني يرشدها إلى ما هو أمثل إن شاءت، ويبرهن لها أمثليته، مما لا يبعد إذا راجعت نفسها وثابت إلى رشدها، أن تؤثره ولا تؤثر عليه كيف؟ وقد دل قوله تعالى: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} كما قال الزمخشري، على أن الانتصار لا يكاد يؤمن فيه تجاوز السيئة والاعتداء، خصوصًا في حال الحرد والتهاب الحمية. فربما كان المجازى من الظالمين وهو لا يشعر.
{وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} أي: النار: {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} أي: من طرف قد خفي من ذله وصغاره: {وَقال الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: بالتعريض للعذاب المخلد، وتفويت النعيم المؤبد: {أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم} أي: أجيبوا أيها الناس داعي الله، وآمنوا به: {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} أي: لا يرده الله بعد ما حكم به فـ: (من)، صلة مرد، أو هي صلة يأتي؛ أي: من قبل أن يأتي يوم الله لا يمكن رده: {مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ} أي إنكار لما اقترفتموه؛ لأنه محصي عليكم، أو نكير ينكر على الله في مؤاخذتكم.
{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} أي: رقبيًا تفظ عليهم أعمالهم، وتحصيها: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} أي: إبلاغهم ما أرسلت به، فإذا فعلت فقد قضيت ما عليك: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَاْن مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَاْن كَفُورٌ} أي: جحودٌ نعم ربه، فلا يذكر إلا البؤس والبلاء، ولا يتفكر إلا فيما أنزل به من الفساد والشقاء.
{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} أي: إنه تعالى يجعل أحوال العباد في الأولاد مختلفة على مقتضى المشيئة، وتقديم الإناث، إما لأنها أكثر لتكثير النسل، أو لتطييب قلوب آبائهن، تنبيهًا بأنهن سبب لتكثير مخلوقاته، فلا يجوز الحزن من ولادتهن وكراهيتهن، كما يشاهد من بعض الجهلة. وقال الثعالبي: إنه إشارة إلى ما في تقدم ولادتهن من اليمن، ومن يمن المرأة تبكيرها بأنثى.
قال الشهاب: والضمير في: {يُزَوِّجُهُمْ} للأولاد، وما بعده حال منه، أو مفعول ثان إن ضمن معنى التصيير، يعني يجعل أولاد من يشاء ذكورًا وإناثًا مزدوجين؛ كما يفرد بعضهم بالذكور وبعضهم بالإناث، ويجعل بعضهم لا أولاد له أصلًا.
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} أي: إلهامًا وقذفًا في القلب منه، بلا واسطة: {أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ} أي: يكلمه بحيث يسمع كلامه ولا يراه، كما كلم موسى عليه السلام: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} أي: من الملائكة كجبريل: {فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء} أي: فيوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذن ربه، ما يشاء إيحاءه، من أمر ونهي، وغير ذلك، على سبيل الإلقاء، والنفث في الروع، والإلهام، أو الهتاف، أو المنام: {إِنَّهُ عَلِيٌّ} أي: من أن يواجه، ويخاطب. بل يفنى ويتلاشى من يواجهه، لعلوّه من أن يبقى معه غيره، أو يحتمل شيء حضوره. قال القاشاني.
وقال المهايمي: أي: لا يبلغ البشر حد مكالمته شفاهًا، ولا يحتمل سماع كلامه مع رؤيته. انتهى {حَكِيمٌ} أي: يدبر بالحكمة وجوه التكليم، ليظهر علمه في تفصيل المظاهر، ويكمل به عباده، ويهتدوا إليه ليعرفوه. وقال المهايمي: أي: حكيم في تبليغ كلامه العلي إلى البشر الضعيف.
تنبيه:
في (الإكليل): استدلت بالآية، عائشة رضي الله عنها، على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه. واستدل مالك بقوله: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} على أن من حلف لا يكلم زيدًا، فأرسل إليه رسولًا أو كتابًا، أنه يحنث. لأنه تعالى استثناه من الكلام، فدل على أنه منه. انتهى. وفيه بعد؛ إذ لا يقال لمن ألهمه الله، إنه كلمه إلا مجازًا، فلا يكون الاستثناء متصلًا.
وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ} أي: مثل ذلك الإيحاء على الطرق الثلاثة: {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} أي: وحيًا من أمرنا. وسماه روحًا لأنه تحيا به القلوب الميتة. قال الشهاب: فهو استعارة أو مجاز مرسل، لما فيه من الهداية والعلم الذي هو كالحياة. وقيل: هو جبريل.
و: {أَوْحَيْنَا} مضمن معنى أرسلنا. والمعنى: أرسلناه إليك بالوحي: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ} أي: الروح، أو الكتاب، أو الإيمان: {نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا} أي: بالتوفيق للقبول، والنظر فيه: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أي: خلقًا وملكًا: {أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} أي: في الآخرة، فيقضي بينهم بالعدل؛ إذ لا حاكم سواه، فيجازي كلًّا بما يستحقه من ثواب، أو عقاب. نسأله تعالى أن يحسن لنا المآب. إنه الكريم الوهاب. اهـ.

.قال سيد قطب:

{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السيئات وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)}.
هذا القسم الثاني من السورة يمضي في الحديث عن دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق وعن آثار القدرة فيما يحيط بالناس، وفيما يتعلق مباشرة بحياتهم ومعاشهم، وفي صفة المؤمنين التي تميز جماعتهم.. وذلك بعد الحديث في القسم الأول عن الوحي والرسالة من جوانبها المتعددة.. ثم يعود في نهاية السورة إلى الحديث عن طبيعة الوحي وطريقته. وبين القسمين اتصال ظاهر، فهما طريقان إلى القلب البشري، يصلانه بالوحي والإيمان.
{وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير}..