فصل: من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَأَحْكَامُ هَذِهِ الْآيِ ثَابِتَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ.
وَقولهُ: {وَاَلَّذِينَ إذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} يَدُلُّ ظَاهِرُهُ عَلَى أَنَّ الِانْتِصَارَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَفْضَلُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَرَنَهُ إلَى ذِكْرِ الِاسْتِجَابَةِ لِلَّهِ- تعالى- وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ؟ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُذِلُّوا أَنْفُسَهُمْ فَيَجْتَرِئُ الْفُسَّاقُ عَلَيْهِمْ، فَهَذَا فِيمَنْ تَعَدَّى وَبَغَى وَأَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ، وَالْمَوْضِعُ الْمَأْمُورُ فِيهِ بِالْعَفْوِ إذَا كَانَ الْجَانِي نَادِمًا مُقْلِعًا.
وَقَدْ قال عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَلَمَنْ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} وَمُقْتَضَى ذَلِكَ إبَاحَةُ الِانْتِصَارِ لَا الْأَمْرُ بِهِ، وَقَدْ عَقَّبَهُ بِقولهِ: {وَلَمَنْ صَبْر وَغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْغُفْرَانِ عَنْ غَيْرِ الْمُصِرِّ.
فَأَمَّا الْمُصِرُّ عَلَى الْبَغْيِ وَالظُّلْمِ فَالْأَفْضَلُ الِانْتِصَارُ مِنْهُ، بِدَلَالَةِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قال: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ قوله تعالى: {وَلَمَنْ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} قال: هَذَا فِيمَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ الْقِصَاصِ، فَأَمَّا لَوْ ظَلَمَك رِجْلٌ لَمْ يَحِلَّ لَك أَنْ تَظْلِمَهُ. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَاَلَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْك وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إليه اللَّهُ يَجْتَبِي إليه مَنْ يَشَاء وَيَهْدِي إليه مَنْ يُنِيبُ}.
ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الْمَشْهُورِ الْكَبِيرِ: «وَلَكِنْ ائْتُوا نُوحًا، فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ. فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقولونَ: أَنْتَ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ».
وَهَذَا صَحِيحٌ لَا إشْكَالَ فِيهِ، كَمَا أَنَّ آدَمَ أَوَّلُ نَبِيٍّ بِغَيْرِ إشْكَالٍ؛ لِأَنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا بَنُوهُ، وَلَمْ تُفْرَضْ لَهُ الْفَرَائِضُ، وَلَا شُرِعَتْ لَهُ الْمَحَارِمُ؛ وَإِنَّمَا كَانَ تَنْبِيهًا عَلَى بَعْضِ الْأُمُورِ، وَاقْتِصَارًا عَلَى ضَرُورَاتِ الْمَعَاشِ، وَأَخَذًا بِوَظَائِفِ الْحَيَاةِ وَالْبَقَاء، وَاسْتَقَرَّ الْمَدَى إلَى نُوحٍ، فَبَعَثَهُ اللَّهُ بِتَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَوَظَّفَ عَلَيْهِ الْوَاجِبَاتِ، وَأَوْضَحَ لَهُ الْآدَابَ فِي الدِّيَانَاتِ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَأَكَّدُ بِالرُّسُلِ، وَيَتَنَاصَرُ بِالْأَنْبِيَاء صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، شَرِيعَةً بَعْدَ شَرِيعَةٍ، حَتَّى خَتَمَهَا اللَّهُ بِخَيْرِ الْمِلَلِ مِلَّتِنَا، عَلَى لِسَانِ أَكْرَمِ الرُّسُلِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وَكَأَنَّ الْمَعْنَى: وَوَصَّيْنَاك يَا مُحَمَّدُ وَنُوحًا دِينًا وَاحِدًا يَعْنِي فِي الْأُصُولِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا الشَّرِيعَةُ، وَهِيَ: التَّوْحِيدُ، وَالصَّلَاةُ، وَالزَّكَاةُ، وَالصِّيَامُ، وَالْحَجُّ، وَالتَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تعالى بِصَالِحِ الْأَعْمَالِ، وَالتَّزَلُّفُ إليه بِما يَرُدُّ الْقَلْبَ وَالْجَارِحَةَ إليه، وَالصِّدْقُ، وَالْوَفَاء بِالْعَهْدِ، وَأَدَاء الْأَمَانَةِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ، وَتَحْرِيمُ الْكُفْرِ، وَالْقَتْلِ، وَالزِّنَا، وَالْإِذَايَةِ لِلْخَلْقِ، كَيْفَمَا تَصَرَّفَتْ، وَالِاعْتِدَاء عَلَى الْحَيَوَانِ كَيْفَمَا كَانَ، وَاقْتِحَامِ الدَّنَاءاتِ، وَمَا يَعُودُ بِخَرْمِ الْمُرُوءاتِ.
فَهَذَا كُلُّهُ شُرِعَ دِينًا وَاحِدًا وَمِلَّةً مُتَّحِدَةً لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاء، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَعْدَادُهُمْ، وَذَلِكَ قوله تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} أَيْ اجْعَلُوهُ قَائِمًا، يُرِيدُ دَائِمًا مُسْتَمِرًّا، مَحْفُوظًا مُسْتَقرأ، مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فِيهِ، وَلَا اضْطِرَابٍ عَلَيْهِ.
فَمِنْ الْخَلْقِ مَنْ وَفَى بِذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَكَثَ بِهِ، وَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ.
وَاخْتَلَفَتْ الشَّرَائِعُ وَرَاء هَذَا فِي مَعَانٍ حَسْبَمَا أَرَادَهُ اللَّهُ، مِمَّا اقْتَضَتْهُ الْمَصْلَحَةُ، وَأَوْجَبَتْ الْحِكْمَةُ وَضْعَهُ فِي الْأَزْمِنَةِ عَلَى الْأُمَمِ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ}.
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةٍ سُبْحَانَ وَغَيْرِهَا بِما فِيهِ كِفَايَةٌ، وَقولهُ هَاهُنَا: {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} يُبْطِلُ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قولهِ: إنَّهُ مَنْ تَوَضَّأَ تَبَرُّدًا إنَّهُ يُجْزِئْهُ عَنْ فَرِيضَةِ الْوُضُوء الْمُوَظَّفَةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ فَرِيضَةَ الْوُضُوء الْمُوَظَّفَةَ عَلَيْهِ مِنْ حَرْثِ الْآخِرَةِ، وَالتَّبَرُّدَ مِنْ حَرْثِ الدُّنْيَا؛ فَلَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَلَا تُجْزِئُ نِيَّتُهُ عَنْهُ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كالأعلام}.
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ رُكُوبِ الْبَحْرِ بِما يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ.
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى: قوله: {وَأَمْرُهُمْ} يَعْنِي بِهِ الْأَنْصَارَ، كَانُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَقَبْلَ قُدُومِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إذَا كَانَ يَهُمُّهُمْ أَمْرٌ اجْتَمَعُوا فَتَشَاوَرُوا بَيْنَهُمْ وَأَخَذُوا بِهِ، فَأَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ خَيْرًا.
المسألة الثَّانِيَةُ: الشُّورَى فَعَلَى، مِنْ شَارَ يَشُورُ شَوْرًا إذَا عَرَضَ الْأَمْرَ عَلَى الْخِيرَةِ، حَتَّى يَعْلَمَ الْمُرَادَ مِنْهُ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ رَكِبَ فَرَسًا يَشُورُهُ.
المسألة الثَّالِثَةُ: الشُّورَى أُلْفَةٌ لِلْجَمَاعَةِ، وَمِسْبَارٌ لِلْعُقول، وَسَبَبٌ إلَى الصَّوَابِ، وَمَا تَشَاوَرَ قَوْمٌ إلَّا هُدُوا.
وَقَدْ قال حَكِيمٌ: إذَا بَلَغَ الرَّأْيُ الْمَشُورَةَ فَاسْتَعِنْ بِرَأْيِ لَبِيبٍ أَوْ مَشُورَةِ حَازِمٍ وَلَا تَجْعَلْ الشُّورَى عَلَيْك غَضَاضَةً فَإِنَّ الْخَوَافِيَ نَافِعٌ لِلْقَوَادِمِ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَدَحَ اللَّهُ الْمُشَاوِرَ فِي الْأُمُورِ، وَمَدَحَ الْقَوْمَ الَّذِينَ يَمْتَثِلُونَ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُشَاوِرُ أَصْحَابَهُ فِي الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَصَالِحِ الْحُرُوبِ، وَذَلِكَ فِي الْآثَارِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يُشَاوِرْهُمْ فِي الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّهَا مُنَزَّلَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَقْسَامِ: مِنْ الْفَرْضِ، وَالنَّدْبِ، وَالْمَكْرُوهِ، وَالْمُبَاحِ، وَالْحَرَامِ.
فَأَمَّا الصَّحَابَةُ بَعْدَ اسْتِئْثَارِ اللَّهِ بِهِ عَلَيْنَا فَكَانُوا يَتَشَاوَرُونَ فِي الْأَحْكَامِ، وَيَسْتَنْبِطُونَهُ ا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ وَإِنَّ أَوَّلَ مَا تَشَاوَرَ فِيهِ الصَّحَابَةُ الْخِلَافَةَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا حَتَّى كَانَ فِيهَا بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَالْأَنْصَارِ مَا سَبَقَ بَيَانُهُ.
وَقال عُمَرُ: نَرْضَى لِدُنْيَانَا مَنْ رَضِيَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِدِينِنَا.
وَتَشَاوَرُوا فِي أَمْرِ الرِّدَّةِ، فَاسْتَقَرَّ رَأْيُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى الْقِتَالِ.
وَتَشَاوَرُوا فِي الْجَدِّ وَمِيرَاثِهِ، وَفِي حَدِّ الْخَمْرِ وَعَدَدِهِ عَلَى الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَتَشَاوَرُوا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحُرُوبِ، حَتَّى شَاوَرَ عُمَرَ الْهُرْمُزَانَ حِينَ وَفَدَ عَلَيْهِ مُسْلِمًا فِي الْمَغَازِي، فَقال لَهُ.
الْهُرْمُزَانُ: إنَّ مَثَلَهَا وَمَثَلَ مَنْ فِيهَا مِنْ عَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُ طَائِرٍ لَهُ رَأْسٌ وَلَهُ جَنَاحَانِ وَرِجْلَانِ، فَإِنْ كُسِرَ أَحَدُ الْجَنَاحَيْنِ نَهَضَتْ الرِّجْلَانِ بِجَنَاحٍ وَالرَّأْسِ، وَإِنْ كُسِرَ الْجَنَاحُ الْآخَرُ نَهَضَتْ الرِّجْلَانِ وَالرَّأْسُ، وَإِنْ شُدِخَ الرَّأْسُ ذَهَبَتْ الرِّجْلَانِ وَالْجَنَاحَانِ، وَالرَّأْسُ كِسْرَى وَالْجَنَاحُ الْوَاحِدُ قَيْصَرُ، وَالْآخَرُ فَارِسُ.
فَمُرْ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَنْفِرُوا إلَى كِسْرَى وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ وَقال بَعْضُ الْعُقَلَاء: مَا أَخْطَأْت قَطُّ؛ إذَا حَزَبَنِي أَمْرٌ شَاوَرْت قَوْمِي، فَفَعَلْت الَّذِي يَرَوْنَ، فَإِنْ أَصَبْت فَهُمْ الْمُصِيبُونَ، وَإِنْ أَخْطَأْت فَهُمْ الْمُخْطِئُونَ، وَهَذَا أَبْيَنُ مِنْ إطْنَابٍ فِيهِ.
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ إذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ}.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة ُ الْأُولَى:
ذَكَرَ اللَّهُ الِانْتِصَارَ فِي الْبَغْيِ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ، وَذَكَرَ الْعَفْوَ عَنْ الْجُرْمِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ؛ فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا رَافِعًا لِلْآخَرِ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ رَاجِعًا إلَى حَالَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا أَنْ يَكُونَ الْبَاغِي مُعْلِنًا بِالْفُجُورِ، وَقِحًا فِي الْجُمْهُورِ، مُؤْذِيًا لِلصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، فَيَكُونَ الِانْتِقَامُ مِنْهُ أَفْضَلَ.
وَفِي مِثْلِهِ قال إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: يُكْرَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُذِلُّوا أَنْفُسَهُمْ، فَيَجْتَرِئَ عَلَيْهِمْ الْفُسَّاقُ.
الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْفَلْتَةَ، أَوْ يَقَعَ ذَلِكَ مِمَّنْ يَعْتَرِفُ بِالزَّلَّةِ، وَيَسْأَلُ الْمَغْفِرَةَ، فَالْعَفْوُ هَاهُنَا أَفْضَلُ، وَفِي مِثْلِهِ نَزَلَتْ: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} وقوله تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ}.
وَقولهُ: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}.
المسألة الثَّانِيَةُ:
قال السُّدِّيُّ: إنَّمَا مَدَحَ اللَّهُ مَنْ انْتَصَرَ مِمَّنْ بَغَى عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِدَاء بِالزِّيَادَةِ عَلَى مِقْدَارِ مَا فَعَلَ بِهِ يَعْنِي كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ؛ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قولهُ تعالى: {وَجَزاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} فَبَيَّنَ فِي آخِرِ الْآيَةِ الْمُرَادَ مِنْهَا، وَهُوَ أَمْرٌ مُحْتَمَلٌ.
وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَهِيَ الْآيَةُ السَّادِسَةُ.
الْآيَةُ السَّابِعَةُ: قوله تعالى: {إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى:
هَذِهِ الْآيَةُ فِي مُقَابَلَةِ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي (بَرَاءةٌ)، وَهِيَ قولهُ: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} فَكَمَا نَفَى اللَّهُ السَّبِيلَ عَمَّنْ أَحْسَنَ فَكَذَلِكَ أَثْبَتَهَا عَلَى مَنْ ظَلَمَ، وَاسْتَوْفَى بَيَانَ الْقِسْمَيْنِ.
المسألة الثَّانِيَةُ:
رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ، وَسُئِلَ عَنْ قول سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: لَا أُحَلِّلُ أَحَدًا.
فَقال: ذَلِكَ يَخْتَلِفُ.
فَقُلْت: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، الرَّجُلُ يُسَلِّفُ الرَّجُلَ فَيَهْلِكُ، وَلَا فَاء لَهُ.
قال: أَرَى أَنْ يُحَلِّلَهُ، وَهُوَ أَفْضَلُ عِنْدِي لِقول اللَّهِ تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} وَلَيْسَ كُلَّمَا قال أَحَدٌ وَإِنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ يُتْبَعُ.
فَقِيلَ لَهُ: الرَّجُلُ يَظْلِمُ الرَّجُلَ، فَقال: لَا أَرَى ذَلِكَ، وَهُوَ مُخَالِفٌ عِنْدِي لِلْأَوَّلِ، لِقول اللَّهِ تعالى: {إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ}، وَيَقول تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} فَلَا أَرَى أَنْ تَجْعَلَهُ مِنْ ظُلْمِهِ فِي حِلٍّ.
قال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَصَارَ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا لَا يُحَلِّلُهُ بِحَالٍ؛ قالهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ.
وَالثَّانِي: يُحَلِّلُهُ؛ قالهُ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ.
الثَّالِثُ إنْ كَانَ مَالًا حَلَّلَهُ، وَإِنْ كَانَ ظُلْمًا لَمْ يُحَلِّلْهُ؛ وَهُوَ قول مَالِكٍ.
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَلَّا يُحَلِّلَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، فَيَكُونَ كَالتَّبْدِيلِ لِحُكْمِ اللَّهِ.
وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ حَقُّهُ؛ فَلَهُ أَنْ يُسْقِطَهُ كَمَا يُسْقِطُ دَمَهُ وَعَرْضَهُ.
وَوَجْهُ الثَّالِثِ الَّذِي اخْتَارَهُ مَالِكٌ هُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا غُلِبَ عَلَى حَقِّك فَمِنْ الرِّفْقِ بِهِ أَنْ تُحَلِّلَهُ، وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا فَمِنْ الْحَقِّ أَلَّا تَتْرُكَهُ لِئَلَّا يَغْتَرَّ الظَّلَمَةُ، وَيَسْتَرْسِلُوا فِي أَفْعَالِهِمْ الْقَبِيحَةِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ الصَّامِتِ قال: خَرَجْت أَنَا وَأَبِي نَطْلُبُ الْعِلْمَ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنْ الْأَنْصَارِ قَبْلَ أَنْ يَهْلِكُوا، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ لَقِيَنَا أَبُو الْيُسْرِ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ غُلَامٌ لَهُ مَعَهُ ضِمَامَةٌ مِنْ صُحُفٍ وَعَلَى أَبِي الْيُسْرِ بُرْدَةٌ وَمَعَافِرِيٌّ، وَعَلَى غُلَامِهِ بُرْدَةٌ وَمَعَافِرِيٌّ، فَقال لَهُ أَبِي: أَيْ عَمُّ؛ أَرَى فِي وَجْهِك سُفْعَةً مِنْ غَضَبٍ.
فَقال: أَجَلْ، كَانَ لِي عَلَى فُلَانٍ ابْنِ فُلَانٍ الْحَرَامِيِّ دَيْنٌ، فَأَتَيْت أَهْلَهُ فَسَلَّمْت، وَقُلْت: أَثَمَّ هُوَ؟ قالوا: لَا، فَخَرَجَ عَلَيَّ ابْنٌ لَهُ جَفْرٌ، قُلْت لَهُ: أَيْنَ أَبُوك، فَقال: سَمِعَ صَوْتَك فَدَخَلَ أَرِيكَةَ أُمِّي، فَقُلْت: اُخْرُجْ إلَيَّ، فَقَدْ عَلِمْت أَيْنَ أَنْتَ، فَخَرَجَ، فَقُلْت لَهُ: مَا حَمَلَك عَلَى أَنْ اخْتَبَأْت مِنِّي؟ قال: أَنَا وَاَللَّهِ أُحَدِّثُك، ثُمَّ لَا أَكْذِبُك، خَشِيت وَاَللَّهِ أَنْ أُحَدِّثَك فَأَكْذِبَك، وَأَعِدُك فَأُخْلِفُك، وَأَنْتَ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكُنْت وَاَللَّهِ مُعْسِرًا. قال: فَقُلْت: آللَّهُ، قال: آللَّهُ. قُلْت: آللَّهُ، قال: آللَّهُ، قال: فَقُلْت: آللَّهُ، قال: آللَّهُ. قال: فَأَتَى بِصَحِيفَتِهِ فَمَحَاهَا بِيَدِهِ. قال: إنْ وَجَدْت قَضَاء فَاقْضِ، وَإِلَّا فَأَنْتَ فِي حِلٍّ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَهَذَا فِي الْحَيِّ الَّذِي يُرْجَى لَهُ الْأَدَاء لِسَلَامَةِ الذِّمَّةِ، وَرَجَاء التَّحَلُّلِ، فَكَيْفَ بِالْمَيِّتِ الَّذِي لَا مَحَالَةَ مَعَهُ، وَلَا ذِمَّةَ مَعَهُ، الْآيَةُ الثَّامِنَةُ قوله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السماوات وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاء عَقِيمًا إنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
المسألة ُ الْأُولَى:
فِي الْمُرَادِ بِالْآيَةِ: قال عُلَمَاؤُنَا: قوله: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إنَاثًا} يَعْنِي لُوطًا كَانَ لَهُ بَنَاتٌ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ابْنٌ وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاء الذُّكُورَ إبْرَاهِيمُ كَانَ لَهُ بَنُونَ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ بِنْتٌ.
وَقولهُ: {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} يَعْنِي آدَمَ، كَانَتْ حَوَّاء تَلِدُ لَهُ فِي كُلِّ بَطْنٍ وَلَدَيْنِ تَوْأَمَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى؛ فَيُزَوِّجُ الذَّكَرَ مِنْ هَذَا الْبَطْنِ مِنْ الْأُنْثَى مِنْ هَذَا الْبَطْنِ الْآخَرِ، حَتَّى أَحْكَمَ اللَّهُ التَّحْرِيمَ فِي شَرْعِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَكَذَلِكَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَهُ ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ، مِنْ الْأَوْلَادِ: الْقَاسِمُ، وَالطَّيِّبِ، وَالطَّاهِرِ، وَعَبْدِ اللَّهِ؛ وَزَيْنَبَ، وَأُمُّ كُلْثُومٍ، وَرُقَيَّةُ، وَفَاطِمَةَ؛ وَكُلُّهُمْ مِنْ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَإِبْرَاهِيمَ وَهُوَ مِنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ.
وَكَذَلِكَ قَسَّمَ اللَّهُ الْخَلْقَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إلَى زَمَانِنَا إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْمَحْدُودِ بِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ وَمَشِيئَتِهِ النَّافِذَةِ، لِيَبْقَى النَّسْلُ، وَيَتَمَادَى الْخَلْقُ، وَيَنْفُذُ الْوَعْدُ، وَيَحِقُّ الْأَمْرُ، وَتَعْمُرُ الدُّنْيَا، وَتَأْخُذُ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَا يَمْلَأُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَيَبْقَى؛ فَفِي الْحَدِيثِ: «إنَّ النَّارَ لَنْ تَمْتَلِئَ حَتَّى يَضَعَ الْجَبَّارُ فِيهَا قَدَمَهُ، فَتَقول قَطُّ قَطُّ وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَتَبْقَى فَيُنْشيء اللَّهُ لَهَا خَلْقًا آخَرَ».
المسألة الثَّانِيَةُ:
إنَّ اللَّهَ لِعُمُومِ قُدْرَتِهِ وَشَدِيدِ قُوَّتِهِ يَخْلُقُ الْخَلْقَ ابْتِدَاء مِنْ غَيْرِ شَيْء، وَبِعَظِيمِ لُطْفِهِ وَبَالِغِ حِكْمَتِهِ يَخْلُقُ شَيْئًا مِنْ شَيْء لَا عَنْ حَاجَةٍ، فَإِنَّهُ قُدُّوسٌ عَنْ الْحَاجَاتِ، سَلَامٌ عَنْ الْآفَاتِ، كَمَا قال الْقُدُّوسُ السَّلَامُ، فَخَلَقَ آدَمَ مِنْ الْأَرْضِ، وَخَلَقَ حَوَّاء مِنْ آدَمَ، وَخَلَقَ النَّشْأَةِ مِنْ بَيْنَهُمَا مِنْهُمَا، مُرَتَّبًا عَنْ الْوَطْء كَائِنًا عَنْ الْحَمْلِ، مَوْجُودًا فِي الْجَنِينِ بِالْوَضْعِ، كَمَا قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إذَا سَبَقَ مَاء الرَّجُلِ مَاء الْمَرْأَةِ أَذْكَرَا، وَإِذَا سَبَقَ مَاء الْمَرْأَةِ مَاء الرَّجُلِ أَنَّثَا».
وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا «إذَا عَلَا مَاء الرَّجُلِ مَاء الْمَرْأَةِ أَشْبَهَ الْوَلَدُ أَعْمَامَهُ، وَإِذَا عَلَا مَاء الْمَرْأَةِ مَاء الرَّجُلِ أَشْبَهَ الْوَلَدُ أَخْوَالَهُ».
وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَ ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ بِما لُبَابُهُ أَنَّهَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: ذَكَرٌ يُشْبِهُ أَعْمَامَهُ.
أُنْثَى تُشْبِهُ أَخْوَالَهَا.