فصل: مطلب: هوان الدنيا عند اللّه وأهل اللّه وتناكر القرينين يوم القيامة والإشارة بأن الخلافة القريش وما نزل في بيت المقدس:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال تعالى على طريق الاستفهام الإنكاري {أَمِ اتَّخَذَ} لنفسه {مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ} وأنتم أيها الكفرة تأنفون منهن {وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ} 16 منهم أي كيف يؤثركم على نفسه لأن من يقدر على الاتخاذ يتخذ لنفسه الأحسن فكيف يجدر بهم أن يقولوا هذا {وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا} من جنس البنات وآثر ذكر الرحمن إعلاما بأنه لولا سبق رحمته وسعتها لأهلكهم بهذا القول الذي لا يجوز نسبته له تعالى: {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} صار مكفهرا من سوء ما بشر به {وَهُوَ كَظِيمٌ} 17 مملوء كربا وشدة حزن وغيظ وغم بحيث لا يكاد يتحمل أكثر مما هو فيه، قيل إن بعض العرب هجر زوجته لأنها جاءت ببنت فخاطبته بقولها:
ما لأبي حمزة لا يأتينا ** يظل في البيت الذي يلينا

غضبان أن لا نلد البنينا ** ليس لنا من أمرنا ماشينا

وإنما نأخذ ما أعطينا ** حكمة رب ذي اقتدار فينا

فلم يرد عليها لشدة غضبه.
قال تعالى توبيخا لهؤلاء الكفرة {أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا} بالتشديد مبينا للمفعول وقرىء بالتخفيف وقرىء يناشأ بالمفعول أيضا بمعنى الإنشاء.
كالمغالات بمعنى الاغلاء أي يتربّى {فِي الْحِلْيَةِ} الزينة يريد البنات لأنهن يزخرفن بالحليّ ليرغب فيهن أو باعتبار أنهن ناقصات، ولهذا احتجن للتزيين {وَهُوَ} جنس البنات {فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ} 18 لضعف حالهن وقلة عقولهن، أي ألا ينسبوا للّه الولد الذكر القادر علي الخصومة والإتيان بالبرهان والحجة إذا كانوا لابد ناسبين له تعالى ولدا، تعالى عن ذلك، أفضلوا أنفسهم عليه فجعلوا له البنت ولهم الولد، قاتلهم اللّه.
وما قيل إن هذه الآية بالأصنام لأنهم كانوا يزينونها بالذهب والفضة، يبعده قوله: {فِي الْخِصامِ} لأن الأصنام جامدة لا تخاصم ولا توصف بشيء من الأنانية، والكلام وارد على تقبيح قولهم، وانهم من عادتهم المناقضة في أقوالهم ورميهم القول بغير علم رجما بالغيب.
وتشير هذه الآية على النشء في الزينة والنعومة بالعيش من المعايب والمذام، لأنه من صفات ربات الحجال فعلى الشهم أن يتباعد عن ذلك ويأنف عنه ويربأ بنفسه عن التشبه بهن ويعيش كما قال عمر رضي اللّه عنه: اخشوشنوا في اللباس واخشوشنوا في الطعام وتمعددوا، فإن الحاضرة لا تدوم، أي تزيّوا بزيّ خشن الطعام واللباس، لأن كلمة تمعددوا تأتي لثلاث معان: التزيّيّ بزيّ الغير، والبرء من المرض يقال تمعدد إذا برىء، والضعيف إذا أخذ بالسمن يقال له تمعدد أيضا كما في القاموس، والأول هو المنطبق على المعنى المراد واللّه أعلم.
هذا، وإذا أراد أن يزين نفسه فليحلها بلباس التقوى قال تعالى: {وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ} الآية 26 من الأعراف في ج 1، وقال عليه السلام: «ليس للمؤمن ان يذلّ نفسه»، وإنما زينة الرجل الصبر على طاعة اللّه والتزين بزينة التقوى، وإن كان لابد فاعلا ومقلدا غيره فليتزين بما أحلّ اللّه له من اللباس لا غير على أن لا يتشبه بما هو من خصائص النساء، لأن ذلك من التخنّث الذي تأباه مروءة المؤمن، وقد جمع الكفرة في مقالتهم هذه ثلاث كفرات:
نسبوا إلى اللّه الولد وهو كفر، ونسبوا إليه أخس النوعين وهو كفر مزدوج لما فيه من الإهانة بنسبة شيء لجلاله لا يرضونه لأنفسهم، وجعلوا هذه البنات المشئومات من الملائكة وهو كفر لاستخفافهم بالملائكة وتسميتهم إناثا وهم ليسوا بإناث بل هم جنس خاص لا يوصف بأنوثة ولا بذكورة، لذلك شنع اللّه عليهم بقوله عز قوله: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} حتى يجزموا بذلك وهذا تهكم بهم لأنهم لم يشهدوا خلقهم وإنما قالوه جرأة على اللّه قاتلهم اللّه {سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ} هذه على إفكهم هذا {وَيُسْئَلُونَ} 19 عنه يوم القيامة.
نزلت هذه الآية حينما قال لهم حضرة الرسول وما يدريكم أن الملائكة إناث؟ قالوا سمعناه من آبائنا ونشهد أنهم لم يكذبوا، فوبخهم اللّه على ذلك وعلى قولهم {وَقالوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ} أي الملائكة والأصنام، والسياق يؤيد الأول إذ لم يسبق للأصنام ذكر، وقد استدلوا بنفي مشيئة اللّه ترك عبادتها على امتناع النهي عنها أو على حسنها، وقالوا إن اللّه لم يشأ ترك عبادتها، ولو شاء لتحققت مشيئته ولعجل عقوبتنا على عبادتها، بل إنه شاء عبادتها لأنها متحققة، فتكون مأمورا بها أو حسنة، ويمتنع أن تكون منهيا عنها أو قبيحة.
وهذا استدلال باطل لأن المشيئة لا تستلزم الأمر أو الحسن لأنها عبارة عن ترجيح بعض الممكنات على بعض حسنا كان أو قبيحا، وقد استدلت المعتزلة فيها أيضا على أن اللّه تعالى لم يشأ الكفر من الكافر وإنما شاء الإيمان لأن الكفار ادعوا أن اللّه تعالى شاء منهم الكفر وما شاء منهم ترك عبادة الأوثان لقولهم {لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ} أي لو شاء منا ترك عبادتها لمنعنا من عبادتها ولكن شاء عبادتها فلم يمنعنا، فوبخهم اللّه تعالى ورد عليهم قولهم واعتقادهم بقوله: {ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ} البتة بدلالة التنكير والتأكيد بحرف الجر {إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} 20 يحزرون ظنا وتخمينا وهو كذب محض لأن اللّه تعالى لم يشأ عبادتها ولم يرض بها ولم يستحسنها، وعدم تعجيل العقوبة هو عدم حلول الأجل المعين لها وسبق الكلمة منه تعالى بذلك، راجع ما تقدم في الآية 163 من الصافات المارة، لأن اللّه تعالى قدر لكل ما يقع في كونه وقتا لا يتعداه ولا يسبقه.
قال تعالى: {أَمْ آتَيْناهُمْ كِتابًا مِنْ قَبْلِهِ} أي القرآن ذكرنا لهم فيه ما يزعمونه {فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} 21 كلا لم نأتهم بكتاب ولم نرسل لهم رسولا بعد إسماعيل غير محمد وحيث لم يكن لهم حجة يتمسكون بها من حيث العيان ولا من حيث العقل ولا من حيث السمع، وإنما حجتهم التقليد المحض المشار إليه بقوله عزّ وجل: {بَلْ قالوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ} طريقة مأخوذة من الأم وهو القصد وتطلق على الدين لأنه يؤم أي يقصد ويقتدى به يقال فلان لا أمّة له أي لا دين له ولا نحلة، قال قيس بن الحطيم:
كنا على أمة آبائنا ** ويقتدي بالأول الآخر

وقال غيره: وهل يستوي ذو أمة وكفور.
وقيل الأمة بمعنى الجماعة وهو كذلك، إلا أنه لا يتجه هنا {وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ} 22 باتباعهم التقليدي فقط، أخبر اللّه حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم بأن قومه مسبوقون بمقالتهم هذه وأنهم ما يقولونها إلا تقليدا لآبائهم كما أن اتّباعهم تقليدي عار عن البرهان على صحة بقوله جل قوله: {وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قال مُتْرَفُوها} رؤساؤها وأغنياؤها {إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ} 23 وقومك كذلك معترفون بهذا التقليد وهو داء قديم فيهم لا يعدل عنه إلا من وفقه اللّه، وفيه تسلية لحضرة الرسول، لأن ما يسمعه من قومه سجية فيهم تناقلوها دون سند أو حجة أو دليل، فيا أكرم الرسل {قل} لهؤلاء المتنطعين {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى} بدين أصوب وأعدل وأقوم {مِمَّا} من الدين الذي {وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ} وأحسن منه وأيسر ألا تقبلونه وتتركون دين آبائكم، فأجابوه بما حكى اللّه عنهم رأسا دون ترو بالأمر {قالوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ} 24 لسوء حظهم وسبق شقائهم، قالوا هذه المقالة القبيحة ولم يوفقوا أن يقولوا يتبعك إذ جئننا بدين خير من ديننا ودين آبائنا، وهذا كقول قوم صالح (إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) الآية 76 من الأعراف، قاتلهم اللّه تشابهت قلوبهم، ويشير عدم توفيقهم لقول الحق الذي به نفعهم ما جاء في الآية 32 من سورة الأنفال ج 2، قال تعالى: {فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ} إذ آثروا الكفر على الإيمان باختيارهم ورضاهم {فَانْظُرْ} يا سيد الرسل {كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} 25 من الإهلاك والتدمير {وَ} اذكر لقومك يا محمد {إِذْ قال إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} 26 من الأوثان وإني لا أعبد {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} 17 إلى دينه القويم الحق وطريقه المستقيم الصدق {وَجَعَلَها كَلِمَةً} أي جعل براءته تلك من الأوثان {باقِيَةً}تردد {فِي عَقِبِهِ} ذريته وبعض من بعده وهي كلمة لا إله إلا اللّه، لأن قوله (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) جاريا مجرى لا إله وقوله (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) جاريا مجرى إلا اللّه، فلا يزالون يلهجون بها ويوحدون اللّه بالعبادة {لَعَلَّهُمْ} إذا تلقوها عنه عقبا بعد عقب، وقد أشرك بعضهم فلم يقلها {يَرْجِعُونَ} 28 عن الشرك إلى التوحيد اقتداء بجدهم الكريم، وان من أشرك منهم يرجع إلى اللّه بدعاء من وجد منهم، لأن ذريته عليه السلام لم تخل قط ممن يوحد اللّه ويدعو إليه منذ نشأ إلى يومنا هذا، وإلى يوم القيامة إن شاء اللّه القائل {بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ} قومك يا محمد {وَآباءَهُمْ} من قبلهم بالنعم المترادفة ولم أعاقبهم {حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ} من عندنا وهو القرآن {وَرَسُولٌ مُبِينٌ} 29 موضح لهم الحق من الباطل من الأحكام والحدود والأخبار {وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ} بدل أن يصدقوه {قالوا هذا سِحْرٌ} قد افتريته من عندك يا محمد {وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ} 30 فزادوا بالطين بلة والنار شرارة إذ ضموا العناد إلى الكفر والاستخفاف إلى البهت، فسموا القرآن سحرا وكفروا به، وسموا الرسول ساحرا وكذبوه.
{وَقالوا} فوق ذلك كله مفترحين علينا رأيهم الفاسد {لَوْلا نُزِّلَ هذَا القرآن عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} 31 صفة لرجل، وفيه دليل على جواز الفصل بين الصفة والموصوف يريدون أعماهم اللّه الوليد بن المغيرة من قريش مكة وعروة ابن مسعود من الطائف من ثقيف، فرد اللّه تعالى عليهم مؤنبا لهم جرأتهم هذه {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} كلا لا حقّ لهم بذلك ولم تكن النبوة خاصة بالأشراف والأغنياء الذين يزعمون، وإنما هي فضل اللّه يختص به من يشاء من عباده الذين هم أهل لها، قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ} الآية 125 من الأنعام المارة، فهو أعلم بمن يصطفيه لها، ثم ضرب مثلا بقوله عز قوله: {نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} فجعلنا هذا غنيا وهذا فقيرا وهذا شريفا وهذا حقيرا {وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ} متفاوتة في الأموال والأولاد والنسب والعشرة والجاه والمنصب {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} في مصالحهم ويستخدموهم بأشغالهم حتى يتعايشوا وبترافدوا.
وهذا لا لكمال في الموسع عليه ولا لنقص في المفتر عليه، بل ليستقيم نظام العالم، ولولا ذلك لما سخر أحد لأحد، ولأفضى الحال إلى خراب الكون، إذ لا يستغني أحد عن معاونة الآخر، وفي التساوي تنعدم الفائدة، إذ لا ينقاد أحد لغيره، فعلى العاقل أن يتدرج في هذه الدنيا ولا ينظر إلى ما يجمعه الأغنياء من الحطام، بل ينظر إلى ما هو نافع له في عقباد {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} 32 لأنهم وما يجمعونه فان ورحمة اللّه باقية، وهذا مما يزهد في الانكباب على الدنيا ويعين على التوكل والانقطاع إليه تعالى، قال ابن الوردي:
فاعتبر نحن قسمنا بينهم ** تلقه حقا وبالحق نزل

ويرحم اللّه الشافعي إذ يقول:
فأعددت للموت الإله وعفوه ** وأعددت للفقر التجلد والصبرا

فمن تمسك بهاتين العدّتين أمن من هول الدارين وفاز بالنجاة.

.مطلب: هوان الدنيا عند اللّه وأهل اللّه وتناكر القرينين يوم القيامة والإشارة بأن الخلافة القريش وما نزل في بيت المقدس:

قال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً} فيجتمعون على الكفر ويطبقون عليه رغبة فيه إذا رأوا السعة عند الكفرة {لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ} مصاعد من فضة أيضا {عَلَيْها يَظْهَرُونَ} 33 إلى العلو كالدرج والسلم الذي يصعد عليه للعلو {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوابًا} من فضة أيضا {وَسُرُرًا} من فضة {عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ} 34 خصّ السرر لأنها مما يجلس عليها المنعّمون {وَزُخْرُفًا} وجعلنا ذلك كله مزينا بالذهب والجواهر مرصعا بالأحجار الكريمة {وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا} يتمتع بها الإنسان مدة حياته أو بعضها ثم تذهب بذهابه وهي سريعة الزوال خاصة عند فقدان الشكر {وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} 35 الكفر والمعاصي الصارفين جوارحهم وأموالهم في رضاء اللّه فهذه هي النعم الدائمة التي يجب أن يمتع بها المؤمن قال:
تمتع من شميم عرار نجد ** فما بعد العشية من عرار

العرار وردة طيبة الرائحة ناعمة وكان القائل مر بها قبل العشية وهو سائر، فإذا لم يشمها في ذلك الوقت فاته ريحها، فكذلك الإنسان إذا لم يمتع نفسه في هذه الدنيا بالعمل الصالح وهو قادر عليه فاته ذلك بالسقم والهرم والموت على حين غرة فيندم ولات حين مندم، لذلك يجب على العاقل أن لا يضيع الفرص بالتسويف والتأني.
وليعلم أن الدنيا بما فيها كله زهيد عند اللّه تعالى ولذلك يقول في صدر هذه الآية {لَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ} إلخ أي لأعطيت الكفار أكثر أسباب الحياة المفيدة للرزق ليتنعموا بها في هذه الدنيا الحقيرة، ولكن لم نفعل ذلك لئلا تزداد الرغبة في الكفر، وتشير هذه الآية إلى الإعراض عن الدنيا وزينتها والتحريض على التقوى والتمسك بالدين القويم.
أخرج الترمذي وصححه وابن ماجه عن سهل بن سعد قال قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «لو كانت الدنيا تعدل عند اللّه جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء».
وعن علي كرم اللّه وجهه قال: الدنيا أحقر من ذراع خنزير ميت بال عليه كلب في يد مجذوم.
هذا، وأخذ من هذه الآية قاعدة شرعية وهي إذا كان بناء سفلي لرجل وعليه بناء علوي لآخر فيكون السقف لرب البيت الأسفل لا لصاحب العلو لأنه منسوب إلى البيت.
وقرىء سقفا بضمتين وبضم وسكون وفتح وسكون.
وأخرج الترمذي بحديث حسن عن المسور بن شداد جدّ بنى فهر قال:«كنت في الركب الذين وقفوا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على السخلة الميتة، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أترون هذه هانت على أهلها حين ألقوها؟ قالوا من هوانها ألقوها يا رسول اللّه، قال فإن الدنيا أهون على اللّه تعالى من هذه الشاة على أهلها».
وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر».
راجع الآية 104 من سورة يوسف المارة تعلم هذا.
وان اللّه تعالى لم يعط الكفرة جميع الأسباب المفضية للنعم كراهية أن يرغبوا فيها فتؤدي بهم إلى الكفر حين يرون أهله منعمين، فيتوهمون أن ذلك لفضيلة فيهم.
قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ} فلم يذكره عند شدّته ورخائة ويعش بضم الشين بمعنى يتعامى ويتجاهل، وقرىء بفتح الشين أي يعمى، والفرق بينهما أن الأول من عشا يعشو إذا نظر ولا آفة في بصره، والثاني عشي يعشى إذا كان في بصره آفة فلا يكاد يبصر جيدا، إذ يصير على عينيه كالضباب، ونظيره عرج بضم الراء لمن به عرج حقيقة، وعرج بفتحها لمن مشى مشية الأعرج من غير آفة في رجله، وفعل يعش هذا من الأول أي يتعامى {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطانًا} يحمله على الغفلة عن ذكره ويسوقه إلى الهفوات في أقواله وأفعاله {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} 36 لا يفارقه أبدا فيزين له العمى ويخيل له أنه على الهدى حتى يستولي عليه، فيجب على الإنسان المسارعة لفعل الخير والتملّي في ذكر اللّه بعين بصره وبصيرته، ولا يترك للشيطان مجالا في قلبه ليستولي، ولهذا فإن من يداوم على ذكر الرحمن يتباعد عنه الشيطان فلا يقربه مادام ذاكرا له.
قال تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ} يصدون العاشين {عَنِ السَّبِيلِ} السوي والهدى والرشد {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 37 بسبب وساوسه ودسائسه يريهم الشر خيرا والإيمان كفرا، وقد جمع الضمير في أنهم لأن من مبهمة في جنس العاشي، ولفظ شيطان مبهم في جنسه أيضا، فأرجع الضمير في أنهم الذي يعود على الشيطان مجموعا لذلك، ولأن من باعتبار معناها تدل على الجمع {حَتَّى إِذا جاءَنا} وقرأ بعضهم جاءنا أي العاشي وقرينه {قال} العاشي لقرينه اذهب عني {يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} غلب المشرق على المغرب كما غلب القمر على الشمس في القمرين، أو أنه أراد مشرق الصيف ومشرق الشتاء، لما بينهما من البعد، والأول أبلغ لأنه المتعارف ولأنه أكبر بعدا، أي انك أهلكتني بمقارننك في الدنيا، ليتني لم أتعرف عليك {فَبِئْسَ الْقَرِينُ} 38 أنت، قال تعالى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ} العتاب والمجادلة والحذر من قرب بعضكم لبعض {إِذْ ظَلَمْتُمْ} أنفسكم بالأمس أي الدنيا ولم تذكروا يومكم هذا الذي منه حذركم أنبياؤكم {أَنَّكُمْ} اليوم {فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ} 39 كما كنتم في الدنيا مشتركين بالكفر، قالوا إن عموم البلوى بطيب القلب، وعلى هذا قول الخنساء في بعض رثائها لأخيها صخر: