فصل: مطلب في عيسى عليه السلام أيضا وفي الصحبة وماهيتها ووصف الجنة وهل فيها توالد أم لا؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَإِنَّهُ} عيسى ابن مريم {لَعِلْمٌ} علامة {لِلسَّاعَةِ} أي نزوله من محل رفعه علامة على قرب القيامة، وهذه الآية صريحة بأن سيدنا عيسى سينزل من السماء إلى الأرض التي رفع منها، ويؤيد هذا ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد».
وفي رواية أبي ذرّ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «ليس بيني وبين عيسى نبي وانه نازل فيكم فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ينزل بين ممصّرتين (المحصرة من الثياب التي فيها صفرة خفية) كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل (أي أن له لمعانا وبريقا خلقة) فيقاتل الناس على الإسلام، يدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويهلك اللّه تعالى في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك الدجال، ثم يمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون».
وعنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم وفي رواية فامامكم منكم قال ابن ذؤيب فأمّكم بكتاب ربكم عز وجل وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم».
ويروى أنه ينزل على تينة من الأرض المقدسة يقال لها أفيق (وهذه واقعة على بحيرة طبرية وهي مركز قضاء الزوية الآن من أعمال حوران ويحتمل أن رفعه كان منها) وبيده حربة وهي التي يقتل فيها الدجال فيأتي بيت المقدس والناس في صلاة العصر فيتأخر الإمام فيقوم عيسى ويصلي خلفه علي شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ثم يقتل الخنزير ويكسر الصليب ويخرب البيع والكنائس (المراد بتخريبها إزالة ما فيها من الصور والتماثيل وقلبها إلى مساجد عادية أو أنه يهدمها جزاء لما وقع فيها من المحرمات) ويقتل النصارى إلا من آمن أي آمن به ومشى على شريعته التي يقوم فيها في الأرض وهي شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة أيضا قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «ينزلنّ ابن مريم حكما عدلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية وليتركن القلاص فلا يسقى عليها وليذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد».
وقرأ ابن عباس {لعلم} بفتح العين واللام أي علامة على الساعة، وهذه القراءة كالتفسير لعلم بكسر الغين وسكون اللام بأنه بمعنى العلامة وهي قراءة جائزة ولو كانت على خلاف ما عليه المصاحف إذ لا زيادة فيها ولا نقص، أما ما جاء بأن أبيا قرأ {وإنه لذكر للساعة} فلا يجوز لأنها تخالف رسم القرآن وحروفه أيضا، وكل قراءة هذا شأنها لا عبرة بها ولا قيمة لنقلها كما أشرنا إلى ذلك غير مرة، وإن القراءات السبع كلها لا تخالف القرآن رسما ولا حروفا، وما جاء فيها من مد المقصور وقصر الممدود وإشباع بعض الحروف بالحركات واختلاس بعض الحركات ونقلها لما بعدها وحذفها مثل بامركم وفي الأرض وبامركمو وما أشبه ذلك فلا بأس به، إذ لا تبديل لأصل الكلمة ولا زيادة ولا نقص، تدبر.
هذا وإن السيد عيسى عليه السلام كما أنه ثبت رفعه إلى السماء بالآية القرآنية 158 من سورة النساء في ج 3 وبالأحاديث الصحيحة، كذلك نزوله ثبت في هذه الآية وبالأحاديث الصحيحة المار ذكرها، وأنه عليه السلام يعمل بالشريعة المحمدية ويأخذ أحكامه من الكتاب والسنة، وقال بعضهم إنه يأخذ الأحكام من نبينا عليه الصلاة والسلام شفاها بدليل حديث أبي يعلى الذي فيه: «والذي نفسي بيده لينزلن عيسى بن مريم، ثم لئن قام على قبري وقال يا محمد لأجيبنّه».
وقد تجتمع روحانيته بروحانيته ويأخذ عنه، وقد وقع لكثير من الكاملين رؤيته صلى الله عليه وسلم مناما والأخذ منه، كما وقع لبعضهم رؤيته يقظة والأخذ عنه كالشيخ عبد القادر الجبلي والشيخ خليفة بن موسى النهر ملكي والشيخ أبي العباس المرسي وغيرهم، وواقعة الرفاعي رحمه اللّه مشهورة متواترة حينما زار قبره الشريف وقال بحضور جماعة لا يحتمل تواطؤهم على الكذب:
في حالة البعد روحي كنت أرسلها ** تقبل الأرض عني وهي نائبتي

وهذه دولة الأشباح قد حضرت ** فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي

فمدها صلى الله عليه وسلم وقبلها بحضور جم غفير وتناقلتها الركبان وشاع خبرها في مشارق الأرض ومغاربها، وألفت فيها الرسائل والمدائح، وقد رد الجلال السيوطي على منكري ذلك مستدلا بالحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي».
وأخرج الطبراني مثله من حديث مالك بن عبد اللّه الخثعمي ومن حديث أبي بكرة، وأخرج الدارمي مثله من حديث أبي قتادة وقال الإمام محمد بن أبي جمرة: هذا يدل على أن من يراه في النوم فسيراه في اليقظة، وان رؤيته بصفته المعلومة إدراك الحقيقة، ورؤيته على غير صفته إدراك للخيال.
هذا، وقد جاء في الخبر: «ما من مسلم يسلم عليّ إلا ردّ اللّه تعالى عليّ روحي حتى أرد عليه السلام».
وأخرج بن عدي عن أنس: «بينا نحن مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذ رأينا بردا ويدا، فقلنا يا رسول اللّه ما هذا البرد الذي رأينا واليد؟ قال قد رأيتموه؟ قالوا نعم، قال ذلك عيسى بن مريم سلم علي».
وفي رواية ابن عسكر عنه «كنت أطوف مع النبي صلى الله عليه وسلم حول الكعبة إذ رأيته صافح شيئا لم أره، قلنا يا رسول اللّه رأيناك صافحت شيئا ولا نراه، قال ذلك أخي عيسى بن مريم انتظرته حتى قضى طوافه فسلمت عليه».
فهذه الأحاديث وغيرها تدل دلالة واضحة على صحة الاجتماع بحضرة الرسول والأخذ عنه، ولا بدع فقد جاء بالقرآن العظيم خطاب الملائكة لمريم في الآية 45 ولزكريا في الآية 39 من آل عمران في ج 3 ولإبراهيم ولوط في الآية 69 فما بعدها من سورة هود المارة وغيرها، وثبتت رؤية الملائكة لكثير من أصحاب رسول اللّه بغير هورهم الحقيقية، وإن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قالوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} الآية 30 من سورة السجدة المارة تقيد جواز نزول الملائكة على غير الأنبياء.
أما صفة ذاته الشريفة التي يجتمع بها من يراه وكيفية حياته في البرزخ وردّ روحه إليه كما جاء في الحديث فلا يعلم حقيقتها إلا اللّه تعالى، والصحيح أن عيسى عليه السلام قد يوحى إليه كما في حديث مسلم وغيره عن النواس بن سمعان، وجاء في رواية صحيحة: «فبينما هو كذلك إذ أوحى اللّه تعالى يا عيسى إني أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم، فحوّل عبادي إلى الطور» (أي لا قدرة ولا طاقة يقال ما لي بهذا الأمر يد ولا يدان لأن المباشرة والدفاع إنما يكونان باليد واليدين فكأن يديه معدومتان لعجزه عن الدفع بهما) وذلك الوحي على لسان جبريل عليه السلام وما جاء في الخبر: (ألا لا وحي بعدي) باطل لا أصل له، وكذلك ما اشتهر أن جبريل عليه السلام لا ينزل إلى الأرض بعد وفاه النبي صلى الله عليه وسلم باطل لا أصل له أيضا، ويرده خبر الطبراني: «ما أحب أن يرقد الجنب حتى يتوضأ فإني أخاف أن يتوفى وما يحضره جبريل عليه السلام».
فإنه يدل على أن جبريل ينزل إلى الأرض ويحضر موت كل مؤمن توفاه اللّه على الإيمان وهو على طهارته، ومن نفى الوحي أراد نفى وحي التشريع وهو كذلك، لأن ما ذكر من الوحي وحي لا تشريع فيه، لأن شريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم باقية إلى الأبد، وان عيسى عليه السلام يحكم فيها ويبقى في الأرض أربعين سنة وقيل سبع سنين تتمة الثلاث والثلاثين سنة التي مكثها قبل رفعه واللّه أعلم، راجع الآية 55 من سورة المؤمن المارة لتقف على ما يتعلق في هذا البحث، وان المهدي يقدمه للصلاة فيقول له إنما أقيمت لك ويصلي خلفه بما يدل على دفع توهم نزوله ناسخا بل متبعا لشريعة محمد ومؤيدا كونه مفتديا بشريعته، وما عدا هذه الصلاة يكون هو الإمام دائما، لأنه صاحب الوقت ولا يجوز أن يتقدم عليه أحد، وان الدنيا ستيتهج بأهلها مدة مكثه، ثم أنه عليه السلام يموت ويصلي عليه المؤمنون ويدفن بالحجرة الشريفة في الحرم النبوي.
وما بعده من خير لأهل الأرض وإذ ذاك يكون بطنها خيرا من ظهرها، لأن موته عليه السلام علامة على قرب الساعة وهو حق واقع لا محالة {فَلا تَمْتَرُنَّ بِها} لا تشكوا بها أيها الناس إذ لا محل للشك في نزول عيسى ولا موته بعد إقامته المدة المقدرة له في الدنيا، قال تعالى: {وَاتَّبِعُونِ} إيها الناس واهتدوا بهداي وتمسكوا برسلي وتعبدوا بشرعي {هذا} الذي أدعوكم إليه على لسان رسلي {صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ} 61 يوصل إلى النجاة فإياكم أن تنحرفوا عنه {وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ} عن سلوك هذا الطريق السوي ولا تسمعوا لوساوسه بعدم التصديق بما جاءكم في كنابي وعلى لسان رسولي وعدم الإيمان بي {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} 62 عداوته من زمن آدم فاحذروه وتباعدوا عنه لا يوقعنكم بأشراكه فتندموا.

.مطلب في عيسى عليه السلام أيضا وفي الصحبة وماهيتها ووصف الجنة وهل فيها توالد أم لا؟

قال تعالى حاكيا عن سيدنا عيسى عليه السلام زمن إرساله الأول بمناسبة ذكر نزوله {وَلَمَّا جاءَ عِيسى} قومه {بِالْبَيِّناتِ} التي أظهرها اللّه على يديه من إبراء الأكمه والأبرص وشفاء المرضى وإحياء الموتى وغيرها {قال} إلى قومه المرسل إليهم {قَدْ جِئْتُكُمْ} يا بني إسرائيل {بِالْحِكْمَةِ} العدل والحلم والعلم والإنجيل والنبوة {وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ} في الكتاب المنزل علي من ربي عز وجل {بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} من التوراة في أمر الدين والدنيا، وقال في الآية 50 من آل عمران في ج 3 {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} وكان عليه السلام غابة همه في الدعوة ما يتعلق بأمر الدين لأنه عن الدنيا بمعزل لذلك لم يبالغ في أمر الدنيا ولم يلتفت إليها ولم يلفت نظرهم إليها {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} 63 فيما آمركم وأنهاكم وإني أقول لكم {إِنَّ اللَّهَ} فاطر السموات والأرض {هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ} لأني بشر مثلكم قد فضلني بالنبوة والرسالة {فَاعْبُدُوهُ} كما أنا أعبده وحده {هذا} الذي أنا عليه من التوحيد الذي أدعوكم إليه هو {صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ} 64 يوصلكم إلى الجنة إن تمسكتم بعبادة ربكم الواحد {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} من بين من بعث إليهم من اليهود والنصارى وتحزبوا عليه وهموا بقتله وهم اليعقوبية والنسطورية والملكانية والشمعونية الذين كانوا في زمنه، وقدمنا شيئا من هذا في الآية 165 من الأعراف في ج 1، {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} أنفسهم وغيرهم بالإنكار على عيسى والإصرار على قتله {مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} 65 في الآخرة راجع الآيتين 33، 34 من سورة مريم في ج 1، قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ} قوم عيسى بإصرارهم على الكفر به وقتله {إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} على حين غرة من انهماكهم في هذه الدنيا {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} بها وإذ ذاك يرون سوء صنيعهم فيه. وإلى هنا انتهى ما جاء في حق عيسى عليه السلام.
قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ} على المعاصي في الدنيا {يَوْمَئِذٍ} يوم تقوم الساعة ويقفون في الموقف يكون {بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} فيه، لأن كلّا منهم يحمل على صاحبه وخليله بما حل به من العذاب، فيقول له أنت الذي سببته لي {إِلَّا الْمُتَّقِينَ} 67 الذين تحابوا في الدنيا على تقوى اللّه وتخاللوا من أجله فهؤلاء ينتفعون بها بالآخرة فيشفعون لبعضهم كما انتفعوا بها في الدنيا بأمر بعضهم بعضا بالمعروف ونهيهم عن المنكر ويرون ثواب ما كانوا مجتمعين عليه ويتناصحون فيه، راجع الآية 63 من سورة يونس المارة والآية 31 من سورة إبراهيم الآتية في بحث الصداقة، ويقول اللّه تعالى لهؤلاء {يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} مما يخاف الناس العصاة من أهوال يوم القيامة {وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} 68 على ما فاتكم في الدنيا، قال المعتمر بن سليمان إن الناس حين يبعثون ليس منهم أحد إلا فزع، فينادى يا عبادي، فيرجوها كل أحد، فيتبعها قوله عز قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا} التي أظهرناها على أيدي رسلنا {وَكانُوا مُسْلِمِينَ} 69 لنا منقادين لأوامرنا، فييأس الكفار ويقفون حائرين مبهوتين، ويقال لهؤلاء المؤمنين {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ} المؤمنات {تُحْبَرُونَ} 70 تسرون فيها وتنعمون بنعيمها فيظهر على وجوههم آثار الفرح والسرور والرضاء.
ثم {يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ} جمع صحيفة أواني الطعام {مِنْ ذَهَبٍ} بيان لنوعها وجنسها {وَأَكْوابٍ} أوانى الشرب من ذهب أيضا، ولما كان الطعام عادة أكثر من الشراب جمع الصحاف جمع كثرة والأكواب جمع قله {وَفِيها} أي الجنة التي أدخلوها {ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} من المأكول والمشروب والملبوس والمنام والنساء وغيرها، وجاء هنا ذكر لذة العين التي هي جاسوس النفس بعد اشتهائها تخصيص بعد تعميم كما ذكر أولا الوصف الشامل لكل لذة ونعيم بعد ذكر الطواف بأواني الذهب الذي هو بعض من النعيم والترفه تعميم بعد تخصيص، قال تعالى: {وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ} 71 أبدا لا تتحولون عنها {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ} العظيمة بهية المنظر منعشه الأرواح {الَّتِي أُورِثْتُمُوها} شبه اللّه تعالى ما استحقوه بأعمالهم الصالحة من الجنة ونعيمها الباقي لهم، بما يخلفه الرجل لوارثه من الأملاك والأموال، ويلزم من هذا التشبيه تشبيه العمل نفسه بالمورث بكسر الراء فاستعير الميراث لما استحقوه، ثم اشتق أورثتموها فيكون هناك استعارة تبعية، وقيل تمثيلية، وجاز أن تكون مكنية، فالتبعية هي التي لا تجري الاستعارة فيها ابتداء غير اسم الجنس بل تبعا، وردها السكاكي إلى المكنية، وهي لفظ المشبه به المتروك المستعمل في المشبه المرموز إليه بذكر لازمه كلفظ السبع المتروك في قولنا: أظفار المنية نشبت بفلان، والتمثيلية هي الهيئة الحاصلة في الذهن المنتزعة من عدة أمور نحو إني أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى، لمن يتردد في الفتوى والأمر، ولكل أقسام مذكورة في محلها، وقد فسرها الخطيب بغير هذه التفاسير، ومن أراد تمام الاطلاع على هذا فليراجع علم البيان.
هذا، ويقول اللّه تعالى قوله وقد جعلت لكم الجنة ميراثا {بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 72 بسبب عملكم الطيب في الدنيا ونعم الميراث الجنة الدائمة من الدنيا الفانية يا عبادي الأبرار {لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ} لا يحصى نوعها ولا جنسها فهي ألوان وأشكال وطعمها متنوع لا يقدر أن يصفها واصف ولا يعدها عاد {مِنْها تَأْكُلُونَ} 73 متى اشتهيتم بلا تعب ولا ثمن، أخرج الترمذي عن عبد الرحمن بن سابط قال: «قال رجل يا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هل في الجنة خيل فإني أحب الخيل؟ قال إن يدخلك اللّه الجنة فلا تشاء أن تركب فرسا من يا قوتة حمراء فتطير بك في أي الجنة شئت إلا فعلت».
وسأله آخر فقال: «يا رسول اللّه هل في الجنة من إبل فإني أحب الإبل؟ قال فلم يقل له ما قال لصاحبه فقال إن يدخلك الجنة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك».
وجاء في حديث آخر أنه «لا ينزع أحد في الجنة من ثمرها ثمرة إلا بنت مكانها مثلها».
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أحد إلّا وله منزل في الجنة ومنزل في النار، فالكافر يرث المؤمن منزلته في النار والمؤمن يرث الكافر منزلته في الجنة وذلك قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ} الآية»، وقدمنا ما يتعلق في هذا في الآية 43 من سورة الأعراف وله صلة في الآية 32 من سورة النحل الآتية.
وأخرج هناد وعيد بن حميد في الزهد عن ابن مسعود قال: تجوزون الصراط يعفو اللّه، وتدخلون الجنة برحمة اللّه، وتقتسمون المنازل بأعمالكم.
أي بفضل اللّه لأن الأعمال وحدها لا تكفي، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل أحدكم الجنة».