فصل: قال عبد الكريم الخطيب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



[آل عمران: 77] ولم نذكر أسانيد هذه الروايات ونصوص متونها خوف الإطالة، وأسانيد بعضها لا تخلو من نظر لكنها لا يكاد يخلو شيء منها عن بعض الشواهد الصحيحة، من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن أهل العلم اختلفوا في حد الكبيرة.
فقال بعضهم: هي كل ذنب استوجب حدًا من حدود الله.
وقال بعضهم: هي كل ذنب جاء الوعيد عليه بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب.
واختار بعض المتأخرين حد الكبيرة بأنها هي كل ذنب دل على عدم اكتراث صاحبه بالدين.
وعن ابن عباس: أن الكبائر أقرب إلى السبعين منها إلى السبع. وعنه أيضًا أنها أقرب إلى سبعمائة منها إلى سبع.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: التحقيق أنها لا تنحصر في سبع، وأن ما دل عليه من الأحاديث على أنها سبع لا يقتضى انحصارها في ذلك العدد، لأنه إنما دل على نفي غير السبع بالمفهوم، وهو مفهوم لقب، والحق عدم اعتباره.
ولو قلنا إنه مفهوم عدد لكان غير معتبر أيضًا، لأن زيادة الكبائر على السبع مدلول عليها بالمنطوق.
وقد جاء منها في الصحيح عدد أكثر من سبع، والمنطوق مقدم على المفهوم، مع أن مفهوم العدد ليس من أقوى المفاهيم.
والأظهر عندي في ضابط الكبيرة أنها كل ذنب اقترن بما يدل على أنه أعظم من مطلق المعصية سواء كان ذلك الوعيد عليه بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب، أو كان وجوب الحد فيه، أو غير ذلك مما يدل على تغليظ التحريم وتوكيده.
مع أن بعض أهل العلم قال: إن كل ذنب كبيرة.
وقوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] الآية.
وقوله: {إِلاَّ اللمم} [النجم: 32] يدل على عدم المساواة، وأن بعض المعاصي كبائر. وبعضها صغائر، والمعروف عند أهل العلم: أنه لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَجَزاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في آخر سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] الآية. وفي سورة الزمر في الكلام على قوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17- 18] الآية.
قوله تعالى: {وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ فأولئك مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في الكلام على آية النحل وآية الزمر المذكورتين آنفًا.
قوله تعالى: {وَتَرَى الظالمين لَمَّا رَأَوُاْ العذاب} الآية.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى: {فَهَل لَنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَل} [الأعراف: 53].
قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {يُنَزِّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2] الآية.
قوله تعالى: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان ولكن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَشَاء مِنْ عِبَادِنَا}.
قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان}. يبين الله جل وعلا فيه مِنَّتِهِ على هذا النبي الكريم، بأنه علمه هذا القرآن العظيم ولم يكن يعلمه قبل ذلك، وعلمه تفاصيل دين الإسلام ولم يكن يعلمها قبل ذلك.
فقوله: ما كنت تدري ما الكتاب: أي ما كنت تعلم ما هو هذا الكتاب الذي هو القرآن العظيم، حتى علمتكه، وما كنت تدري ما الإيمان الذي هو تفاصيل هذا الدين الإسلامي، حتى علمتكه.
ومعلوم أن الحق الذي لا شك فيه الذي هو مذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان شامل للقول والعمل مع الاعتقاد.
وذلك ثابت في أحاديث صحيحة كثيرة، منها: حديث وفد عبد القيس المشهور، ومنها حديث: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا» الحديث، فسمى فيه قيام رمضان إيمانًا، وحديث «الإيمان بضع وسبعون شعبة»، وفي بعض رواياته «بضع وستون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق».
والأحاديث بمثل ذلك كثيرة ويكفي في ذلك ما أورده البيهقي في شعب الإيمان فهو صلوات الله وسلامه عليه ما كان يعرف تفاصيل الصلوات المكتوبة وأوقاتها ولا صوم رمضان، وما يجوز فيه وما لا يجوز ولم يكن يعرف تفاصيل الزكاة ولا ما تجب فيه ولا قدر النصاب وقدر الواجب فيه ولا تفاصيل الحج ونحو ذلك، وهذا هو المراد بقوله تعالى: {وَلاَ الإيمان}.
وما ذكره هنا من أنه لم يكن يعلم هذه الأمور حتى علمه إياها بأن أوحى إليه هذا النور العظيم الذي هو كتاب الله، جاء في غير هذا الموضع كقوله تعالى: {وَأنزل الله عَلَيْكَ الكتاب والحكمة وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113] الآية.
وقوله جل وعلا {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص بِما أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هذا القرآن وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين} [يوسف: 3].
فقوله في آية يوسف هذه: {وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين} [يوسف: 3] كقوله هنا {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان} [الشورى: 52] وقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًا فهدى} [الضحى: 7] على أصح التفسيرات كما قدمناه في سورة الشعراء في الكلام على قوله تعالى: {قال فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَاْ مِنَ الضالين} [الشعراء: 20] إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {ولكن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَشَاء}، الضمير في قوله: جعلناه راجع إلى القرآن العظيم المذكور في قوله: {رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] وقوله: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب} أي ولكن جعلنا هذا القرآن العظيم نورًا نهدي به من نشاء هدايته من عبادنا.
وسمي القرآن نورًا، لأنه يضيء الحق ويزيل ظلمات الجهل والشك والشرك.
وما ذكره هنا من أن هذا القرآن نور، جاء موضحًا في آيات أخر كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الناس قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا} [النساء: 174].
وقوله تعالى: {واتبعوا النور الذي أُنزِلَ مَعَهُ} [الأعراف: 157] وقوله تعالى: {قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُمْ مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ سُبُلَ السلام وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15- 16] وقوله تعالى: {فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والنور الذي أَنزَلْنَا} [التغابن: 8].
وما دلت عليه هذه الآيات الكريمة من كون هذا القرآن نورًا يدل على أنه هو الذي يكشف ظلمات الجهل، ويظهر في ضوئه الحق، ويتميز عن الباطل ويميز به بين الهدى والضلال والحسن والقبيح.
فيجب على كل مسلم أن يستضيء بنوره، فيعتقد عقائده، ويحل حلاله، ويحرم حرامه ويمتثل أوامره ويجتنب ما نهى عنه ويعتبر بقصصه وأمثاله.
والسنة كلها داخلة في العمل به، لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7].
قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}. الصراط المستقيم، قد بينه تعالى في قوله: {اهدنا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضالين} [الفاتحة: 6- 7].
وقوله في هذه الآية الكريمة {عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لتهدي} الآية، قد بينا الآيات الموضحة له في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُم} [فصلت: 17] الآية، وبينا هناك وجه الجمع بين قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} [الشورى: 52] مع قوله: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56].
والصراط في لغة العرب: الطريق الواضح، والمستقيم. الذي لا اعوجاج فيه، ومنه قول جرير:
أمير المؤمنين على صراط ** إذا اعوج الموارد مستقيم

قوله تعالى: {أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور}.
ما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الأمور كلها تصير إلى الله، أي ترجع إليه وحده لا إلى غيره. جاء موضحًا في آيات أخر كقوله تعالى: {وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض وَإليه يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ} [هود: 123] وقوله تعالى: {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وإلى الله تُرْجَعُ الأمور كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس} [آل عمران: 109- 110] إلى غير ذلك من الآيات. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَراء حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}..
مفهوم جديد للحروف في أوائل السور:
بهذه الآية، والآيتين التي بعدها، تختم السورة الكريمة.. وبهذا الختام، يتم التلاقي بين بدئها وختامها.. فقد بدئت السورة بـ: قوله تعالى: {حم عسق كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وختمت ببيان الصور التي يتم بها الاتصال بين اللّه ورسله، والتي يتلقّون بها كلماته وآياته.. وأن هذه الصور لا تخرج عن أحوال ثلاث..
الصورة الأولى: أن يكون ذلك الاتصال بين اللّه ورسله {وَحْيًا} أي رمزا وإشارة، بحيث لا يعرف دلالة ما يوحى اللّه سبحانه به إلى الرسول- إلا الرسول وحده..
والصورة الثانية: أن يكون الاتصال بأن يكلم اللّه الرسول بكلماته التي يريد سبحانه إلقاءها إليه، وذلك من وراء حجاب، أي من غير أن يرى الرسول ذات المتكلم، سبحانه وتعالى، حيث لا يمكن أن تقع هذه الرؤية لأبصارنا المحدودة الكاملة، التي لا تتعامل إلا مع ما هو محدود، واللّه سبحانه وتعالى منزّه عن التجسد، والحدّ.. ولهذا كان قول اللّه لموسى حين قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قال لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقًا فَلَمَّا أَفاقَ قال سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143].
الصورة الثالثة: أن يكون ذلك بوساطة رسول من عالم الرّوح، يرسله اللّه سبحانه وتعالى، حاملا آياته وكلماته التي أذن بها له إلى الرسول البشرى، فيتلقاها النّبى من رسول السماء.
وقد أشرنا في أول هذه السورة، عند تفسير قوله تعالى: {حم عسق}.
إلى أن هذه الأحرف المقطعة، هي صورة من صور الوحي، وهى الصورة الأولى التي أشار إليها اللّه سبحانه وتعالى بقوله: {وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} فهى- أي هذه الأحرف- من هذا الوحي الرمزى، الذي هو سرّ بين اللّه سبحانه وتعالى وبين رسوله صلوات اللّه وسلامه عليه..! وهذا يعنى أن هذه الأحرف معروفة الدّلالة لرسول اللّه، وإلا لما كان لوحيها إليه حكمة.. وهذا بدوره يدعونا إلى القول بأن الحروف المقطعة التي بدئت بها بعض السّور القرآنية- يجرى عليها هذا المفهوم الذي فهمنا عليه هذه الأحرف المقطعة هنا في تلك السورة. والسؤال هنا، هو:
إذا كانت هذه الأحرف وحيا خاصا من اللّه سبحانه وتعالى إلى رسوله الكريم، لا يعرف دلالتها إلا الرسول، فلما ذا كانت قرآنا، يتلى، ويتعبد به؟ وكيف يتعبد بما لا مفهوم له؟
وقبل أن نجيب على هذا نسأل: أكان الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه، يعرف دلالة هذه الحروف؟
والجواب على هذا بالإيجاب، وذلك من وجهين:
فأولا: في قوله تعالى في أول السورة: {حم عسق كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
وقد عاد اسم الإشارة إلى هذه الأحرف، وإلى أنها صورة من صور الوحي، التي يتصل فيها النبي بربّه جلّ وعلا.
وثانيا: في قوله تعالى في ختام السورة: {وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَراء حِجابٍ} الآية إشارة إلى أن هذا الوحي هو مما كلم اللّه به نبيه.. والكلام لا يكون كلاما حتى تكون له دلالة مفهومة عند من يلقى إليه هذا الكلام.. لأن الكلام نقد متداول بين معط وآخذ، ولن تنم عملية المبادلة حتى يكون لهذا النقد قيمة معترف بها بين الطرفين، أو الأطراف المتعاملة به.. وقيمة اللغة هي في دلالتها، وفى تحديد مفهومها بين المتخاطبين بها..
فكلام اللّه سبحانه وتعالى لرسله، سواء كان وحيا، أو من وراء حجاب، أو عن طريق رسول سماوى ينقله إلى الرسول البشرى- هذا الكلام الإلهى لا بدّ أن يكون واضح الدلالة، بيّن المفهوم عند الرسول المتلقى لهذا الكلام، قبل كل شيء.. ثم لا يمنع ذلك من أن يكون للناس- وخاصة قوم الرسول- مشاركة في هذا الفهم، على اختلاف في درجات هذا الفهم.
من الألف إلى الياء.. على حين تبقى للرسول درجة خاصة من الفهم لا يشاركه فيها غيره! ونعود إلى الاجابة على سؤالنا آنفا، وهو: إذا كانت هذه الأحرف المقطعة، وحيا خاصا من اللّه سبحانه وتعالى إلى رسوله الكريم- فلماذا كانت قرآنا يتلى ويتعبد به؟ وكيف يتعبد بما لا مفهوم له؟
والجواب على هذا.. واللّه أعلم.. هو:
أولا: أن اختصاص الرسول الكريم، بفهم خاص، لبعض كلمات وآيات من كلمات اللّه وآياته، التي يتلقاها وحيا من ربه- ليس هذا الفهم الخاص بالذي يعزل هذه الآيات أو الكلمات عن آيات القرآن وكلماته.. إذ إن هناك آيات وكلمات، تختلف مفاهيم أهل اللغة فيها، وفى تحديد دلالتها، وهى من المتشابه الذي أشار إليه سبحانه وتعالى في قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغاء تأويلهِ وَما يَعْلَمُ تأويلهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقولونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ}.
(7: آل عمران)- ومع ذلك فهى قرآن يقرأ ويتعبد به.
وثانيا: حكمة هذه الحروف المقطعة- وهى المتشابه- أنها دعوة إلى الايمان بالغيب، والتسليم بالتعبد بهذه الأحرف، دون أن يكون للعقل سلطان معها، بعد أن استوفى العقل حقّه، وأعمل كلّ سلطانه مع المحكم من الآيات، واستبان له- بما لا يدع مجالا للشك- أنها من عند اللّه.. فكان حمله على الإيمان بما لا مفهوم له عنده من كلمات اللّه، وإحالة ما لم يفهمه على ما فهم- كان ذلك دعوة مجددة له إلى الإيمان القائم على الولاء والتسليم المطلقين..